fbpx

“كورونا” وكبار السنّ: مشاهدات من الريف الفرنسي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“كبار السنّ لا يموتون… ينامون ذات يوم وينامون لفترة طويلة… يداً بيد… يخافون من الضياع ومع ذلك يضيعون…”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تلك الأغنية (les vieux) التي كتبها جاك بريل عام 1964 وغنّاها كتحية لوالديه اللذين غادرا الحياة، أصبحت من أجمل القصائد، وأقساها، التي تتناول كبار السنّ، إذ لا ترسم فقط بورتريه الشخص العجوز بل تقرنه بفعل الاستسلام لمشيئة حتمية: الموت. وليس الموت العادي كرحيل الجسد الذي يتناوب مع فعل الولادة، هو نفسه الموت الذي يصوّره بريل في رائعته بل انحسار كل شيء وفقدانه قبل ساعة الرحيل. فالوقت سيّد قصيدة بريل التي تقفل في مقاطعها الثلاثة على مشهدية الساعة التي يُسمع رنينها في الصالون حيث “الكتب تشعر بالنعاس والبيانو المهجور”، في إشارة إلى ضعف القدرات الفكرية وحيث “الحركة بطيئة والعيون دامعة والجسد ثقيل” في إشارة إلى تراجع الطاقة الجسدية.

 لا أبالغ حقّاً إذا قلت أنّ قصيدة بريل لا تفارق ذهني منذ شهر تقريياً. أتعثّر بكلماتها في مكان العمل، في الشارع، في السوق، في الزيارة الأسبوعية لدار الرعاية وفي كلّ مكان أصطدم به بصورة المرأة أو الرجل، من أصحاب الشعر الرمادي، الأبيض، الذين يسابقون الحياة ويراهنون على البقاء في تلك الأيام العصيبة التي تذكّرهم بصيف 2003 الناري.

 في حديقة الدار، اعتاد كبار السن الموجودين في Ehpad الضيعة الخروج لتمضية طيلة فترة العصر وحتى غروب الشمس، لا أثر سوى لكراسٍ فارغة ولسيدة تستقبلك من بعيد لتطلب منك أن تضع أكياس الأدوية على باب الدار. عند المغادرة، تلاحقك نظرات كبار السنّ الذين أحبّ أن أناديهم بالـseniors. العيون مطبوعة على الشبابيك، بعضهم ممنّ نشأت بيننا علاقة وتوطّدت منذ شهور تسعة، يفتح الشباك ويرمي إليّ بسلام وسؤال “هل ستطول الأمور أكثر؟”. أكذب على نفسي وعليهم وأقول “لا، سيكون كل شيء على ما يرام” وأستعجل قدماي المغادرة قبل أن يطاردني سؤال آخر.

في تلك الدار كما في كل دور الرعاية الفرنسية، تُرك المسنّون قبل بداية المعركة. تُرِكوا مرات عدة وفي أزمنة مختلفة وبأشكال متعددة. لم يكن القصد أن يذهبوا إلى تلك المعركة من دون سلاح، لكن هذا ما حصل.

ظروف العمل وصعوبة التنقّل بين قرى الكوريز حتّمت عليّ الاستعانة بشركة تستخدم السيارة الكهربائية لتلبية حاجات النقل بين قرى وبلدات القضاء والمحافظة. الرجل الذي يؤمن لي المواصلات بين الصيدليتين، يخبرني عن تراجع عمله بنسبة 70 في المئة؜ في ظلّ الحجر المنزلي، إذ لم يتبقَّ له سوى بضعة زبائن يعملون في قطاع الصحة، لا يمتلكون سيارات، أو ربما أتوا من مدن أكبر للعمل موقتاً في مستشفيات القضاء. وعندما تسأله عن السبب الرئيسي لهذا التراجع يقول: “هدفي الأساسي من تقديم خدمة النقل في القضاء بسعر مقبول جداً هو هدف إنساني بالدرجة الأولى، وبيئي بالدرجة الثانية. أما السبب الذي دفعني إلى العودة إلى أصولي في الكوريز فهو كبار السنّ. أمي تبلغ 89 سنة، ومثلها آلاف العجزة الذين يحتاجون إلى التنقل لزيارة الطبيب أو لتحصيل الدواء وشراء احتياجاتهم”.

