سيكتب الروائيون والشعراء والمسرحيون أعمالاً أدبية وفنية وتاريخية كثيرة، وقد تكون عظيمة، عن وباء “كورونا” وما خلّفه من قتلى، هلع، عزل، إضافة إلى انهيار النظام الصحي العالمي ومعه آليات المناعة بين البشر. وقد يسأل المبدعون مع تصويرهم تراجيديا موت المسنين في فوضى المستشفيات الحديثة عن تلك الأسباب الأخلاقية التي أدت إلى هزيمة العالم والتكنولوجيا الحيوية في لجم الجائحة، إنما تقتصر الإجابة على أسباب ظهور الفايروس ومنشأه وسلالته على العلماء والمختبرات. ولا يمكن بطبيعة الحال الفصل بين السؤال الأخلاقي الذي تطرحه الآداب والفنون عما حصل جراء كوفيد-19 وبين التفسير العلمي له، ذاك أن الوباء، إن اعتمدنا قصة من قصص انتشاره، يعود في أصوله إلى السؤال الأخلاقي عن ماهية البشرية في ما خص الحصول على مصادر الغذاء والتجارة من جانب، والإجابة العلمية على الخوف الدائم من الأوبئة والأمراض من جانب آخر.
يبحث العلماء في أوراق علمية جديدة عن منشأ سلالات فايروسات “كورونا” في ثدييات تعيش في جنوب شرق آسيا والصين، تحديداً حيوان البانغولين حيث “يستضيف سلالات مختلفة من فايروس كورونا” بحسب الدكتور دان تشالندر، من جامعة أكسفورد. ووجد باحثون في مقال نشرته مجلة (Nature) العلمية علاقة فايروس كوفيد-19، بحيوان البانغولين الماليزي الذي يزيد الطلب على لحمه في الصين. ويعد الاتجار بحيوان البانغولين بشكل غير مشروع الأكثر انتشاراً بين الثدييات في آسيا، إذ يستخدم للغذاء والطب الصيني الشعبي. وبحسب المعتقدات الصينية القديمة يزيل لحم البانغولين السموم في جسم الإنسان. وهناك بحوث أخرى تشير إلى أن كوفيد-19 من الفايروسات التي تعرف بقدرتها على إصابة الثدييات والطيور بأمراض مختلفة وتستوطن أنواعاً من سلالتها بين البشر وتسبب أمراضاً تنفسية على شكل رشح أو نزلات برد خفيفة. كما يعتقد بأن الخفاش عامل وسيط لانتقالها إلى الإنسان. ويشير المقال العلمي الذي نشرته مجلة Nature، إلى ضرورة “الحذر” في التعامل مع حيوان البانغولين، وحاجة المزيد من المراقبة بغية فهم دوره في خطر انتقال الفايروس إلى البشر. ويشير العلماء إلى ضرورة منع بيع الحيوانات في الأسواق بشكل صارم وذلك لتقليل مخاطر تفشي المرض في المستقبل.
ومن جهة أخرى، تشير دراسة جديدة أجراها باحثون إيطاليون من جامعات بولونيا، باري، ميلانو وتريستي، إلى أن هناك صلة بين تلوث الهواء والانتشار السريع لفايروس “كورونا”. ولاحظ هؤلاء الباحثون، من خلال تحليل عينات من بيانات الوكالات البيئية، وجود ارتباط كبير بين تركيزات الجسيمات الدقيقة (نوع من ملوثات الجو) ومراحل تسريع الوباء في شمال إيطاليا المعروف بكثافة النشاط الصناعي في البلاد وتركز الجزيئات الدقيقة المنبعثة من السيارات، ناهيك بارتفاع الأنشطة الزراعية والصناعية مرتفعة للغاية. بإمكان فايروس “كورونا”، وفقاً لهذه الدراسة أن يلتصق بالجزيئات الدقيقة المعلقة لمدة ثلاث ساعات في الهواء وتتحرك، وفقاً لسرعة الرياح واتجاهها. وبالتالي، يصبح تلوث الهواء من خلال الجسيمات الدقيقة، ناقلاً إضافياً لانتشاره السريع. وتبقى هذه الدراسة قيد التطوير بسبب عدم دراسة الجسيمات الدقيقة التي تنقل الفايروسات بعد، كما أن وجود الفايروس في الهواء الطلق لا يشكل الخطورة ذاتها التي يشكلها داخل الخلية الحية.
كما أظهرت صور أقمار صناعية من وكالة الفضاء الأوروبية، كيف أن وباء “كورونا” يغلق النشاط الصناعي ويخفض مستويات تلوث الهواء بشكل موقت حول العالم. وتظهر بيانات وكالة الفضاء الأوروبية انخفاض مستويات ثاني أوكسيد النيتروجين المنبعث من محركات السيارات ومحطات الطاقة والعمليات الصناعية الأخرى فوق المدن والمناطق الصناعية خلال شهري شباط/ فبراير وآذار/ مارس، مقارنة بما كانت عليه في الفترة ذاتها من عام 2019. ويعد هذا التراجع في تلوث الهواء بنظر أستاذ تلوث الهواء في جامعة ليستر بول مونكس، درساً مهماً للغاية، ويقول: “نحن الآن، عن غير قصد، نجري أكبر تجربة على الإطلاق”. ويقول مدير خدمات كوبرنيكوس الفضائية فنسنت هنري بيوش، إن مستويات ثاني أوكسيد النيتروجين انخفضت فوق ميلانو وشمال إيطاليا بنسبة 40 في المئة منذ إغلاق البلاد في 9 آذار 2020.
