fbpx

“كورونا” لبنان إذ أعاد ترتيب مثلّث ماسلو

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كيف يستطيع الفرد المُفقَّر أن يؤمّن أكله إن التزم بيته؟ وهذا ما تبسّطه عبارة: “إن لم تمت من كورونا ستموت من الجوع”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في منتصف القرن الماضي أصدر عالم النفس أبراهام ماسلو رسمه البياني المثلّث الّذي يصنّف حاجات الإنسان من أهمّها في قاعدة المثلّث، إلى الأقل أهمّيةً كلّما اتّجهنا نحو الرأس، وذلك وفق خمسة أقسام: الحاجات الفيزيولوجية، الأمان، الانتماء والحاجات الاجتماعية، الحاجة إلى التقدير، وختاماً تحقيق الذات. والتقسيم هذا جدّ منطقي، مع أنّ النقد الموجّه إلى ماسلو هو أنّ لا برهان علميّاً على هرمه. والانتقال من درجة إلى أخرى نرتكبه جميعنا بشكلٍ تلقائيّ – أو حتى من دون وعي، بالفطرة؛ أي على سبيل المثال، لن أفكّر في اكتساب شهرةٍ عالميّة إن لم أُؤمّن أوّلاً وجبةَ طعامٍ على مائدتي. 

هنا، سلّمنا جدلاً بأن الوضع “طبيعي”، وأن الانتقال من درجة إلى أخرى يحدث بشكلٍ منطقيّ دون تناقض. لكن ماذا يتغيّر إن أضفنا “كورونا” وتبعاته إلى المعادلة؟ أي، ما تأثير الحجر المنزلي الإلزاميّ على مثلّث حاجاتنا؟ طبعاً من يملك ترف الحجر الرومانسيّ لن تتغيّر حاله – فالتغيّرات الّتي طرأت على حياته محصورة بمكان الممارسة، وليس بنوع الممارسة والناتج منها. أمّا من تبقّى، وهم “السواد الأعظم” من المجتمع – أقلّه مجتمعنا اللبناني حيث تقبع نصف عائلاته على خط الفقر أو أدنى، فهؤلاء هم الذين عانوا من “كورونا” بشكلٍ مزدوج؛ المعاناة الأولى هي المعاناة الصحّية الّتي أصابت الجميع، أما الثانية فهي إلزاميّة الحجر الذي لا ترف لهم عليه، وبالتالي انعدام قدرتهم على ممارسة نشاطهم اليومي في إنتاج سُبل حياتهم. لكن ما علاقة ذلك كلّه، بما ذكرناه حول ماسلو؟

يشترط هذا الأخير التراتبيّة في أقسام المثلّث وفي التنقّل ما بينها. لكن في واقعنا الكورونيّ، تقع المعضلة التالية: تشترط الحكومة على مواطنيها التزامهم منازلهم، حرصاً على صحّتهم، والصحّة، أو بالأحرى الأمان الصحيّ، تأتي في الدرجة الثانية من المثلّث. وإن أصبحنا في الدرجة الثانية، فهذا يعني أن كل ما تشمله الدرجة الأولى مؤمّن، والمأكل ضمناً. وهنا التناقض، كيف يستطيع الفرد المُفقَّر أن يؤمّن أكله إن التزم بيته؟ وهذا ما تبسّطه عبارة: “إن لم تمت من كورونا ستموت من الجوع”.

هرم ماسلو

ليس هذا التناقض اليتيم الذي قد نصادفه في حياتنا اليومية. يقول المنطق، ومعظم مناهج التفكير والفلسفة، إن التطوّر لا يحدث إلّا بوجود تناقضات، من ثمّ حل هذه التناقضات لخلق بنيةٍ أرقى فيها تناقضاتٍ أرقى، ثم حلّ هذه التناقضات الجديدة وهكذا دواليك… هنا، يتأمّل المواطن المسكين أنّ “هيئةً” ما ستتدخّل لتحل التناقض الذي وقع ضحيّته: فلا يُفتَرض أن يموت من الجوع فقط لأنّه أراد أن يحافظ على صحّته.