زمن “كورونا” فئة استثنائية، لأسباب صحّية وفيزيولوجية مفهومة، تعيش على هامش الحياة وفي قلب المأساة.

 لكنّ الرجل الذي يعمل بشكل أساسي على توفير خدمة النقل لكبار السنّ أو تنسيق زيارات عائلية في أيام محددة من الشهر لمن هم في دار الرعاية، يجد نفسه اليوم ممنوعاً من أي احتكاك بزبائنه. أصبحت فئة كبار السن في زمن الكورونا فئة استثنائية، لأسباب صحّية وفيزيولوجية مفهومة، تعيش على هامش الحياة وفي قلب المأساة.

الكل هنا يخاف من أول حالة “كورونا” في دار الرعاية، يتهامسون سرّاً عن عدد من الحالات في القرية والقرى المجاورة، لكنهم لا يخفون ارتياحهم لغياب تلك “الحالة الأولى” في مراكز الاهتمام بكبار السن. قالت لي طبيبة القرية الوحيدة “حتى اللحظة لم نسجّل أي حالة في الـehpad. أتمنى ألا يأتي ذلك الخبر لأنّ مجزرة تختبئ خلف الحالة الأولى”.

ذات يوم في زمن “كورونا” الراهن، عاجلتنا زبونة بخبر أسود وصادم. حدّثتنا عن موت السيد فرانسوا (اسم مستعار) في منزله مساء أمس. قالت إنّ الحي استيقظ على صراخ زوجته المفجوعة حين رأته متدلّياً في حديقة المنزل. ترك السيد الذي يبلغ 79 سنة، المعروف بدماثة أخلاقه وثقافته الواسعة إذ عمل 30 عاماً كأستاذ ثانوي في ليسيه ادمون بيرييه في مدينة Tulle، رسالة عبّر فيها عن استسلامه الكامل، لكنّه بانتحاره كما يقول ذهب إلى آخر طلقة في جعبته لمقاومة هذا الإستلاب الناتج عن اكتئاب ثلاث سنوات، زادتها أيام الحجر والحجب عن الفضاء الخارجي ذعراً. في رسالته التي وجدت قرب ماكينة تمشيط العشب بعض كلمات “إنّ حالتي تسوء ولا أرى حلولاً لذلك أفضّل الموت بملء إرادتي على أن أموت خنقاً بالمرض”.

مفارقة قاسية جداً، فالسيد فرانسوا لم يطلق رصاصة على رأسه. لم يطعن نفسه بسكين. لم يرمِ نفسه من علو. لم يفعل سوى ما كان المرض سيفعل في احتمالاته الضيقة: شنق نفسه. قام بتعشيب الحديقة، شرب كأس الشاي واختار أن يموت بطريقة خاف أن تأتيه على غفلةٍ.

قد يقول قائل إنّ كآبة الرجل المزمنة دفعته للانتحار وفي ذلك حقيقة لا يمكن نكرانها. لكنّها حقيقة ناقصة، إذ لا تأخذ حيّز الزمان والعوامل المؤثرة في ذلك القرار في الاعتبار. ما هو أكيد أنّ قراره كان سريعاً ولم يكن بإمكاننا فعل ما يجنّبه الرحيل.

الكل هنا يخاف من أول حالة “كورونا” في دار الرعاية.

تلك قصة من بين قصص كثيرة نسمعها عن معاناة كبار السن في الحجر المنزلي وعن تلك المأساة التي تتولّد نتيجة التباعد الاجتماعي واختلال الروابط الأهليّة.

