إنّه “كوب التمويل”، هكذا يُطلق على مؤتمر المناخ هذا العام “كوب 29″، المنعقد في العاصمة الأذربيجانية باكو. فمنذ التحضيرات الأولية للمؤتمر وحتى اليوم، يترقب الجميع النتائج التي ستسفر عنها المفاوضات. لكن حتى اللحظة، يبدو المشهد في باكو مخيباً للآمال، إذ تتفاقم الفجوة بين مطالب المجتمع المدني والدول النامية من جهة، وضعف الإرادة السياسية للدول المتقدمة التي تتحمل المسؤولية التاريخية بسبب انبعاثاتها من جهة أخرى.
يصف الصحافي والباحث البيئي حبيب معلوف المؤتمر بأنه “فاشل مئة في المئة” إذا ما أخذنا بالاعتبار عنوانه الأساسي، وهو التمويل. ويضيف: “إذا اعتبرنا أنه متابعة للمؤتمر السابق الذي ركّز على الابتعاد من الوقود الأحفوري، فهو أيضاً فاشل”. معلوف، الذي يرأس الوفد اللبناني إلى القمة في ظل غياب وزير البيئة ناصر ياسين بسبب ظروف الحرب على لبنان، يشير إلى أن قضايا التمويل دائماً ما تكون محل خلاف بين الدول المتقدمة والنامية. ويوضح: “التركيز بالدفع كان دائماً على التخفيف (Mitigation)، لكن الدول النامية اليوم تطالب بالتعويض عن الأضرار والخسائر (Loss and Damage)”.
يمتدّ هذا الإحباط إلى رودا بواتينغ من الاتحاد الدولي لنقابات العمال، التي ذكرت في مقابلة لموقع “درج”، أنّ “الأمر محبط للغاية. ليس فقط في هذا المؤتمر، ولكن أيضاً في التحضيرات السابقة له. يبدو أن هناك الكثير من الحديث، ولكن هناك التزام سياسي قليل جداً. والأسوأ من ذلك، نرى في هذا المؤتمر مستويات منخفضة للغاية من الدعم السياسي، لأنك إذا نظرت إلى الدول الرئيسية هنا، ستجد أن قياداتها السياسية ليست حتى حاضرة. وهذه مشكلة كبيرة لأن الأسئلة المتعلقة بالتمويل هي أساسية جداً. هذا المؤتمر تم الترويج له على أنه مؤتمر لتمويل المناخ. مجرد حقيقة أننا لا نرى التزاماً كبيراً من القيادات السياسية تخبرنا عن مدى اهتمامهم الحقيقي. أعتقد أن الدول المتقدمة والصناعية لا تبذل الجهد الذي نتوقعه منها تجاه الدول النامية”.
مع دخول مؤتمر كوب 29 مرحلته الأخيرة، صدرت مسودة النص الختامي للكوب الذي خيّب آمال الدول النامية، إذ فشل في تحديد رقم ملموس للمبلغ المتوقع في تمويل المناخ، بحسب مبادرة معاهدة عدم انتشار الوقود الأحفوري.
أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في مؤتمره الصحافي في كوب 29 في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر، أنّ هناك “رغبة في الوصول إلى اتفاق. بدأت مجالات التقارب تتضح، لكن لا تزال هناك خلافات قائمة. نحتاج إلى دفعة كبيرة لإنهاء المناقشات والوصول إلى خط النهاية… تقديم حزمة طموحة ومتوازنة تشمل جميع القضايا العالقة، مع وضع هدف مالي جديد في صميمها. الفشل ليس خياراً”.
مطالب الجنوب العالمي
تطالب مجموعة الـ 77 والصين، التي تمثل حوالى 80 في المئة من سكان العالم وتضمّ الدول النامية، الدول المتقدمة بتوفير ما لا يقل عن 1.3 تريليون دولار سنوياً لدعم التخفيف والتكيف ومعالجة الخسائر والأضرار الناتجة من تغير المناخ. في المقابل، تدعو منظمات دولية مثل أوكسفام إلى تخصيص 5 تريليونات دولار لهذا الغرض. أما الدول المتقدمة، فهي في مكانٍ آخر وتقدم أرقاماً متدنية لا تتعدى 200 مليار دولار سنوياً وفق الإعلام الأوروبي، أي مضاعفة الرقم الذي اتُّفق عليه عام 2009 منذ 15 سنة! وهو رقم بعيد جداً من الاحتياجات الفعلية ويتجاهل كل التغيرات والارتفاع في درجات الحرارة والاحتباس الحراري والفيضانات والجفاف وغيرها من الكوارث البيئية التي تعصف في جميع أصقاع العالم!
إذاً، هي مواجهة بين مجموعة الدول الـ 77 والصين (G77+China) من جهة، ومجموعة العشرين (G20) التي عقدت قمتها في ريو دي جانيرو بالبرازيل بالتزامن مع مؤتمر كوب 29 من جهة أخرى. إنها معركة بين دول الجنوب التي استُغلت مواردها تاريخياً، ودول الشمال التي استعمرت ونهبت وأرهقت موارد الدول الفقيرة، لكنها اليوم ترفض تحمّل مسؤولياتها تجاه الأزمة المناخية.