وهذا يشترط فعلاً، على المستوى الجماعي، وجود “هيئة” مسؤولة عن حل مثل هذه التناقضات. سوسيولوجياً، هذه هي فكرة “العقد الاجتماعي”: سنقدّم كأفراد تنازلات مقابل الحصول عليها بأشكالٍ أخرى تضمن استمرار جماعتنا، وتُنتَخب أو تُعَيّن آليّة ما لإدارة العملية. مثالياً، قد تكون الدولة هي هذه الهيئة. إلّا أن التاريخ ثمّ نقد هذا الطرح أكّدا أنّ الدولة لا تتعدّى كونها جهازاً يحكم سيطرة الطبقة الحاكمة على تلك المحكومة. المهم، نعالج هنا حالة استثنائية، ويُخَيَّل لنا أن الدولة ستضحّي بوظيفتها الطبقيّة تلك لحل التناقض الّذي يواجه مواطنيها: ذلك الناتج عن “خربطة” العلاقة بين أوّل مستوَيَين في مثلّث ماسلو. والذي هو، كما أكّد “كورونا”، مسألة حياة أو موت، حرفيّاً.

سردنا ما سردناه حتّى الآن لنقول إن “المنطق” يشترط ذلك، أي يشترط حلّاً للتناقض المذكور. لكن لا، غاب عن ذهننا أن التناقض في البنية الاجتماعية ليس محكوماً بالحل دَوماً، بل قد يكون في بعض التشكيلات الاجتماعيّة محكوماً بالاستغلال. أي، ستستغل الطبقة الحاكمة هذا التناقض لتبطش بحكمها وتؤكّد سيطرتها الاجتماعية: لبنان مثالاً. فعوضاً عن صبّ الجهود في حل معضلة تأمين المأكل وتأمين الأمان الصحّيّ في الوقت عينه للمواطنين، صُبّت الجهود في الاستفادة من هذا الظرف – إذ تعطّل مثلّث ماسلو كلّيّاً، لتمرير ما يصعُب تمريره في الظروف العادية: من أزمة الدولار إلى الودائع المحتجزة إلى لَبنَنة المعاشات المُدَولَرة إلى تمتين أحزاب السلطة شبكة علاقاتهم الزبائنيّة إلى إزالة الخيَم وتهريب العملاء إلى آخره، إلى آخره، إلى آخره.

ماذا يحدث إذاً في هذه الحالة يا ماسلو؟ لم تُجب مساهماتك على هذا السؤال، ذلك لأن مثلّثك ظلَّ يتعاطى مع الفرد على أنّه مجرَّد، من دون البحث في البعد المُجتمَعي للمسألة. ماذا نفعل عندما تشترط علينا الحكومة أن نبلغ القسم الثاني مباشرةً من دون المرور بالقسم الأول؟ المسألة معقّدة قليلاً: سيدفع الفقراء ثمن رغبتهم في البقاء على قَيد الحياة. سيزداد التفاوت الطبقي بطبيعة الحال، كَون فئة من المجتمع تعطّلت أعمالها كلّيّاً (وهي أكثر فئة “محتاجة”)، بينما تُراكم فئة أخرى المزيد من الأموال عبر الريوع – حتى لو التزمت منازلها. وسنبلغ قريباً مرحلة “التعب”، التعب من الحجر، بعد أن نكون قد استنزفنا مدخّراتنا كلّها. وستبقى الحكومة تؤجّل المساعدات التي هي أبسط حقوقنا (وتستجدي في الوقت عينه صندوق النقد الدولي للاستدانة لبناء السدود). ثمّ سنعدّل نظريّة ماسلو: فالأمان الصحّي والمأكل هما في المستوى ذاته، المستوى الأول. ثم سنلاحظ أن ما يعطّل السيرورة الطبيعيّة لحياتنا هي هذه “الهيئة” نفسها التي نرجو منها تنظيم حياتنا. ثم سنعدّل النظرية من جديد: فعمليّاً، المأكل والأمان الصحّي يأتيان في الدرجة الثانية، أما الدرجة الأولى، فهي تلك المتعلّقة ببساطة برغبة البقاء على قيد الحياة، وهذا يشترط بالضرورة هدم “الهيئة” الّتي تمنع عنا الحياة أي، المضيّ نحو عقدٍ اجتماعيٍّ جديد يعيد ترتيب حياتنا بشكلٍ عادل وكريم – هذه هي تحديداً الدرجة الأولى من مثلّث ماسلو في لبنان: هدم السلطة القائمة.