في رحلتي إلى منزل السيدة كوليت (اسم مستعار) لتركيب سرير طبّي لزوجها الذي أقعدته ثلاث جلطات دماغية في 10 سنوات، قال لي التقنّي المخوّل مساعدتي، الآتي حديثاً إلى الكوريز من مدينة نانت، أنّه صدم في الأشهر الأولى بسبب عدم قدرته على إيجاد طبيب للعائلة (médecin traitant). أخبرني أنّه سمع كثيراً عن “الصحارى الطبية” (deserts médicaux)، لكنّه لم يلمس ذلك إلا في هذه الأرياف حيث تجد البلديات صعوبة كبيرة على انتداب العاملين في القطاع الصحي. ففي إحصائية أخيرة نشرها المجلس الوطني لنقابة الأطباء أكثر من 50 في المئة من الأطباء الذين تمّ استقدامهم منذ العام الماضي إلى الكوريز نالوا شهاداتهم في الخارج (دول أوروبا الشرقية ورومانيا بالدرجة الأولى) وقرروا الاستقرار في القضاء حيث الطبيعة والهواء النظيف وتكاليف الحياة المنخفضة.

على الباب، قالت لنا السيدة كوليت إنّها سمعت أحاديثا عن لزوم لبس الكمامة الجراحية في مرحلة ما بعد الحجر المنزلي. تلك معضلة أساسية اليوم في فرنسا لأنّ السؤال عن الكمامات – التي ما زالت مخصصة للفرق الصحية ولبعض الحالات الاستثنائية من المرضى – والمواد المعقمة لم ينتهِ منذ نحو الشهر. 

الجميع هنا يعشق نظريات المؤامرة، لا يثق بكلام الحكومة، ولا يحب السياسيين عموماً وإن عرف عن الفرنسيات والفرنسيين مزاجهم الصعب الذي لا ترضيه أي سياسة مهما كانت توجهاتها الفكرية، فإنّهم لا يوفّرون اليوم فرصة لتصويب النقد على سياسات الحكومات المتعاقبة منذ أكثر من عقدين من الزمن. يقول معظم الكوريزيين اليوم إنّ هذه الأرض أنجبت جاك شيراك وفرانسوا هولاند، لكنّها لم تنجب رئيساً على مستوى تطلعاتهم وطموحاتهم. يعبّرون عن امتعاضهم من تراجع دعم قطاعي الصناعة والزراعة التي يعمل فيها 27 في المئة، من أبناء القضاء، والتي نشطت مجدداً في أزمة “كورونا”، ويسمعون كلاماً قاسياً بحقّ إيمانويل ماكرون وقانون التقاعد وسياسته الضريبية التي تغازل الأثرياء.

عند خروجي من مكان العمل الذي يبعد بضعة أمتار من السكن الذي أهدتني إياه صاحبة الصيدلية طيلة مدة العمل، لأنني “امتلكت شجاعة الشاب الذي ترك المدينة والمسارح والسينما والمقاهي ليعمل في الريف”، صادفت جاري السيد راموس. الرجل البرتغالي الثمانيني الذي قدم من ماديرا مع جيل الهجرة الأول وبقي لسنوات طويلة عامل بناء في ورش البيوت والأبنية في الكوريز، لا يخفي سعادته على رغم المآسي التي أصابت فرنسا اليوم ويعلّلها بقوله إنّ “عالم الغد سيتغيّر حتماً”. قلت له إنه قد يتغيّر للأسوأ وهذا يقيني. فضحك وأعطاني كرتونة من البيض البلدي وقال “للأسف، إنّ العولمة لم تبدأ هنا كي تموت بعد كورونا. نحن لم نعرفها لأننا اخترنا ألا نتعرّف إليها، لكنّ مفاعيلها وصلت إلينا رغماً عنّا”.