في إحدى جلسات المؤتمر، أكدت صفاء الجيوسي، مستشارة إقليمية للعدالة المناخية في أوكسفام الدولية، أن أغنى الدول مسؤولة عن 92 في المئة من الانبعاثات الزائدة. وأضافت: “الدول الشمالية بنت ثروتها على الاستعمار واستغلال الطبيعة والناس في الجنوب العالمي. نحن نعيش في عالم يعيش فيه أكثر من 5 مليارات شخص في فقر. بناءً على هذه الحقائق، تدعو أوكسفام وغيرها من المنظمات إلى دفع 5 تريليونات دولار كدين مناخي وتعويضات للدول النامية والمجتمعات المتضررة التي تقف على الخطوط الأمامية لأزمة المناخ”.
الجيوسي شددت أيضاً على ضرورة وقف الحروب التي تستنزف الموارد المالية قائلة:
“بدلاً من الاستثمار في إنقاذ الأرواح وتعزيز الصمود المناخي، تُنفق الدول الأموال على الأسلحة التي تغذي الحروب. هذه الأموال مسروقة من العمل المناخي ومن مكافحة الفقر والجوع”.
ورقة موقف المجتمع المدني العربي
أصدر المجتمع المدني في المنطقة العربية ورقة موقف من مفاوضات الكوب 29، تضمنت مطالب أساسية عدة، أبرزها: اعتبار الخسائر والأضرار ركيزة ثالثة مستقلة للعمل المناخي (إلى جانب التخفيف والتكيف)، وليست مجرد فرع من التكيف. بالإضافة إلى إعادة تقييم حجم التمويل المطلوب لمواجهة الكوارث المناخية المتزايدة، وضرورة إعادة النظر بقيمة الخسائر والأضرار، خصوصاً بعد زيادة حجم الكوارث الناتجة من التغيّر المناخي، ونظراً الى أنّ تقديرات الحاجة إلى 100 مليار دولار سنوياً تعود إلى قمة كوبنهاغن للمناخ عام 2009، على أن يتم دفعها بدءاً من عام 2020 بحسب اتفاقية باريس لعام 2015. ومع ذلك، لم يتم دفع هذه المبالغ حتى الآن. وقدرت التقييمات العالمية، التي تم تبنيها في COP28، أن احتياجات التمويل للتكيف تتجاوز 387 مليار دولار سنوياً بحلول عام 2030. وفي الوقت نفسه، توقعت دراسة أجرتها “التعاون بشأن الخسائر والأضرار”، أن تكلفة الخسائر والأضرار ستتجاوز الـ400 مليار دولار سنوياً بعد عام 2030، بحسب ورقة الموقف.
من مطالبات ورقة الموقف أيضاً إنشاء آليات جديدة لتمويل المناخ تشمل ضرائب الكربون والمناخ على القطاعات الرئيسية المسببة للكوارث المناخية مثل الوقود الأحفوري.
في هذا السياق، يقول حبيب معلوف، أحد معدّي ورقة الموقف، لموقع “درج”، “بالنسبة لنا كمجتمع مدني عربي ستكون كلفة الخسائر والأضرار أكبر بكثير من التكيف ومن التخفيف. بعد بداية الكوارث الطبيعية الحقيقية أخيراً، بدأ رقم الخسائر ينكشف وهو بالتريليونات”.
تشير ورقة الموقف إلى أنّ الآليات التمويلية المقترحة حالياً تفرض أعباء ديون على دول الجنوب التي تحاول التعافي من الكوارث المناخية الناتجة من الانبعاثات التي لم تساهم فيها. كما تتطرق الورقة إلى ضرورة أن يكون التمويل المناخي إلزامياً لا تطوعياً.
تشدّد الجيوسي من منظّمة أوكسفام، في مقابلة لموقع “درج”، على “ثلاثة أهداف فرعية التكيف والتخفيف وصندوق الخسائر والأضرار”، وعلى ضرورة أنّ تكون الأموال على شكل منح وليس قروض.
“بالنسبة إلي، لست متفائلة. لكن هذا يدعونا فقط إلى الاستمرار في الضغط. وهذا ما نواصل القيام به. أعتقد أنه أصبح أكثر أهمية الآن أن نتحدث معاً ككتلة واحدة، كدول نامية وجنوب عالمي”، بحسب رودا بواتينغ من الاتحاد الدولي لنقابات العمال.
يعكس مؤتمر كوب 29 استمرار الفجوة وتعاظمها بين الشمال والجنوب العالميين في ما يتعلق بالتمويل والمسؤوليات التاريخية. ومع غياب الالتزام السياسي الحقيقي من الدول المتقدمة، يبقى الأمل محدوداً بنتائج مؤتمر المناخ هذا العام.
أُنجز هذا التقرير بدعم من برنامج “قريب” الذي تنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الإعلامية CFI وتموله الوكالة الفرنسية للتنمية AFD.