16.04.2020
زمن القراءة: 4 minutes

كيف يستطيع الفرد المُفقَّر أن يؤمّن أكله إن التزم بيته؟ وهذا ما تبسّطه عبارة: “إن لم تمت من كورونا ستموت من الجوع”.

في منتصف القرن الماضي أصدر عالم النفس أبراهام ماسلو رسمه البياني المثلّث الّذي يصنّف حاجات الإنسان من أهمّها في قاعدة المثلّث، إلى الأقل أهمّيةً كلّما اتّجهنا نحو الرأس، وذلك وفق خمسة أقسام: الحاجات الفيزيولوجية، الأمان، الانتماء والحاجات الاجتماعية، الحاجة إلى التقدير، وختاماً تحقيق الذات. والتقسيم هذا جدّ منطقي، مع أنّ النقد الموجّه إلى ماسلو هو أنّ لا برهان علميّاً على هرمه. والانتقال من درجة إلى أخرى نرتكبه جميعنا بشكلٍ تلقائيّ – أو حتى من دون وعي، بالفطرة؛ أي على سبيل المثال، لن أفكّر في اكتساب شهرةٍ عالميّة إن لم أُؤمّن أوّلاً وجبةَ طعامٍ على مائدتي. 

هنا، سلّمنا جدلاً بأن الوضع “طبيعي”، وأن الانتقال من درجة إلى أخرى يحدث بشكلٍ منطقيّ دون تناقض. لكن ماذا يتغيّر إن أضفنا “كورونا” وتبعاته إلى المعادلة؟ أي، ما تأثير الحجر المنزلي الإلزاميّ على مثلّث حاجاتنا؟ طبعاً من يملك ترف الحجر الرومانسيّ لن تتغيّر حاله – فالتغيّرات الّتي طرأت على حياته محصورة بمكان الممارسة، وليس بنوع الممارسة والناتج منها. أمّا من تبقّى، وهم “السواد الأعظم” من المجتمع – أقلّه مجتمعنا اللبناني حيث تقبع نصف عائلاته على خط الفقر أو أدنى، فهؤلاء هم الذين عانوا من “كورونا” بشكلٍ مزدوج؛ المعاناة الأولى هي المعاناة الصحّية الّتي أصابت الجميع، أما الثانية فهي إلزاميّة الحجر الذي لا ترف لهم عليه، وبالتالي انعدام قدرتهم على ممارسة نشاطهم اليومي في إنتاج سُبل حياتهم. لكن ما علاقة ذلك كلّه، بما ذكرناه حول ماسلو؟

يشترط هذا الأخير التراتبيّة في أقسام المثلّث وفي التنقّل ما بينها. لكن في واقعنا الكورونيّ، تقع المعضلة التالية: تشترط الحكومة على مواطنيها التزامهم منازلهم، حرصاً على صحّتهم، والصحّة، أو بالأحرى الأمان الصحيّ، تأتي في الدرجة الثانية من المثلّث. وإن أصبحنا في الدرجة الثانية، فهذا يعني أن كل ما تشمله الدرجة الأولى مؤمّن، والمأكل ضمناً. وهنا التناقض، كيف يستطيع الفرد المُفقَّر أن يؤمّن أكله إن التزم بيته؟ وهذا ما تبسّطه عبارة: “إن لم تمت من كورونا ستموت من الجوع”.

هرم ماسلو

ليس هذا التناقض اليتيم الذي قد نصادفه في حياتنا اليومية. يقول المنطق، ومعظم مناهج التفكير والفلسفة، إن التطوّر لا يحدث إلّا بوجود تناقضات، من ثمّ حل هذه التناقضات لخلق بنيةٍ أرقى فيها تناقضاتٍ أرقى، ثم حلّ هذه التناقضات الجديدة وهكذا دواليك… هنا، يتأمّل المواطن المسكين أنّ “هيئةً” ما ستتدخّل لتحل التناقض الذي وقع ضحيّته: فلا يُفتَرض أن يموت من الجوع فقط لأنّه أراد أن يحافظ على صحّته.