محمد أبو شحمة- صحفي فلسطيني | 11.10.2024

ضغط عسكري على الشمال ومجازر في جنوبه… عدوان “إسرائيل” في غزة لا يتوقّف

يمارس الجيش الإسرائيلي ضغطاً عسكرياً على سكان المخيم بهدف دفعهم إلى النزوح لجنوب القطاع، تنفيذاً لما يُعرف بخطة "الجنرالات" التي وضعها اللواء الإسرائيلي المتقاعد غيورا إيلاند، والهادفة إلى إجلاء المدنيين بعد حصار محكم.
17.04.2020
زمن القراءة: 6 minutes

“كبار السنّ لا يموتون… ينامون ذات يوم وينامون لفترة طويلة… يداً بيد… يخافون من الضياع ومع ذلك يضيعون…”.

تلك الأغنية (les vieux) التي كتبها جاك بريل عام 1964 وغنّاها كتحية لوالديه اللذين غادرا الحياة، أصبحت من أجمل القصائد، وأقساها، التي تتناول كبار السنّ، إذ لا ترسم فقط بورتريه الشخص العجوز بل تقرنه بفعل الاستسلام لمشيئة حتمية: الموت. وليس الموت العادي كرحيل الجسد الذي يتناوب مع فعل الولادة، هو نفسه الموت الذي يصوّره بريل في رائعته بل انحسار كل شيء وفقدانه قبل ساعة الرحيل. فالوقت سيّد قصيدة بريل التي تقفل في مقاطعها الثلاثة على مشهدية الساعة التي يُسمع رنينها في الصالون حيث “الكتب تشعر بالنعاس والبيانو المهجور”، في إشارة إلى ضعف القدرات الفكرية وحيث “الحركة بطيئة والعيون دامعة والجسد ثقيل” في إشارة إلى تراجع الطاقة الجسدية.

 لا أبالغ حقّاً إذا قلت أنّ قصيدة بريل لا تفارق ذهني منذ شهر تقريياً. أتعثّر بكلماتها في مكان العمل، في الشارع، في السوق، في الزيارة الأسبوعية لدار الرعاية وفي كلّ مكان أصطدم به بصورة المرأة أو الرجل، من أصحاب الشعر الرمادي، الأبيض، الذين يسابقون الحياة ويراهنون على البقاء في تلك الأيام العصيبة التي تذكّرهم بصيف 2003 الناري.

 في حديقة الدار، اعتاد كبار السن الموجودين في Ehpad الضيعة الخروج لتمضية طيلة فترة العصر وحتى غروب الشمس، لا أثر سوى لكراسٍ فارغة ولسيدة تستقبلك من بعيد لتطلب منك أن تضع أكياس الأدوية على باب الدار. عند المغادرة، تلاحقك نظرات كبار السنّ الذين أحبّ أن أناديهم بالـseniors. العيون مطبوعة على الشبابيك، بعضهم ممنّ نشأت بيننا علاقة وتوطّدت منذ شهور تسعة، يفتح الشباك ويرمي إليّ بسلام وسؤال “هل ستطول الأمور أكثر؟”. أكذب على نفسي وعليهم وأقول “لا، سيكون كل شيء على ما يرام” وأستعجل قدماي المغادرة قبل أن يطاردني سؤال آخر.

في تلك الدار كما في كل دور الرعاية الفرنسية، تُرك المسنّون قبل بداية المعركة. تُرِكوا مرات عدة وفي أزمنة مختلفة وبأشكال متعددة. لم يكن القصد أن يذهبوا إلى تلك المعركة من دون سلاح، لكن هذا ما حصل.

ظروف العمل وصعوبة التنقّل بين قرى الكوريز حتّمت عليّ الاستعانة بشركة تستخدم السيارة الكهربائية لتلبية حاجات النقل بين قرى وبلدات القضاء والمحافظة. الرجل الذي يؤمن لي المواصلات بين الصيدليتين، يخبرني عن تراجع عمله بنسبة 70 في المئة؜ في ظلّ الحجر المنزلي، إذ لم يتبقَّ له سوى بضعة زبائن يعملون في قطاع الصحة، لا يمتلكون سيارات، أو ربما أتوا من مدن أكبر للعمل موقتاً في مستشفيات القضاء. وعندما تسأله عن السبب الرئيسي لهذا التراجع يقول: “هدفي الأساسي من تقديم خدمة النقل في القضاء بسعر مقبول جداً هو هدف إنساني بالدرجة الأولى، وبيئي بالدرجة الثانية. أما السبب الذي دفعني إلى العودة إلى أصولي في الكوريز فهو كبار السنّ. أمي تبلغ 89 سنة، ومثلها آلاف العجزة الذين يحتاجون إلى التنقل لزيارة الطبيب أو لتحصيل الدواء وشراء احتياجاتهم”.

