“مصر ستشهد أنهاراً من الدماء بسبب تردي الوضع الاقتصادي بسبب الإجراءات الاحترازية التي أقرتها الدولة لمواجهة فايروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، وسنشهد نزيفاً ودماء اقتصادية، حال عدم عودة العمل بشكل طبيعي لتضرر الكثير من القطاعات، كالسياحة التي استغنت عن ملايين العاملين أو هي مهددة بذلك”.

كانت تلك أحد تصريحات رجل الأعمال المصري، نجيب ساويرس، التي أثارت ضده حملات هجوم عنيفة، ورود فعل غاضبة، بعد تغريداته على حسابه الرسمي في “تويتر”.
تغريدات ساويرس المثيرة والمستفزة لقطاعات هائلة من المصريين، أبرزت اصطفافه الطبقي لجهة استثماراته وأرباحه. بدت صحة ملايين المصريين اهتماماً ثانوياً في تغريدته التي بدت قليلة الاكتراث بالإجراءات الاحترازية، والتي تتفاوت في فرضها وتطبيقها، بشدة وصرامة، دول العالم المختلفة التي تعيش في حالة تعبئة قصوى واستثنائية على إثر الجائحة المنتشرة.
بيد أن رجل الأعمال المصري تابع في منشوره عبارات بدت أكثر قساوة، وتحمل تهديدات، تتصل بمصير العمال والموظفين في القطاع الخاص، الذين ستتضرر رواتبهم وتنخفض لأكثر من النصف، إذ قال: “بعض الشركات تقوم بصرف ربع المرتب، واستمرار الوضع مع التزام القطاع الخاص سيجعله مهدداً بالإفلاس، ولن تستطيع الحكومة مواجهة ذلك، ونحتاج إلى قرار فوري لذلك أياً كانت التبعات”.
ساهمت التشريعات الاقتصادية المنحازة لطبقة رجال الأعمال، وسياسات الاستثمار الخاصة، في دعم أوليغاركية اجتماعية وسياسية من دون حماية للآخرين
وفي ظل دعوات ساويرس المستمرة لاستئناف العمل بالشركات والمصانع، للحد من حجم الخسائر، وما رافقتها من انتقادات واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، فقد تصدر هاشتاغ #نجيب_ساويرس قائمة الأعلى تداولاً في مصر. وجاء ضمن تغريداته مطالبته بفتح المجال العام اقتداءً بالسويد، لكنه تلقى رداً رسمياً ومفصلاً حول إجراءات ستوكهولم لمكافحة كورونا.
ورد حساب السويد الرسمي الناطق بالعربية على ساويرس، بتغريدة تنفي مزاعمه، وتطالب بأن “يستمر الناس كلهم في الحياة اليومية العادية بدون أي تغيير”، اقتداء بالسويد، معتبرة مزاعمه “غير صحيحة”.
وأوضح الحساب أن الحكومة السويدية نصحت كبار السن والفئات المعرضة للإصابة، بعزل أنفسهم طوعاً، وكذلك تم منع الزيارة لدور المسنين.
كما أوصت الخارجية السويدية بعدم السفر إلى خارج البلاد حتى حزيران/ يونيو المقبل، إلا في الحالات الطارئة.
ليس ساويرس وحده هو من دعا إلى عودة الحياة إلى طبيعتها، مرة أخرى، ورفض الإجراءات الاحترازية، خشية من التبعات الاقتصادية، وتأثيراتها في الاستثمارات، إنما احتشد عدد من رجال الأعمال المصريين الآخرين مع هذا الموقف، الذي ينطلق بالأساس من المصلحة الفئوية والخاصة، ومن بينهم، رؤوف غبور، وحسين صبور.
بيد أن الشخصية الجدلية والإشكالية لرئيس شركة أوراسكوم للاتصالات، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، شكلتها مواقفه السياسية والاجتماعية، بخاصة، في ما يتصل بقضايا المواطنة والطائفية، ودعمه الحريات المدنية، وتبنيه القيم العلمانية، ما جعله على فوهة الأحداث، وفي صدارتها.
لا تبدو مواقف رجال الأعمال المصريين متطرفة أو خارج إطار انحيازاتهم المصلحية النفعية التي شكلتها نشأتهم الاجتماعية، وتكوينهم الطبقي، فضلاً عن السياق السياسي الذي ساهم في صعودهم على هذا النحو.

