ثلاثةُ شهورٍ مرّت من دون مغادرة نور الهدى (26 عاماً) وهي ممرضة في مستشفى الكاظمية التعليمي، قسم الأمراض الوبائية والباطنية والطوارئ الجراحية، حيثُ تعمل.
تشعر أنها غير قادرة على العودة إلى البيت، خوفاً من نقل الوباء إلى المنزل وخوفاً على أسرتها، “لذا أقمت في المستشفى 3 أشهر، لأداء عملي ومهمتي في التمريض”.
أُصيبت نور الهدى هي الأخرى بفايروس كورونا، كحال الكثير من العاملين في القطاع الطبي، بسبب قلة مستلزمات الوقاية في المستشفيات العراقية. تقول: “يوم 13 حزيران/ يونيو بعد تأكّد إصابتها، انتقلت إلى الحجر في قسم الأمراض الباطنية، حيث استحدث قسم خاص بالحجر الصحي للمصابين بفايروس كورونا، ومنذ دخولي حتى فترة تجاوزت الخمسة أيام بقيت من دون طعام أو ماء أو حتى رعاية صحية”.
الإهمال دفع نور الهدى إلى محاولة الانتحار كما تقول، وبعدما أنقذ حياتها كادر المستشفى، نُقلت إلى مستشفى اليرموك لتُكمل فترة الحجر الصحي هناك. “حاولتُ الانتحار، وتم إنقاذي، وبعد هذه المحاولة وجهت رسالتي إلى مدير المستشفى، رجوته أن يعتبرني ابنةً له، كيف لمريض البقاء خمسة أيام أو أكثر من دون طعام أو شراب؟ كيف لي أن أتناول العقاقير الطبية على معدة خاوية؟”. وتضيف: “مدير المستشفى كان كريماً معي واستجاب إلى مناشدتي، وحصلت بعد إنقاذ حياتي على الطعام والعناية ونقلت إلى مستشفى اليرموك لحجري هناك حتى أُشفى”.
“كادر الممرضين هم الذين تخلوا عني ولم يعيروني اهتماماً حين حجرت، وموظفو الخدمات هناك لم يقدّموا الطعام لي خوفاً من أن أنقل العدوى لهم. جميع المحجورين في مستشفى الكاظمية من الكوادر الطبية كان أصدقاؤهم وزملاؤهم يحضرون لهم الطعام، بعكسي تماماً أنا الممرضة التابعة لكوادر التمريض لم ألقَ عناية لا من موظفي الخدمات هناك ولا من كادر التمريض أو المسؤولين المعنيين”.
لم ينكُر مدير مستشفى الكاظمية التعليمي عبد الرحمن اسماعيل حالة نور أو ما تعرضت له، بل قابلها بالصمت. قال لـ”درج”، “ليس كل ما يُذكر في فايسبوك حقيقياً”، مؤكداً “أن الكوادر الطبية والعاملين في المستشفيات يقومون بواجبهم على أكمل وجه”.
لكنّ نور الهدى ليست الوحيدة التي لجأت إلى السوشيل ميديا للتعبير عن معاناتها، فنساء كثيرات في الكوادر الطبية التابعة لوزارة الصحة العراقية، والعاملات في مستشفيات الحجر الصحي، يعانين بسبب غياب مستلزمات الوقاية من الوباء، التي إن وجدت تكون منتهية الصلاحية.
مستشفى الطارمية
يفتقد مستشفى الطارمية إلى أدوات الكشف عن فايروس “كورونا”، وعلى الطبيب العامل هناك أن يكتفي بتشخيص المرض من خلال الأعراض التي يعانيها المريض وحسب. فكان ذلك من أسباب سرعة انتقال المرض إلى الكوادر الطبية. تقول الدكتورة علياء عبد الرحيم العاملة في مستشفى الطارمية إن “كمية الأدوية غير الكافية لمواجهة الفايروس، والنقص الذي نعانيه في عدة الوقاية الخاصة بالأطباء، ساهما في إصابتي بالفايروس، أثناء عملي في طوارئ مستشفى الطارمية”.
ليلة الاربعاء 20 أيار/ مايو 2020، وحتى صباح الخميس 21 أيار 2020، بين هذين التاريخين شكّت علياء في إصابتها، بعد مجيء ثلاث حالات مشكوك في إصابتها إلى طوارئ المستشفى. تقول “عدت إلى المنزل يوم الجمعة، وغفوت وبعد استيقاظي شعرت بحرارة شديدة ونحول وسعال جاف وغريب. تم حجري في مستشفى ابن الخطيب بعدما تأكدت أنني مصابة أنا وأختي التي أصيبت هي الأخرى”.
نساء كثيرات في الكوادر الطبية يعانين بسبب غياب مستلزمات الوقاية من الوباء، التي إن وجدت تكون منتهية الصلاحية.
علياء كانت حريصة على عدم نقل المرض إلى أسرتها، فوالدتها مصابة بالسرطان، ما ضاعف حرصها على سلامة عائلتها، غير أن وضع مستشفيات وزارة الصحة العراقية لناحية انعدام الاهتمام بالكوادر الطبية، وإهمال الجهات المعنية الحرص على حياة العاملين في المستشفيات من أطباء وممرضين وغيرهم، ساهما في إصابتها بالفايروس.
احتجاج الكوادر الطبية
الواقع المأساوي الذي تعانيه الكوادر الطبية في العراق منذ 2003 وحتى اللحظة، وانهيار المؤسسة الطبية والصحية في البلاد، أديا إلى خروج الوضع الوبائي عن السيطرة، فضلاً عن تراجع حملات التوعية بين المواطنين. يقول الدكتور أحمد الشهيب العامل في مدينة الطب، “استعمال الكوادر الطبية معدات وقاية منتهية الصلاحية، فضلاً عن عدم توفير عدد كافٍ من المسحات، واستعمال المسحات المتوفرة بشكل غير دقيق وأحياناً بشكل غير صحيح، لعدم حصول العاملين التقنيين على ورش ودورات حول أجهزة الكشف عن الفايروس، إضافة إلى أسباب أخرى، أدّت إلى سرعة انتشار الوباء وعدم السيطرة على عدد الإصابات”.
الشهيب وأطباء آخرون حاولوا أكثر من مرة تنظيم تظاهرات احتجاجية، ويذكر أن “معدات الوقاية من بدلات وأحذية طبية وقائية، وحتى سماعات الفحص التي يستخدمها الطبيب نحن من يقوم بشرائها، وللأسف الإصابات بين الأطباء تتزايد، وحين تجرى لنا مسوح بين حين وآخر، لا نحصل على نتائجها إلا بعد 15 يوماً أحياناً”.
في هذا الإطار، يقول نقيب الأطباء عبد الأمير الشمري إن “الأطباء يعملون اليوم بضمائرهم وبدافعٍ إنساني، لكن ليس على وزارة الصحة والقائمين عليها المراهنة على ضمائر الأطباء وإنسانيتهم، فيما لم توفر الوزارة أبسط أدوات الوقاية لحماية الطبيب في زمن كورونا”. ويشير إلى أن “لهؤلاء الأطباء عائلات وأسر، وهذا السبب وحده يعطيهم الحق بالخوف على أنفسهم من انتقال العدوى إليهم من المرضى في المستشفيات، بينما لا توفر الوزارة سوى معدات منتهية الصلاحية. وهنا لن نفرق بين النساء والرجال العاملين في القطاع الطبي، فهم يتساوون في مواجهة الخطر وفي الانتهاكات التي يتعرضون لها، فحتى الآن أكثر من 200 طبيب أصيبوا بالفايروس، وقد توفي أكثر من 10 أطباء حتى الآن”.
معاناة النساء
تعاني النساء العاملات في المجال الطبي والصحي من مأساة مضاعفة في زمن “كورونا”. تذكر مروة وهي طبيبة انتقلت إلى العمل في مستشفى ابن الخطيب الذي تحول إلى مستشفى حجر صحي للمصابين بالوباء، “النساء الحوامل حتى الآن لم يحصلن على استثناء من العمل في وزارة الصحة، على رغم أنهن معرضات للإصابة، ما يضعهنّ والأجنة أمام خطر كبير”.
وفيما الطابع العشائري والقبلي في جزء كبير من البيئة المجتمعية العراقية، يمنع النساء من الكوادر الطبية من البقاء في المستشفيات بشكل متواصل لأداء عملهن، تؤكد مروة أن “النساء الطبيبات أو الممرضات صرن يبتن في المستشفيات لفترة تتجاوز الشهر والشهرين، بسبب خوفهن من نقل العدوى إلى أُسرهن”.
يمنع النساء من الكوادر الطبية من البقاء في المستشفيات بشكل متواصل لأداء عملهن.
شيماء وهي ممرضة في مستشفى مدينة الصدر، تقول: “حين أعود إلى المنزل يبتعد مني أفراد أسرتي خوفاً من أن أكون حاملة الوباء”. وتضيف: “أجد صعوبة كبيرة في الذهاب إلى المستشفى خلال أيام حظر التجوال، إذ تبتعد مسافة تتجاوز الـ11 كيلومتراً مربعاً، وأحياناً أتنقل بمركبات (التُك تُك)، التي أحتاج إلى ركوب 3 منها، للوصول إلى المستشفى، بسبب عدم تساهل القوات الأمنية معنا”.
وسط هذا الانهيار والتصاعد الكبير بالإصابات بالفايروس في العراق، وارتفاع عدد الوفيات بخاصة بين الكوادر الطبية أو “الجيش الأبيض”، ووسط ما تعانيه العاملات في هذا المجال لم يُجب المتحدث الرسمي في وزارة الصحة سيف البدر على أي اتصال أو سؤال وجهه له “درج”، الذي حاول التواصل معه بأكثر من وسيلة، إنما من دون جدوى.