زمن “كورونا” فئة استثنائية، لأسباب صحّية وفيزيولوجية مفهومة، تعيش على هامش الحياة وفي قلب المأساة.

 لكنّ الرجل الذي يعمل بشكل أساسي على توفير خدمة النقل لكبار السنّ أو تنسيق زيارات عائلية في أيام محددة من الشهر لمن هم في دار الرعاية، يجد نفسه اليوم ممنوعاً من أي احتكاك بزبائنه. أصبحت فئة كبار السن في زمن الكورونا فئة استثنائية، لأسباب صحّية وفيزيولوجية مفهومة، تعيش على هامش الحياة وفي قلب المأساة.

الكل هنا يخاف من أول حالة “كورونا” في دار الرعاية، يتهامسون سرّاً عن عدد من الحالات في القرية والقرى المجاورة، لكنهم لا يخفون ارتياحهم لغياب تلك “الحالة الأولى” في مراكز الاهتمام بكبار السن. قالت لي طبيبة القرية الوحيدة “حتى اللحظة لم نسجّل أي حالة في الـehpad. أتمنى ألا يأتي ذلك الخبر لأنّ مجزرة تختبئ خلف الحالة الأولى”.

ذات يوم في زمن “كورونا” الراهن، عاجلتنا زبونة بخبر أسود وصادم. حدّثتنا عن موت السيد فرانسوا (اسم مستعار) في منزله مساء أمس. قالت إنّ الحي استيقظ على صراخ زوجته المفجوعة حين رأته متدلّياً في حديقة المنزل. ترك السيد الذي يبلغ 79 سنة، المعروف بدماثة أخلاقه وثقافته الواسعة إذ عمل 30 عاماً كأستاذ ثانوي في ليسيه ادمون بيرييه في مدينة Tulle، رسالة عبّر فيها عن استسلامه الكامل، لكنّه بانتحاره كما يقول ذهب إلى آخر طلقة في جعبته لمقاومة هذا الإستلاب الناتج عن اكتئاب ثلاث سنوات، زادتها أيام الحجر والحجب عن الفضاء الخارجي ذعراً. في رسالته التي وجدت قرب ماكينة تمشيط العشب بعض كلمات “إنّ حالتي تسوء ولا أرى حلولاً لذلك أفضّل الموت بملء إرادتي على أن أموت خنقاً بالمرض”.

مفارقة قاسية جداً، فالسيد فرانسوا لم يطلق رصاصة على رأسه. لم يطعن نفسه بسكين. لم يرمِ نفسه من علو. لم يفعل سوى ما كان المرض سيفعل في احتمالاته الضيقة: شنق نفسه. قام بتعشيب الحديقة، شرب كأس الشاي واختار أن يموت بطريقة خاف أن تأتيه على غفلةٍ.

قد يقول قائل إنّ كآبة الرجل المزمنة دفعته للانتحار وفي ذلك حقيقة لا يمكن نكرانها. لكنّها حقيقة ناقصة، إذ لا تأخذ حيّز الزمان والعوامل المؤثرة في ذلك القرار في الاعتبار. ما هو أكيد أنّ قراره كان سريعاً ولم يكن بإمكاننا فعل ما يجنّبه الرحيل.

الكل هنا يخاف من أول حالة “كورونا” في دار الرعاية.