رأسمالية ما بعد ثورة يوليو
كان عام 1965 لحظة استثنائية ومفصلية في تاريخ دولة يوليو، إذ إنه العام الذي انتهت فيه الخطة الخمسية الأولى للتنمية، في سياق ختام تجربة التخطيط الوطني الشامل على إثر إجراءات التأميم، إذ تراجعت معدلات التنمية بعد ذلك. كما أن التحالف العفوي الذي تشكل في ظل التشريع الرأسمالي للتنمية الناصرية، وأسلوب التنفيذ البيروقراطي، خلقا ارتباطاً عضوياً بين مجموعة من الفئات المستفيدة والمتباينة داخل السلطة.
تشابكت العلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين القطاع العام، ومقاولي القطاع الخاص، ومعهم بقايا الطبقات القديمة والسماسرة والمرابين.
هزت قوانين يوليو الاشتراكية، عام 1961، الأرض المستقرة تحت أقدام الشركة الأولى التي دشنها أنسي ساويرس (الأب)، إذ تعرضت لأول ضربة قوية بعد التأميم الجزئي ثم التأميم بشكل كلي، في العام التالي، بينما استمر ساويرس الأب مديراً للشركة لمدة خمس سنوات، بعد تعيينه من السلطة، وكان يتلقى راتبه من الحكومة المصرية. ولم يلبث أن هاجر إلى ليبيا، عام 1966، وهناك عمل في المقاولات قبل أن يعاود حياته ونشاطه في مصر، منتصف السبعينات، وتحديداً في آب/ أغسطس 1977، مدفوعاً بإغراءات عدة، تتصل بالإجراءات السياسية والاجتماعية التي شهدتها الحقبة الساداتية، وتداعياتها الاقتصادية، والانحيازات الطبقية المترتبة عليها، وكذا، السياسة الإقليمية التي وفرت الغطاء الشرعي لها، بعدما أطلق السادات موجة الانفتاح الاقتصادي.
وفي العام ذاته، الذي عاد فيه إلى القاهرة، أسس ساويرس شركة “أوراسكوم للمقاولات العامة والتجارة”، وبدأ بخمسة موظفين فقط، لتتحول الشركة في لمح البصر إلى كيان اقتصادي عملاق، كما يوضح الباحث الاقتصادي المصري، إلهامي الميرغني، إذ توسع نشاط الشركة ليشمل قطاع السياحة والفنادق، وخدمات الكمبيوتر والهاتف المحمول، وتصبح المجموعة من أضخم الشركات المصرية.
ويضيف لـ”درج”: “شهدت شركة أوراسكوم طفرتها الحقيقية وتوسعها الهائل بواسطة نجيب، الابن الأكبر لساويرس، الذي عمد إلى الحصول على التوكيلات الأجنبية، لتفادي الركود في قطاع المقاولات، على إثر الأزمة التي ضربت الاقتصاد المصري، في الثمانينات من القرن الماضي. وتتميز رأسمالية التسعينات والألفية الجديدة بأن لا وطن لها. وطنها هو الربح والمكسب، وعملتهم الدولار. فإن هذه الطبقة تبلورت بدعم مؤسسات التمويل الدولية”.
وعليه، تم تأسيس هيئة أركان للطبقة الجديدة لتقود التحولات الكبرى في الاقتصاد والسياسة وهي ترتكز علي تنظيمات عدة.
بيد أن أهم ما يجمع المصريين منذ الخمسينات، وحتى الآن، هو غياب الديموقراطية والمشاركة السياسية الفاعلة. ربما استطاع النظام في الخمسينات والستينات تقديم بعض المكتسبات الاجتماعية، ولكن ظلّ العداء للديموقراطية هو السمة السائدة منذ عصر هيئة التحرير وحتى عصر لجنة السياسات، فتحولت عضوية تنظيمات الحكومة خلال الأزمة السياسية المتعاقبة وسيلة للصعود الاجتماعي، ومن ثم، تولي المناصب القيادية، ناهيك بالدخول والتقدم في عالم “البيزنس” ودولة رجال الأعمال.

أثرياء مصر وفقراؤها
كشفت مجلة “فوربس”، في إحصائها السنوي عن أثرياء العالم، إن أغنى الناس على وجه الأرض لم يكونوا محصنين ضد الفايروس التاجي، لافتة إلى أنه على رغم حدة الوباء، فإن قائمة العشرة الأغنى في العالم، زادت ثروات خمسة منهم، مقارنة بالعام الماضي، بينما تراجعت ثروات الخمسة الآخرين.
وأوضحت المجلة أنها وضعت اللمسات الأخيرة على قائمتها للعام الحالي، يوم 18 آذار/ مارس، بعد انهيار أسواق الأسهم العالمية، ما أدى إلى خسارة الكثير من الثروات، لكنها ضمت 2095 مليارديراً حول العالم، وهو عدد أقل من قائمة العام الماضي بـ58 مليارديراً، وأقل بـ226 مليارديراً عن القائمة المحدثة، قبل 12 يوماً فقط من الجائحة، مشيرة إلى أن 51 في المئة من هؤلاء الأثرياء الذين بقوا في القائمة تراجعت ثرواتهم عن العام الماضي، فيما بلغت ثروة قائمة المليارديرات الأغنى عالمياً بنحو 8 تريليون دولار، وذلك بانخفاض 700 مليار دولار عن عام 2019.
ووفقاً للمجلة الأميركية، فقد جاء أربعة أثرياء مصريين ضمن قائمة الأثرياء الـ1000 الأغنى عالمياً، تصدرهم سميح ساويرس، والذي احتل المرتبة 294 عالمياً، بثروة 5.9 مليار دولار، تلاه محمد منصور، وقد احتل المرتبة 655 عالمياً، بثروة تقدر بنحو 3.3 مليار دولار، ويأتي نجيب ساويرس في المرتبة الثالثة مصرياً، بينما ترتيبه العالمي 732، وذلك بثروة تصل إلى 3 مليارات دولار، كما جاء في المرتبة الرابعة مصرياً و979 عالمياً، رجل الأعمال ياسين منصور بثروة 2.3 مليار دولار.
وبحسب “فوربس”، فإن ثروات هؤلاء جميعاً شهدت صعوداً بالمقارنة بالقائمة الصادرة في العام الماضي.
إذاً، لا تبدو سيرة طبقة رجال الأعمال المصريين ومسيرتهم، التي تكونت علاقاتها المتينة من خلال المؤسسات والهيئات الدولية، باعتبارهم وكلاء للاستثمار الأجنبي والخارجي، سوى حلقة منبتة الصلة عن أي تطور اجتماعي واقتصادي ديموقراطي، ساهم في صعودها أو حتى تقترب من ملامح التطور الكلاسيكي للرأسمالية في أوروبا، والتي على رغم تشوهاتها وأزماتها إلا أنها حامل أيديولوجي لجملة قيم وأفكار تتناسب والمخاضات التي تحركت داخلها، كالصراع مع الإقطاع، وسلطة الكنيسة.
كما ساهمت التشريعات الاقتصادية المنحازة لطبقة رجال الأعمال، وسياسات الاستثمار الخاصة، في دعم أوليغاركية اجتماعية وسياسية من دون حماية للآخرين، إذ لم تراع أي نظام عدالة ضريبية، وفرض نمط ضرائب تصاعدي أوصى به صندوق النقد الدولي، الأمر الذي عزز قبضة هذه الطبقة الثقيلة والمتوحشة على الاقتصاد، وبناء سياساته الكلية، بينما الدولة ومؤسساتها وأجهزتها، مجرد آلية لتحقيق التراكم الرأسمالي.
وعليه، تصبح صحة العمال العامة في مستويات أدنى من الاهتمام والرعاية، ولا تمنح الأولوية القصوى، وهو الأمر الذي عبر عنه المهندس محسن صلاح، رئيس مجلس إدارة شركة “المقاولون العرب”، إذ وجه اللوم إلى العمال، لعدم وضعهم كمامات وقفازات للوقاية من الفايروس المستجد، على رغم غياب المشرفين، ناهيك بالخلل في بيئة العمل التي تحفل بوقائع عدة ومستمرة من الإصابات المهنية والأمراض الناجمة عنها من دون تعويض أو حماية.