fbpx

“كورونا” يعيد الاعتبار للمساحة الآمنة: المجد للكمامة!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أشعر بأن كثيرين مثلي، يرتاحون أكثر إلى ما فرضه “كورونا” على مستوى التباعد الجسماني، الذي يترتب عليه تباعد جسدي، بنحو المترين. مسافة آمنة يسمّونها، وهي كذلك لكثيرين على المستوى النفسي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

حينما كنت أزور أهلي، قبل زمن “كورونا”، كنت أسلّم بالحد الأدنى. نتصافح أبي وأنا كرجليّ أعمال. أمي لا ترضى إلا أن تقبلني. وأجدني أفعل ذلك بشيء من رفع العتب. أكون مشتاقاً، لكن لا أجد من داع لهذا الاحتكاك الجسدي الحميم. أهي مشكلة نفسية؟ ربما. في أحيان معينة فكرت في أنني ربما أعاني من رهاب المثلية، فأشعر بانزعاج حين يقوم رجال بانتهاك دائرتي الجسدية الخاصة، لمحاولات التودد. لكنني عدت ونفيت عن نفسي هذه التهمة، حين تأكدت أن الإنزعاج نفسه أعاني منه مع السيدات أيضاً، إذا انتهكن مساحتي الآمنة. لا أجد داعياً للتقارب الجسدي، إلا إذا كان الأمر مقرراً من الطرفين، وبكامل إرادتيهما. كل ما عدا ذلك يزعجني. فأنا لطالما عانيت من التلاحم الاجتماعي. أقول التلاحم، فأنا لا أظن أنني أعاني من مشكلة في التواصل. الاحتكاك الجسدي المباشر مع الآخرين كان المشكلة. لا بأس بالمصافحات. لكن القبلات والغمرات كانت، ولا تزال، تتسبب لي بإرباك، خصوصاً مع من يدفعوننا دفعاً إليها عبر اقتحام مجالنا الشخصي. ومنهم من لا تربطنا بهم أكثر من معرفة سطحية، ومع ذلك، تجدهم، لأسباب أجهلها، يقتربون كثيراً، يقبّلون ويعانقون. حدث الأمر مراراً معي ومعكم على الغالب، في مناسبات اجتماعية، منها الأعراس ومنها الأتراح، تجد فيها من يواسيك ويحتضنك ويشدّ عليك، لأنه كان ذات يوم قبل 50 عاماً صديقاً لوالدك على مقاعد الدراسة. ولا أعترض على المحبّة، ولم، لكنني أسجل هنا، متأخراً، استهجاني من هذه الرغبة لدى كثيرين بالتقارب الجسدي، فيما كنت أشعر دائماً بالرغبة في التباعد، وهو ما حققه لي، مشكوراً، فايروس “كورونا”.

في الجنوب في طفولتي، كانت تعجبني الطريقة الإسلامية في السلام، خصوصاً مع السيدات. يكفي أن تضع يدك على صدرك وتسلّم مشافهة: “السلام عليكم” وينتهي كل شيء. غاية في البساطة و”الأمان” والسلام. وأضعها بين مزدوجين، لكي أشرح هنا أنها ليست مرتبطة بخوف من الأمراض. فلم يكن هذا هاجسي أبداً. ولست أعاني بهذا المعنى من “الوسواس القهري” تجاه الأمراض، إذا لم يكن هناك من وضع طارئ يستدعي الاحتراز كما هي الحال الآن. في الحالات العادية، لا أغسل يديّ بشكل متواصل، ولا أستخدم المعقمّات ولست مهووساً بنظافتي الشخصية. أستحم صباحاً وأخرج. ولا أغسل يديّ إلا قبل الطعام وبعده. أو إذا اتسختا كثيراً. كلمة “أمان” هنا تأتي بمعناها الاجتماعي والنفسي وترتبط بسلامي الداخلي. السلام بهذه الطريقة يجنّبني الإرتباك والخجل، وهذان، الارتباك والخجل لا أتخلص منهما عادة إلا بشرب الكحول، فأصير مرتاحاً لفكرة التقارب، لا بل في حالات السكر أصير أنا “منتهك” المساحات “الآمنة”. ومع ذهاب السكرة وعودة الفكرة، أعود إلى طبعي الحذر في التواصل الجسدي مع الآخرين. 

الاحتكاك الجسدي المباشر مع الآخرين كان المشكلة. لا بأس بالمصافحات. لكن القبلات والغمرات كانت، ولا تزال، تتسبب لي بإرباك.