وهذا يشترط فعلاً، على المستوى الجماعي، وجود “هيئة” مسؤولة عن حل مثل هذه التناقضات. سوسيولوجياً، هذه هي فكرة “العقد الاجتماعي”: سنقدّم كأفراد تنازلات مقابل الحصول عليها بأشكالٍ أخرى تضمن استمرار جماعتنا، وتُنتَخب أو تُعَيّن آليّة ما لإدارة العملية. مثالياً، قد تكون الدولة هي هذه الهيئة. إلّا أن التاريخ ثمّ نقد هذا الطرح أكّدا أنّ الدولة لا تتعدّى كونها جهازاً يحكم سيطرة الطبقة الحاكمة على تلك المحكومة. المهم، نعالج هنا حالة استثنائية، ويُخَيَّل لنا أن الدولة ستضحّي بوظيفتها الطبقيّة تلك لحل التناقض الّذي يواجه مواطنيها: ذلك الناتج عن “خربطة” العلاقة بين أوّل مستوَيَين في مثلّث ماسلو. والذي هو، كما أكّد “كورونا”، مسألة حياة أو موت، حرفيّاً.

سردنا ما سردناه حتّى الآن لنقول إن “المنطق” يشترط ذلك، أي يشترط حلّاً للتناقض المذكور. لكن لا، غاب عن ذهننا أن التناقض في البنية الاجتماعية ليس محكوماً بالحل دَوماً، بل قد يكون في بعض التشكيلات الاجتماعيّة محكوماً بالاستغلال. أي، ستستغل الطبقة الحاكمة هذا التناقض لتبطش بحكمها وتؤكّد سيطرتها الاجتماعية: لبنان مثالاً. فعوضاً عن صبّ الجهود في حل معضلة تأمين المأكل وتأمين الأمان الصحّيّ في الوقت عينه للمواطنين، صُبّت الجهود في الاستفادة من هذا الظرف – إذ تعطّل مثلّث ماسلو كلّيّاً، لتمرير ما يصعُب تمريره في الظروف العادية: من أزمة الدولار إلى الودائع المحتجزة إلى لَبنَنة المعاشات المُدَولَرة إلى تمتين أحزاب السلطة شبكة علاقاتهم الزبائنيّة إلى إزالة الخيَم وتهريب العملاء إلى آخره، إلى آخره، إلى آخره.

ماذا يحدث إذاً في هذه الحالة يا ماسلو؟ لم تُجب مساهماتك على هذا السؤال، ذلك لأن مثلّثك ظلَّ يتعاطى مع الفرد على أنّه مجرَّد، من دون البحث في البعد المُجتمَعي للمسألة. ماذا نفعل عندما تشترط علينا الحكومة أن نبلغ القسم الثاني مباشرةً من دون المرور بالقسم الأول؟ المسألة معقّدة قليلاً: سيدفع الفقراء ثمن رغبتهم في البقاء على قَيد الحياة. سيزداد التفاوت الطبقي بطبيعة الحال، كَون فئة من المجتمع تعطّلت أعمالها كلّيّاً (وهي أكثر فئة “محتاجة”)، بينما تُراكم فئة أخرى المزيد من الأموال عبر الريوع – حتى لو التزمت منازلها. وسنبلغ قريباً مرحلة “التعب”، التعب من الحجر، بعد أن نكون قد استنزفنا مدخّراتنا كلّها. وستبقى الحكومة تؤجّل المساعدات التي هي أبسط حقوقنا (وتستجدي في الوقت عينه صندوق النقد الدولي للاستدانة لبناء السدود). ثمّ سنعدّل نظريّة ماسلو: فالأمان الصحّي والمأكل هما في المستوى ذاته، المستوى الأول. ثم سنلاحظ أن ما يعطّل السيرورة الطبيعيّة لحياتنا هي هذه “الهيئة” نفسها التي نرجو منها تنظيم حياتنا. ثم سنعدّل النظرية من جديد: فعمليّاً، المأكل والأمان الصحّي يأتيان في الدرجة الثانية، أما الدرجة الأولى، فهي تلك المتعلّقة ببساطة برغبة البقاء على قيد الحياة، وهذا يشترط بالضرورة هدم “الهيئة” الّتي تمنع عنا الحياة أي، المضيّ نحو عقدٍ اجتماعيٍّ جديد يعيد ترتيب حياتنا بشكلٍ عادل وكريم – هذه هي تحديداً الدرجة الأولى من مثلّث ماسلو في لبنان: هدم السلطة القائمة.

16.04.2020
زمن القراءة: 4 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية