لست مندهشاً من الخطاب المرعب الذي وجهه رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون، الذي قال فيه “استعدوا لفراق أحبائكم”، وبدت كلماته أشد وقعاً وخطراً من فايروس “كورونا” نفسه، إذ كشف مدى الشعبوية والأنانية المسيطرتين على زعماء الدول العظمى في التعامل مع الفايروس وقضايا شعوبهم والقضايا الكونية، وتتنكرهم لمبادئ التعاون الدولي.
جملة واحدة تكفي لبث الذعر والترهيب والموت من الخوف، جونسون قال: “قمنا بما يمكننا عمله لاحتواء هذا المرض، تحول المرض إلى وباء عالمي، وستزداد أعداد المصابين بشكل كبير، الرقم الحقيقي للمصابين أكبر، والحكومة تدرس إلغاء التجمعات الكبرى مثل الأحداث الرياضية”.
في عالم يتحكم به ترامب وجونسون وبوتين ونتانياهو، لم يعد من مكان للتعامل مع الأزمات العالمية عابرة القارات بالتعاون والأخلاق الإنسانية المشتركة، بل تعرف العلاقات بين الدول بطابع نفعي أناني، وحصار شعوب دول فقيرة تتحكم بها أنظمة ديكتاتورية تحاصر نفسها بسرقة موارد شعوبها بالقمع وانتهاك حقوق الإنسان وأنظمة صحية فاشلة وفاسدة، وغياب السياسات والتدابير الصحية والإعلامية للقضاء على الأمراض المتفشية والمزمنة.
في ظل ذلك، يبدو الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بإعلانه الحرب على فايروس “كورونا”، كأنه يجدف عكس التيار أو يصرخ في بئر عميقة.
غوتيريش طالب الدول بأن تتحمّل مسؤولية التأهب للعمل وتكثيفه والتوسع فيه، عبر تفعيل نظم الاستجابة لحالات الطوارئ وإحداث زيادة كبيرة في قدرات الفحص ورعاية المرضى، ومن خلال تجهيز المستشفيات وضمان أن تتوفر فيها المستلزمات والعاملون اللازمون.
وأضاف أن جائحة “كورونا” تبرز الترابط الأساسي بين أسرتنا البشرية، مشيراً إلى أن جهود الأمم المتحدة، و”منظمة الصحة العالمية”، استُنفرت تماماً، وباعتبارنا جزءاً من أسرتنا الإنسانية، نحن نعمل على مدار الساعة وطيلة أيام الأسبوع مع الحكومات ونقدم الإرشادات الدولية، ونمد يد العون للعالم في مواجهة هذا التهديد.
إن أكثر الفئات ضعفاً هي الأشد تضرراً، لا سيما كبار السن، وأولئك الذين يعانون من أمراض مزمنة، وأولئك الذين لا يحصلون على رعاية صحية يعوّل عليها، وأولئك الذين يعيشون في فقر أو تهميش.
ودعت رئيسة المفوضية العليا لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة ميشيل باشليه الحكومات التي تلجأ إلى إجراءات إقفال مناطق وفرض حجر صحي لمكافحة “كورونا”، إلى ضمان احترام حقوق الإنسان.
ورأت أن على عمليات الإغلاق والعزل وغيرها من الإجراءات لاحتواء انتشار كورونا ومكافحة تفشيه يجب أن تتم بشكل يتوافق تماماً مع معايير حقوق الإنسان وبما يتناسب مع تقييم الخطر، وأن يتم تجنب أي تداعيات غير مقصودة من الإجراءات المتعلقة بفايروس “كورونا” على مصادر رزق المتأثرين.
سياسات ترامب وجونسون وبوتين وغيرهم تظهر لا سيما الإدارة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي بخاصة المتنفذة فيها أي فرنسا وألمانيا، والشركات عابرة القارات وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمهيمنة في العالم، وقد قوضت معايير العدالة، وجميع هؤلاء يعملون بطريقة مباشرة وغير مباشرة على تقويض أسس نظام التعاون الدولي الذي وضعت معاييره تلك الدول وتمت ترجمته في الإعلان العالمي لحقوق الانسان والاتفاقيات الدولية.
سعت تلك الدول إلى إضعاف منظمات الأمم المتحدة التي لم تعد تستطيع الانتصار للمعايير التي وضعتها لاحترام حقوق الإنسان والتنمية والمساعدات الإنسانية، وعلى سبيل المثال ما تقوم به الولايات المتحدة الأميركية من محاولات لإنهاء وكالة الامم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” أو ما تمسى “الرباعية الدولية بفرض الحصار على قطاع غزة” منذ أكثر من عقد من الزمن. وقد يكون لهذا فوائد في منع تسلل “كورونا” إلى غزة المحاطة بالجدران والطائرات والمدافع الإسرائيلية.
دعوات الأمين العام للأمم المتحدة ومفوضة حقوق الإنسان تبدو رسائل جافة وهي شاهد على ضعف مؤسساتها التي جيرت وفق مصالح الدول الرأسمالية، وسطوتها وازدواجية سياساتها، وظلم الدول الفقيرة التي تزداد فقراً، وهي بذلك تساهم في انتشار العنف و”الإرهاب”، وأصبح التعاون الدولي يهدف إلى زيادة هيمنة تلك الدول، وليس لحماية حقوق الإنسان واحترام الكرامة الإنسانية المتأصلة فيه.
وتدعو مؤسسات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية إلى إعمال معايير الحجر الرسمي والمنزلي ووضع أدلة للتعامل مع تلك الحالات ومنع التعذيب والتداعيات البدنية والنفسية والآثار المترتبة عليها.وفي هذه الحالة تكون آليات التعامل النفسي مع حالات الاحتجاز والحجر، المعضلة أكبر من تلك الإجراءات والتدابير، على أهميتها. وذلك في ظل غياب الموارد الاقتصادية لتلك الدول العاجزة عن توفير الحد الأدنى من العيش الكريم لمواطنيها وتعاني الاحتلال والحصار كما في الحالة الفلسطينية. يقدّم ذلك مثالاً صارخاً للهشاشة بخاصة في قطاع غزة حيث 60 في المئة من السكان يعملون في قطاع الخدمات، ما يهددهم بالجوع والعوز، في ظل حال الطوارئ وقطع أرزاقهم، فالسلطة الفلسطينية قائمة على المساعدات الدولية، ولا توفر أي نظام ضمان اجتماعي يوفر لهم الحماية الاجتماعية.
يضاف إلى ذلك عجز السلطة عن توفير المستلزمات الصحية والطبية والمختبرات والخبرات العلمية البحثية.
“كورونا” يكشف زعماء العالم المتنفذين والمتحكمين بمصير البشرية والتخلي عن التعاون الدولي ومساعدة الدول الفقيرة، ولا يمكن لتلك الدول إيقاف انتشاره من دون تعاون دولي، فالقضاء عليه يتم من خلال توفير اللقاحات والدواء التي لا تستطع دول كثيرة توفيرها.
القضاء على “كورونا” يكون بتعاون دولي يحترم معايير الأمم المتحدة ومنظماتها بإعمال الحق في الصحة، من طريق توفير الرعاية الصحية الأساسية وسياسات وتدابير وقائية دولية تحمي الناس من تغول زعماء شعبويين يحكمون العالم وفق مصالحهم، وينشرون الظلم والفقر والعنف وفايروسات الكراهية والحقد وتدهور الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
في ظل التوحش الذي يمارسه الزعماء الشعبويون الرأسماليون تجب مواجهة هدم منظمات الأمم المتحدة وتعزيز التعاون الدولي من خلالها.
وبات من الضروري تشكيل لوبيات حمائية لديمومة عملها وفقاً لمعاييرها التي أقيمت من أجلها في مساعدة جميع الشعوب وفقاً لمبادئ حقوق الإنسان، وإصلاح تلك المنظمات من الفساد وتغول موازين القوى وإعادة الاعتبار وتعزيز ثقة الشعوب الفقيرة فيها، في مواجهة الدول الغنية التي سيطرت على إداراتها وشبهات الفساد التي تحيط بمسؤولين كبار ينفذون سياساتها.