هل أنا حالة “خاصة”؟ لا أدري، لكنني أشعر بأن كثيرين مثلي، يرتاحون أكثر إلى ما فرضه “كورونا” على مستوى التباعد الجسماني، الذي يترتب عليه تباعد جسدي، بنحو المترين. مسافة آمنة يسمّونها، وهي كذلك لكثيرين على المستوى النفسي. هؤلاء الذين يشبهونني في ارتباكهم من هذا الاضطرار إلى التلاحم والاحتكاك، وهو ما جنّبتنا إياه قبل “كورونا” وسائل التواصل الاجتماعي، التي سمحت لنا بالتواصل افتراضياً من دون الحاجة إلى التواصل الفيزيائي المباشر. 

نتعارف، نتواصل، نحب ونكره من بعد. شيء أشبه بعلاقة ثيودور بسمانثا في فيلم “هي” HER، حينما يُغرم بالصوت الأنثوي لنظام التشغيل الاصطناعي الخاص بجهازه الذكي. أي يقع في غرام شخص ليس له وجود فعلياً، من دون أي نوع من التواصل الجسدي، وهو ما يكشف أن الحياة قد تكون ممكنة في “المساحة الآمنة”، وهو ما أثبته “كورونا” أيضاً، في تعاطي البشر من بعد، في الأعمال والعلاقات الاجتماعية والعاطفية. 

أما الكمامة، فلها على رغم الانزعاج الذي تسببه، فوائد شخصية تصب في السياق نفسه، فهي إلى بنائها حاجزاً اجتماعياً يبدو جلياً مع حضورها، تخفي تعابير الوجه إلى حد بعيد، وهو ما يسمح بتفادي الاضطرار إلى الابتسام في مناسبات معينة، خصوصاً أنني لم أرضَ يوماً على ابتسامتي ولطالما وجدتها ناقصة. كما يعيد الاعتبار إلى لغة العيون، فتصير اللفتات والإيماءات كافية لاختصار الأحاديث.

هل هذا يعني أنني أكره البشر؟ السؤال طرحه على نفسه الشاعر الأميركي شارلز بوكوفسكي، وأجاب: “لا أكرههم… أنا فقط أشعر بتحسّن حينما لا يكونون في الجوار”. 

21.04.2020
زمن القراءة: 3 minutes

أشعر بأن كثيرين مثلي، يرتاحون أكثر إلى ما فرضه “كورونا” على مستوى التباعد الجسماني، الذي يترتب عليه تباعد جسدي، بنحو المترين. مسافة آمنة يسمّونها، وهي كذلك لكثيرين على المستوى النفسي.

حينما كنت أزور أهلي، قبل زمن “كورونا”، كنت أسلّم بالحد الأدنى. نتصافح أبي وأنا كرجليّ أعمال. أمي لا ترضى إلا أن تقبلني. وأجدني أفعل ذلك بشيء من رفع العتب. أكون مشتاقاً، لكن لا أجد من داع لهذا الاحتكاك الجسدي الحميم. أهي مشكلة نفسية؟ ربما. في أحيان معينة فكرت في أنني ربما أعاني من رهاب المثلية، فأشعر بانزعاج حين يقوم رجال بانتهاك دائرتي الجسدية الخاصة، لمحاولات التودد. لكنني عدت ونفيت عن نفسي هذه التهمة، حين تأكدت أن الإنزعاج نفسه أعاني منه مع السيدات أيضاً، إذا انتهكن مساحتي الآمنة. لا أجد داعياً للتقارب الجسدي، إلا إذا كان الأمر مقرراً من الطرفين، وبكامل إرادتيهما. كل ما عدا ذلك يزعجني. فأنا لطالما عانيت من التلاحم الاجتماعي. أقول التلاحم، فأنا لا أظن أنني أعاني من مشكلة في التواصل. الاحتكاك الجسدي المباشر مع الآخرين كان المشكلة. لا بأس بالمصافحات. لكن القبلات والغمرات كانت، ولا تزال، تتسبب لي بإرباك، خصوصاً مع من يدفعوننا دفعاً إليها عبر اقتحام مجالنا الشخصي. ومنهم من لا تربطنا بهم أكثر من معرفة سطحية، ومع ذلك، تجدهم، لأسباب أجهلها، يقتربون كثيراً، يقبّلون ويعانقون. حدث الأمر مراراً معي ومعكم على الغالب، في مناسبات اجتماعية، منها الأعراس ومنها الأتراح، تجد فيها من يواسيك ويحتضنك ويشدّ عليك، لأنه كان ذات يوم قبل 50 عاماً صديقاً لوالدك على مقاعد الدراسة. ولا أعترض على المحبّة، ولم، لكنني أسجل هنا، متأخراً، استهجاني من هذه الرغبة لدى كثيرين بالتقارب الجسدي، فيما كنت أشعر دائماً بالرغبة في التباعد، وهو ما حققه لي، مشكوراً، فايروس “كورونا”.

في الجنوب في طفولتي، كانت تعجبني الطريقة الإسلامية في السلام، خصوصاً مع السيدات. يكفي أن تضع يدك على صدرك وتسلّم مشافهة: “السلام عليكم” وينتهي كل شيء. غاية في البساطة و”الأمان” والسلام. وأضعها بين مزدوجين، لكي أشرح هنا أنها ليست مرتبطة بخوف من الأمراض. فلم يكن هذا هاجسي أبداً. ولست أعاني بهذا المعنى من “الوسواس القهري” تجاه الأمراض، إذا لم يكن هناك من وضع طارئ يستدعي الاحتراز كما هي الحال الآن. في الحالات العادية، لا أغسل يديّ بشكل متواصل، ولا أستخدم المعقمّات ولست مهووساً بنظافتي الشخصية. أستحم صباحاً وأخرج. ولا أغسل يديّ إلا قبل الطعام وبعده. أو إذا اتسختا كثيراً. كلمة “أمان” هنا تأتي بمعناها الاجتماعي والنفسي وترتبط بسلامي الداخلي. السلام بهذه الطريقة يجنّبني الإرتباك والخجل، وهذان، الارتباك والخجل لا أتخلص منهما عادة إلا بشرب الكحول، فأصير مرتاحاً لفكرة التقارب، لا بل في حالات السكر أصير أنا “منتهك” المساحات “الآمنة”. ومع ذهاب السكرة وعودة الفكرة، أعود إلى طبعي الحذر في التواصل الجسدي مع الآخرين. 

الاحتكاك الجسدي المباشر مع الآخرين كان المشكلة. لا بأس بالمصافحات. لكن القبلات والغمرات كانت، ولا تزال، تتسبب لي بإرباك.

هل أنا حالة “خاصة”؟ لا أدري، لكنني أشعر بأن كثيرين مثلي، يرتاحون أكثر إلى ما فرضه “كورونا” على مستوى التباعد الجسماني، الذي يترتب عليه تباعد جسدي، بنحو المترين. مسافة آمنة يسمّونها، وهي كذلك لكثيرين على المستوى النفسي. هؤلاء الذين يشبهونني في ارتباكهم من هذا الاضطرار إلى التلاحم والاحتكاك، وهو ما جنّبتنا إياه قبل “كورونا” وسائل التواصل الاجتماعي، التي سمحت لنا بالتواصل افتراضياً من دون الحاجة إلى التواصل الفيزيائي المباشر. 

نتعارف، نتواصل، نحب ونكره من بعد. شيء أشبه بعلاقة ثيودور بسمانثا في فيلم “هي” HER، حينما يُغرم بالصوت الأنثوي لنظام التشغيل الاصطناعي الخاص بجهازه الذكي. أي يقع في غرام شخص ليس له وجود فعلياً، من دون أي نوع من التواصل الجسدي، وهو ما يكشف أن الحياة قد تكون ممكنة في “المساحة الآمنة”، وهو ما أثبته “كورونا” أيضاً، في تعاطي البشر من بعد، في الأعمال والعلاقات الاجتماعية والعاطفية. 

أما الكمامة، فلها على رغم الانزعاج الذي تسببه، فوائد شخصية تصب في السياق نفسه، فهي إلى بنائها حاجزاً اجتماعياً يبدو جلياً مع حضورها، تخفي تعابير الوجه إلى حد بعيد، وهو ما يسمح بتفادي الاضطرار إلى الابتسام في مناسبات معينة، خصوصاً أنني لم أرضَ يوماً على ابتسامتي ولطالما وجدتها ناقصة. كما يعيد الاعتبار إلى لغة العيون، فتصير اللفتات والإيماءات كافية لاختصار الأحاديث.

هل هذا يعني أنني أكره البشر؟ السؤال طرحه على نفسه الشاعر الأميركي شارلز بوكوفسكي، وأجاب: “لا أكرههم… أنا فقط أشعر بتحسّن حينما لا يكونون في الجوار”.