تلك قصة من بين قصص كثيرة نسمعها عن معاناة كبار السن في الحجر المنزلي وعن تلك المأساة التي تتولّد نتيجة التباعد الاجتماعي واختلال الروابط الأهليّة.

في رحلتي إلى منزل السيدة كوليت (اسم مستعار) لتركيب سرير طبّي لزوجها الذي أقعدته ثلاث جلطات دماغية في 10 سنوات، قال لي التقنّي المخوّل مساعدتي، الآتي حديثاً إلى الكوريز من مدينة نانت، أنّه صدم في الأشهر الأولى بسبب عدم قدرته على إيجاد طبيب للعائلة (médecin traitant). أخبرني أنّه سمع كثيراً عن “الصحارى الطبية” (deserts médicaux)، لكنّه لم يلمس ذلك إلا في هذه الأرياف حيث تجد البلديات صعوبة كبيرة على انتداب العاملين في القطاع الصحي. ففي إحصائية أخيرة نشرها المجلس الوطني لنقابة الأطباء أكثر من 50 في المئة من الأطباء الذين تمّ استقدامهم منذ العام الماضي إلى الكوريز نالوا شهاداتهم في الخارج (دول أوروبا الشرقية ورومانيا بالدرجة الأولى) وقرروا الاستقرار في القضاء حيث الطبيعة والهواء النظيف وتكاليف الحياة المنخفضة.

على الباب، قالت لنا السيدة كوليت إنّها سمعت أحاديثا عن لزوم لبس الكمامة الجراحية في مرحلة ما بعد الحجر المنزلي. تلك معضلة أساسية اليوم في فرنسا لأنّ السؤال عن الكمامات – التي ما زالت مخصصة للفرق الصحية ولبعض الحالات الاستثنائية من المرضى – والمواد المعقمة لم ينتهِ منذ نحو الشهر. 

الجميع هنا يعشق نظريات المؤامرة، لا يثق بكلام الحكومة، ولا يحب السياسيين عموماً وإن عرف عن الفرنسيات والفرنسيين مزاجهم الصعب الذي لا ترضيه أي سياسة مهما كانت توجهاتها الفكرية، فإنّهم لا يوفّرون اليوم فرصة لتصويب النقد على سياسات الحكومات المتعاقبة منذ أكثر من عقدين من الزمن. يقول معظم الكوريزيين اليوم إنّ هذه الأرض أنجبت جاك شيراك وفرانسوا هولاند، لكنّها لم تنجب رئيساً على مستوى تطلعاتهم وطموحاتهم. يعبّرون عن امتعاضهم من تراجع دعم قطاعي الصناعة والزراعة التي يعمل فيها 27 في المئة، من أبناء القضاء، والتي نشطت مجدداً في أزمة “كورونا”، ويسمعون كلاماً قاسياً بحقّ إيمانويل ماكرون وقانون التقاعد وسياسته الضريبية التي تغازل الأثرياء.

عند خروجي من مكان العمل الذي يبعد بضعة أمتار من السكن الذي أهدتني إياه صاحبة الصيدلية طيلة مدة العمل، لأنني “امتلكت شجاعة الشاب الذي ترك المدينة والمسارح والسينما والمقاهي ليعمل في الريف”، صادفت جاري السيد راموس. الرجل البرتغالي الثمانيني الذي قدم من ماديرا مع جيل الهجرة الأول وبقي لسنوات طويلة عامل بناء في ورش البيوت والأبنية في الكوريز، لا يخفي سعادته على رغم المآسي التي أصابت فرنسا اليوم ويعلّلها بقوله إنّ “عالم الغد سيتغيّر حتماً”. قلت له إنه قد يتغيّر للأسوأ وهذا يقيني. فضحك وأعطاني كرتونة من البيض البلدي وقال “للأسف، إنّ العولمة لم تبدأ هنا كي تموت بعد كورونا. نحن لم نعرفها لأننا اخترنا ألا نتعرّف إليها، لكنّ مفاعيلها وصلت إلينا رغماً عنّا”.