تالياً، إن ما يحصل هو رد فعل واضح تجاه الضغط الهائل الذي تتعرض له الطبيعة والعواقب المدمرة التي تؤدي في الغالب إلى انتشار الأوبئة والأمراض بحسب العلماء. إن اتصال الحياة البرّية بحياة الناس اليومية بسبب التمدد العمراني والبحث عن الغذاء والاتجار غير المشروع بالحيوانات والصيد الجائر، يسهل نقل الفايروسات من الحياة البرّية والاستيطان بين البشر كعدوى يتكرر على شكل كورونا- سارس وإيبولا، إنفلونزا الطيور، متلازمة الجهاز التنفسي في الشرق الأوسط، كوفيد-19 هانتا-فايروس؛ وهي كلها فايروسات حيوانية انتقلت إلى البشر. وفي هذا السياق، أشارت صحيفة “غارديان” نقلاً عن علماء بارزين إلى أن كوفيد-19 إلى أن جائحة “كورونا” كانت “طلقة تحذير واضحة” نظراً لوجود أمراض أكثر فتكاً في الحياة البرّية، وأن حضارة اليوم “تلعب بالنار”.
ويقول الخبراء إنه منع تفشي الوباء يجب إنهاء كل من الاحترار الكوني وتدمير العالم الطبيعي من أجل الزراعة، التعدين والإسكان، التي تدفع الحياة البرية إلى الاتصال بالناس. ويحث العلماء بهذا الخصوص السلطات على وضع حد لأسواق الحيوانات الحية التي تسمى “وعاء الخلط المثالي” للأمراض والاتجار غير المشروع بالحيوانات على مستوى العالم. تقول المديرة التنفيذية لبرنامج البيئة التابع للأمم المتحدة انغر أندرسن إن،”الأولوية العاجلة هي حماية الناس من فايروس كورونا والحد من انتشاره، إنما على المدى الطويل فتنبغي معالجة موائل الأحياء وفقدان التنوع الأحيائي. وبحسب دراسة علمية يعود تاريخ نشرها إلى عام 2001 في مجلةThe Royal Society، فإن 75 في المئة من الأمراض المعدية الناشئة تأتي من الحياة البرّية. والأمراض الناشئة أو المستجدة هي الأمراض التي تظهر لدى السكان لأول مرة وفق منظمة الصحة العالمية، أو التي ربما كانت موجودة سابقاً لكن وقوعها أو مداها الجغرافي يتزايد بسرعة. ويعد التغير المناخي، والديموغرافيا البشرية والحيوية، وتغير العوامل الممرضة، والتغيرات في الممارسات الزراعية، من العوامل التي تؤدي إلى الأمراض الناشئة. كما تلعب العوامل الاجتماعية والثقافية دوراً في ظهورها، مثل العادات الغذائية والمعتقدات الدينية.
خلاصة القول، إن التآكل المستمر في المساحات البرّية التي تفصل البشر عن حياة الحيوانات، سينقل تلك الأمراض التي تأويها موائل الحيوانات والبيئات الطبيعية إلى البشر. تضاف إلى ذلك عوامل أخرى مثل ارتفاع دراجات الحرارة القياسي، حرائق الغابات وظواهر مناخية جديدة مثل أسوء غزو للجراد شمل أجزاء من أفريقيا وشرق الأوسط هذا العام (2020). وتشير جميع البحوث العلمية إلى أن الأمراض الناشئة هي نتيجة طبيعية للتغيرات البيئية الناتجة عن النشاط البشري، وما فايروس “كورونا” سوى وجه من وجوه هذه التغيرات التي لا تتوقف ما لم يتوقف البشر عن إجهاد الأرض.
من هنا يبرز السؤال الأخلاقي عن ماهية الوجود في ظل استمرار التغير المناخي وتخريب النظام الأيكولوجي. لقد عالجت الأديان والفلسفات والآداب والفنون مركزية الإنسان في الوجود من دون الالتفاتة إلى تراجيديا مستمرة تعيشها الحيوانات في أسفل المركزية ذاتها ومحيطها. وقد يعالج الفنانون والكتاب والفلاسفة تلك الآثار التي نتجت عن الأوبئة الناشئة بين البشر، من دون ذكر الأسباب الكامنة وراء انتقال فيروس صغير من جسم حيوان إلى رئاتنا، ومن دون توثيق رحلة عذاب الحيوان في تاريخ الإنسان. تالياً، هل نفكر بأحوال تلك الحيوانات والطيور التي يقبض عليها في موائلها أو يتم تهجيرها منها، هل نفكر بغزونا رئات الطبيعة وتخريب النظام البيئي الحيوي، هل نعيد الحيوانات إلى المركز كما في الأساطير القديمة؟ هذه ليست أسئلة طوباوية بقدر ما هي أخلاقية وتتعلق بحياتنا قبل حياة الحيوانات. فهذا الكائن الذي نسميه بانغولين، لا يصدر الفايروس إن تركناه في موئله وشأنه. صفوة الكلام، وباء “كورونا” يدفعنا إلى إعادة التفكير بجدوى الأنسنة ما لم نضع السؤال الأيكولوجي في مركز حياتنا وأولويات اهتماماتنا.