fbpx

“كورونا” تونس: كيف تشرح للناس أنّ القُبَل ممنوعة؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ُمنذ إعلان الإصابة الأولى في تونس بدأت تطبيق الإجراءات الوقائية من الفايروس، على رأسها غسل اليدين، والامتناع عن التقبيل. وكنت أحسب أن الأمر هين، وأن دائرتي المجتمعية ستتفهم الأمر، لكن الحكاية لم تسِر على ما يرام

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مذ بدأ تفشي فايروس “كورونا” في تونس، تتقاطرُ علينا يومياً معلومات وزارة الصحة تفيدنا بأعداد المصابين المتزايدة، والأمر أصبح مقلقاً أكثر فأكثر ودواعي الحيطة والحذر بتنا نثرثر بها ليلاً نهاراً، حتى أصبحت معزوفة موسيقية مملة.

حتى أمي الستينية التي أعلنت صراحةً في بداية الأمر أنها لا تخشى “كورونا”، تغير موقفها فجأة وباتت حريصة على سلامتنا ربما أكثر ممّا ينبغي.

والحال في تونس، لهفة على كل شيء، مواد غذائية ومواد تنظيف أما طوابير الانتظار أمام الصيدليات فحدث ولا حرج. 

هذا الوضع “الجنوني” حرّك في أمي “الحس الإبداعي”، وباتت بعد نفاد كمية القفازات من الصيدليات تصنعُ من الأكياس البلاستيكية قفازات، ولا تخرج من دون أن ترتدي زوجين منها، ولا تهتم لما قد تقوله صديقاتها.

 أخبرتني أنّ جارتها غضبت منها لأنها امتنعت عن تقبيلها في السوق وكان جواب أمي حاسماً: “أختي أنا خايفة على بنتي… أما أنا كفاية الي عشته”.

لم تكتفِ أمي بصناعة القفازات، بل ها هي تخطّط لتوسيع نشاطها والمباشرة بصنع كمامات، بدل تلك التي نشتريها بثلاثة دنانير للواحدة. ودخلت في حقل التجارب محاولة خياطة الأقمشة القديمة على شكل كمامات.

جاءتني منذ أيام غاضبة، مقتحمة غرفتي: “من غير المعقول أن نشتري كل يوم كمامتين بـ6 دنانير. أنت التزمي البيت تستطيعين إفادة العالم من غرفتك أما أنا فمجبرة على الذهاب إلى العمل لأن أصحابه ألمان”، مضيفة: “ما هذا الاختراع الفاشل الذي تنتهي صلاحيته في يوم واحد!”.

اخترقت صمتنا وحضنته مرة أخرى لكن هذه المرة عن وعي وإرادة، بعدما فكرت لثلاثين ثانية، هل ستستقيم الحياة من بعده في حال رحل بسبب “كورونا” أو لأي سبب آخر؟ هل سيحلو لي العيش وإن كنت سليمة في دنيا لا يكون هو فيها؟

طبعاً أنا أمكث في البيت منذ عشرة أيام تقريباً، وخففت تحرّكاتي قدر الإمكان، وباتت تنقلاتي تقتصر على الأمور الضرورية كشراء الطعام أو مقابلة بعض مصادر المعلومات…

منذ إعلان الإصابة الأولى في تونس بدأت تطبيق الإجراءات الوقائية من الفايروس، على رأسها غسل اليدين بانتظام بعد كل نشاط، والامتناع عن التقبيل. نعم امتنعت عن التقبيل وكنت أحسب أن الأمر هين، وأن دائرتي المجتمعية ستتفهم الأمر، لكن الحكاية لم تسِر على ما يرام، وكانت عليّ مواجهة اعتراضات على الحصار الذي فرضته على وجهي وشفتيّ!

ولأنني أسكن في مدينة ساحلية منذ الطفولة، ولم أفارقها لا أنا ولا عائلتي الممتدة فيها، لذلك من الطبيعي أن أقابل يومياً على الأقل ثلاثة أشخاص من عائلتي ومعارفي في الشارع، أو حتى حين أقوم بنزهة على شاطئ البحر.

ابنة عمي كانت الضحية الأولى… وحبيبي الدرس القاسي!

لم أبتعد من منزلي سوى عشرة أمتار حيث دكان البقالة، وجدت ابنة عمي تسبقني إلى هناك. صرخت في وجهي: “خولة تغير شكلك أقسم أنني لم أعرفك في البداية… تغيرت بالشعر الأحمر”. 

همت بتقبيلي وتمنّعت. تحولت فجأة ابتسامتها الضاحكة إلى وجه عبوس مستعد لقتلي، لربما من شد الإهانة التي شعرت بها. 

غيرت مكان البقالة وتراجعت عن الشراء من هناك واضطررت إلى المجازفة بأمتار إضافية لعلَني لا أجد أحداً يعرفني وأستطيع أخيراً شراء بعض القهوة التي نفدت من مخزون البيت.

وإذ بي في المحل الجديد أصادف إحدى قريبات والدتي، التي لم أستطع صدَها عنَي. لا أعرف كيف ارتمت في أحضاني فجأة وهي تصرخ: “متى سأزوجك لابني… فكَري جيداً قبل أن يتفشى الكورونا”.

وأرسلت قهقهةً غريبة ثم عطسة مرعبة وقف بعدها خفقان قلبي. كيف لا وهي التي وصلت من باريس منذ يومين. تلك البؤرة المتطورة للفايروس.

لم أتمالك نفسي وقررت تأدية دور الناصحة والمرشدة وقلت إنّ علي تنبيهها، لعلّها تأخذ بعض الاحتياطات، فإن كانت تفكّر أن بإمكانها تزويجي لابنها على باب محل للمواد الغذائية، فهي من دون شك قادرة على نشر عدوى “كورونا” لعشرات الأشخاص.

صرخت في وجهها بشجاعة: “عزيزتي عليك أن تكفي عن التقبيل لأن قبلة قد تودي بحياتك وحياة ابنك”. 

اهتزت المرأة وشحب وجهها وارتفعَ حاجباها، إنما لعلّها استوعبت ما قلته وتعلّمت شيئاً مفيداً.

اشتريت ما أحتاجه بصعوبة بعد ذلك، وشعرت بأن حالتي النفسية بدأت تتأزّم.

لم أكن قد شربت قهوتي بعد، وكانت رائحة عطرها ما زالت تتسلل في أنفاسي وتكاد تخنقني. هممت بالعودة إلى البيت أجر أذيال الرعب، ورن هاتفي وأبلغني حبيبي أنه آتٍ ليراني.

وهنا الامتحان الحقيقي، هل سأقبِّله أم سأطبِّق عليه تعليماتي الصارمة؟ واشتياقي له هل سيزلزل التعليمات الصحية؟ 

 كيف لا وهو الذي أخبرني أن زميليه في العمل قابلا ناشطة مجتمع مدني إيطالية كانت حاملة للفايروس الأسبوع الماضي، وتسللت وسط عشرات الناشطين التونسيين خلال حفلة خاصة، من دون أن تخبرَ أياً منهم بأنها مصابة. زرعت بينهم الفايروس بدم بارد وعادت إلى بلادها وكأنَ شيئاً لم يكن. والعشرات منهم الآن في الحجر الصحي الذاتي.

جاءَ حبيبي مبتسماً ووجدني جالسةً على الشاطئ في انتظاره.

 والغريب أنني تمالكت نفسي ولم أقترب منه حتى أقبّله، لكنه فعلها وقبَلني على وجنتيّ.

وكانت برهةً بطعم حلوى الكرز، لذيذة المذاق، جمعت مشاعر متناقضة بين الإحساس باللذة والخوف مما سيأتي بعد القبلة.

ضحك وقاطع الصمت قائلاً: “قبلاتك باردة لماذا لم أشعر بها؟ أين حرارة اللقاء؟”. انفجرت في وجهه ضاحكة وعلا صوتي بطريقة حادة: “ماذا لو كنت تحمل الفايروس؟”.

اخترقت صمتنا وحضنته مرة أخرى لكن هذه المرة عن وعي وإرادة، بعدما فكرت لثلاثين ثانية، هل ستستقيم الحياة من بعده في حال رحل بسبب “كورونا” أو لأي سبب آخر؟ هل سيحلو لي العيش وإن كنت سليمة في دنيا لا يكون هو فيها؟

وهنا صفعتُني وحدثتُني بكلَ صراحة، “كفي عن توجيه الناس ونصحهم وإرشادهم، الأولى بك أن تعزلي نفسك عن حبيبك، إن كنت حقاً لا تريدين قبلاً وعناقات مثل الجميع! إن كنت ترينها فعلاً أخطر من الرصاص!”.

22.03.2020
زمن القراءة: 4 minutes

ُمنذ إعلان الإصابة الأولى في تونس بدأت تطبيق الإجراءات الوقائية من الفايروس، على رأسها غسل اليدين، والامتناع عن التقبيل. وكنت أحسب أن الأمر هين، وأن دائرتي المجتمعية ستتفهم الأمر، لكن الحكاية لم تسِر على ما يرام

مذ بدأ تفشي فايروس “كورونا” في تونس، تتقاطرُ علينا يومياً معلومات وزارة الصحة تفيدنا بأعداد المصابين المتزايدة، والأمر أصبح مقلقاً أكثر فأكثر ودواعي الحيطة والحذر بتنا نثرثر بها ليلاً نهاراً، حتى أصبحت معزوفة موسيقية مملة.

حتى أمي الستينية التي أعلنت صراحةً في بداية الأمر أنها لا تخشى “كورونا”، تغير موقفها فجأة وباتت حريصة على سلامتنا ربما أكثر ممّا ينبغي.

والحال في تونس، لهفة على كل شيء، مواد غذائية ومواد تنظيف أما طوابير الانتظار أمام الصيدليات فحدث ولا حرج. 

هذا الوضع “الجنوني” حرّك في أمي “الحس الإبداعي”، وباتت بعد نفاد كمية القفازات من الصيدليات تصنعُ من الأكياس البلاستيكية قفازات، ولا تخرج من دون أن ترتدي زوجين منها، ولا تهتم لما قد تقوله صديقاتها.

 أخبرتني أنّ جارتها غضبت منها لأنها امتنعت عن تقبيلها في السوق وكان جواب أمي حاسماً: “أختي أنا خايفة على بنتي… أما أنا كفاية الي عشته”.

لم تكتفِ أمي بصناعة القفازات، بل ها هي تخطّط لتوسيع نشاطها والمباشرة بصنع كمامات، بدل تلك التي نشتريها بثلاثة دنانير للواحدة. ودخلت في حقل التجارب محاولة خياطة الأقمشة القديمة على شكل كمامات.

جاءتني منذ أيام غاضبة، مقتحمة غرفتي: “من غير المعقول أن نشتري كل يوم كمامتين بـ6 دنانير. أنت التزمي البيت تستطيعين إفادة العالم من غرفتك أما أنا فمجبرة على الذهاب إلى العمل لأن أصحابه ألمان”، مضيفة: “ما هذا الاختراع الفاشل الذي تنتهي صلاحيته في يوم واحد!”.

اخترقت صمتنا وحضنته مرة أخرى لكن هذه المرة عن وعي وإرادة، بعدما فكرت لثلاثين ثانية، هل ستستقيم الحياة من بعده في حال رحل بسبب “كورونا” أو لأي سبب آخر؟ هل سيحلو لي العيش وإن كنت سليمة في دنيا لا يكون هو فيها؟

طبعاً أنا أمكث في البيت منذ عشرة أيام تقريباً، وخففت تحرّكاتي قدر الإمكان، وباتت تنقلاتي تقتصر على الأمور الضرورية كشراء الطعام أو مقابلة بعض مصادر المعلومات…

منذ إعلان الإصابة الأولى في تونس بدأت تطبيق الإجراءات الوقائية من الفايروس، على رأسها غسل اليدين بانتظام بعد كل نشاط، والامتناع عن التقبيل. نعم امتنعت عن التقبيل وكنت أحسب أن الأمر هين، وأن دائرتي المجتمعية ستتفهم الأمر، لكن الحكاية لم تسِر على ما يرام، وكانت عليّ مواجهة اعتراضات على الحصار الذي فرضته على وجهي وشفتيّ!

ولأنني أسكن في مدينة ساحلية منذ الطفولة، ولم أفارقها لا أنا ولا عائلتي الممتدة فيها، لذلك من الطبيعي أن أقابل يومياً على الأقل ثلاثة أشخاص من عائلتي ومعارفي في الشارع، أو حتى حين أقوم بنزهة على شاطئ البحر.

ابنة عمي كانت الضحية الأولى… وحبيبي الدرس القاسي!

لم أبتعد من منزلي سوى عشرة أمتار حيث دكان البقالة، وجدت ابنة عمي تسبقني إلى هناك. صرخت في وجهي: “خولة تغير شكلك أقسم أنني لم أعرفك في البداية… تغيرت بالشعر الأحمر”. 

همت بتقبيلي وتمنّعت. تحولت فجأة ابتسامتها الضاحكة إلى وجه عبوس مستعد لقتلي، لربما من شد الإهانة التي شعرت بها. 

غيرت مكان البقالة وتراجعت عن الشراء من هناك واضطررت إلى المجازفة بأمتار إضافية لعلَني لا أجد أحداً يعرفني وأستطيع أخيراً شراء بعض القهوة التي نفدت من مخزون البيت.

وإذ بي في المحل الجديد أصادف إحدى قريبات والدتي، التي لم أستطع صدَها عنَي. لا أعرف كيف ارتمت في أحضاني فجأة وهي تصرخ: “متى سأزوجك لابني… فكَري جيداً قبل أن يتفشى الكورونا”.

وأرسلت قهقهةً غريبة ثم عطسة مرعبة وقف بعدها خفقان قلبي. كيف لا وهي التي وصلت من باريس منذ يومين. تلك البؤرة المتطورة للفايروس.

لم أتمالك نفسي وقررت تأدية دور الناصحة والمرشدة وقلت إنّ علي تنبيهها، لعلّها تأخذ بعض الاحتياطات، فإن كانت تفكّر أن بإمكانها تزويجي لابنها على باب محل للمواد الغذائية، فهي من دون شك قادرة على نشر عدوى “كورونا” لعشرات الأشخاص.

صرخت في وجهها بشجاعة: “عزيزتي عليك أن تكفي عن التقبيل لأن قبلة قد تودي بحياتك وحياة ابنك”. 

اهتزت المرأة وشحب وجهها وارتفعَ حاجباها، إنما لعلّها استوعبت ما قلته وتعلّمت شيئاً مفيداً.

اشتريت ما أحتاجه بصعوبة بعد ذلك، وشعرت بأن حالتي النفسية بدأت تتأزّم.

لم أكن قد شربت قهوتي بعد، وكانت رائحة عطرها ما زالت تتسلل في أنفاسي وتكاد تخنقني. هممت بالعودة إلى البيت أجر أذيال الرعب، ورن هاتفي وأبلغني حبيبي أنه آتٍ ليراني.

وهنا الامتحان الحقيقي، هل سأقبِّله أم سأطبِّق عليه تعليماتي الصارمة؟ واشتياقي له هل سيزلزل التعليمات الصحية؟ 

 كيف لا وهو الذي أخبرني أن زميليه في العمل قابلا ناشطة مجتمع مدني إيطالية كانت حاملة للفايروس الأسبوع الماضي، وتسللت وسط عشرات الناشطين التونسيين خلال حفلة خاصة، من دون أن تخبرَ أياً منهم بأنها مصابة. زرعت بينهم الفايروس بدم بارد وعادت إلى بلادها وكأنَ شيئاً لم يكن. والعشرات منهم الآن في الحجر الصحي الذاتي.

جاءَ حبيبي مبتسماً ووجدني جالسةً على الشاطئ في انتظاره.

 والغريب أنني تمالكت نفسي ولم أقترب منه حتى أقبّله، لكنه فعلها وقبَلني على وجنتيّ.

وكانت برهةً بطعم حلوى الكرز، لذيذة المذاق، جمعت مشاعر متناقضة بين الإحساس باللذة والخوف مما سيأتي بعد القبلة.

ضحك وقاطع الصمت قائلاً: “قبلاتك باردة لماذا لم أشعر بها؟ أين حرارة اللقاء؟”. انفجرت في وجهه ضاحكة وعلا صوتي بطريقة حادة: “ماذا لو كنت تحمل الفايروس؟”.

اخترقت صمتنا وحضنته مرة أخرى لكن هذه المرة عن وعي وإرادة، بعدما فكرت لثلاثين ثانية، هل ستستقيم الحياة من بعده في حال رحل بسبب “كورونا” أو لأي سبب آخر؟ هل سيحلو لي العيش وإن كنت سليمة في دنيا لا يكون هو فيها؟

وهنا صفعتُني وحدثتُني بكلَ صراحة، “كفي عن توجيه الناس ونصحهم وإرشادهم، الأولى بك أن تعزلي نفسك عن حبيبك، إن كنت حقاً لا تريدين قبلاً وعناقات مثل الجميع! إن كنت ترينها فعلاً أخطر من الرصاص!”.