في مقال لإيفون جرينيه، بعنوان “كونديرا… المحاصر في عالم مسيس“، يقتبس الكاتب عن كونديرا الكلمات التالية: إذا كان يتعيّن عليّ أن أعرّف نفسي، فسأقول إنني باحث عن اللذّة، محاصر في عالم مسيّس حتى الحد الأقصى”.
ميلان كونديرا، قادم من زمن كان يمكن الكاتب أن يؤثر في الجموع وأن يبث الروح في حركات التمرد، زمن يبدو أنه انتهى، وكان كونديرا هو آخر ممثليه، وبوفاته تطوى تلك الصفحة، ورغم أنه سعى بكل ما أوتي الى أن ينفي عن نفسه صفة الكاتب المنشق، كما أرادت أوروبا أن تلزمه كممثل مثالي لتراجيديا أوروبا المقسمة بين كتلتين في أثناء الحرب الباردة، إلا أن كونديرا يرى أن في وسع الروائي أن يستنطق السياسة من الخارج، من الموضع الأعلى للفن والرواية، أن يوفر ملاحظات واضحة وشفافة عن السياسة، فيما يقاوم إغواءات المشاركة في الانفعالات السياسية والأيديولوجيات السياسية.
رغم ذلك، حياة كونديرا وتكوينه ورواياته الأولى التي كتبها باللغة التشيكية قبل أن يهجرها إمعاناً في القطيعة مع وطنه الأم إلى الفرنسية، خارجة من رحم السياسة والتاريخ، والتي تعكس الفرد المستلب والمقموع نتيجة الشيوعية الستالينية في تشيكوسلوفاكيا، وأبطاله هم مثقفون يرصد كونديرا كيف يحيون داخل ذلك النظام القمعي، وكيف يعيشون ويحبون داخل ثورات مهزومة، أما تلك التي كتبها باللغة الفرنسية، فلم تتخلّ عن قوتها الأدبية، ومعماره الفريد في عالم الرواية، لكنها مالت بشكل أوضح إلى تصوير مثقفين يحيون في عالم من الخفة واللامبالاة.
برع كونديرا، مثل صمويل بيكيت وإميل سيوران، في استخدام اللغة الفرنسية التي تعلمها في تشيكوسلوفاكيا خلال طفولته. وبعد تمضية 20 عاماً في فرنسا والتعليم الجامعي، تمكن كونديرا من تطوير لغته الفرنسية واستخدامها بشكل متين ومحكم، ما جعل كبار الكتاب والناشرين الفرنسيين يحترمونه ويُعجبون بدرايته البلاغية والإيقاعية للغة الفرنسية. وعلى رغم ذلك، فإن علاقته بالفرنسية والوسط الأدبي الفرنسي لم تكن دائماً سهلة، إذ تعرض لانتقادات حادة بعد صدور روايته الأخيرة “حفل التفاهة”، ما دفعه إلى نشرها أولاً باللغة الإيطالية قبل صدورها بالفرنسية، كما كان دائم الانتقاد لمترجمي رواياته من التشيكية إلى الفرنسية، الذين أفقدوها حس السخرية.
ميلان كونديرا، قادم من زمن كان يمكن الكاتب أن يؤثر في الجموع وأن يبث الروح في حركات التمرد، زمن يبدو أنه انتهى، وكان كونديرا هو آخر ممثليه، وبوفاته تطوى تلك الصفحة
ربيع براغ
كان كونديرا ضمن مجموعة كبيرة من المثقفين الذين ألهمت كتاباتهم حركة “ربيع براغ” التي بدأت ضد النظام الشيوعي الديكتاتوري وضد الهيمنة السوفياتية على تشيكوسلوفاكيا، مثلما كان لجان بول سارتر الأثر نفسه على الحركة الطلابية في باريس.
كان كونديرا حينها، يدرس الأدب في “مدرسة السينما” بالعاصمة براغ، عدد كبير من طلابه سيتحولون إلى مجموعة من أبرز مخرجي السينما أو ما سيُعرف بـ”الموجة الجديدة التشيكية”، وسيعانون مما عانى منه أستاذهم لودفيك بطل روايته “المزحة” المنشورة عام 1967، سيجد بعضهم نفسه مفصولاً من العمل والحزب أو سيواجه المنفى، علاقة ستؤسس لحالة قطيعة مع التشيك، ستكون حياة كونديرا بعدها هي إمعان في تلك القطيعة، حتى أنه سيرفض لفترة طويلة ترجمة رواياته التي كتبها بالفرنسية إلى التشيكية، حتى بعدما صارت مسموحة له العودة إلى الوطن وأعيدت إليه جنسيته التشيكية التي فقدها.
وُلد كونديرا لعائلة تنتمي الى عالم الفن والأدب، إذ كان والده لودفيك كونديرا عالم موسيقى ورئيس جامعة جانكيك للآداب والموسيقى ببرنو. تعلم ميلان العزف على البيانو من والده، ولاحقاً درس علم الموسيقى والسينما والآدب، تخرج في العام 1952 وعمل أستاذاً مساعداً، ومحاضراً في كلية السينما في أكاديمية براغ للفنون التمثيلية. نشر أثناء فترة دراسته شعراً ومقالاتٍ ومسرحيات، والتحق بقسم التحرير في عدد من المجلات الأدبية، وبنى في فترة مراهقته ثقافة واسعة تجمع بين الشعر والرواية والفلسفة.
شبّ كونديرا كشيوعي مخلص وملتزم، وانضم إلى صفوف الشبيبة الشيوعية، وكتب في بداياته قصائد تمدح الزعيم ستالين، بل ونشر أكثر من ديوان شعري بالتشيكية، يتراوح بين البعد الغنائي والسياسي المباشر، لكن كونديرا سيحرص عند صدور أعماله الكاملة التي طبعتها دار غاليمار في سلسلة ” لا بلياد” عام 2011، على ألا تتضمن أياً من شعره أو نصوصه الأولى.
برزت نبرته المتهكمة في روايته الأولى “الحياة هي في مكان آخر”، والتي تدور حول شاعر شاب يعيش انقلاب ربيع براغ بحماسة، قبل أن يصبح عميلاً لدى أجهزة الأمن، لكنه كان قريباً من الحزب الحاكم، إلا أن نقطة انطلاقه الحقيقية بحسب النقاد، كانت في مجموعة “غراميات مرحة”، وهي مجموعة من سبع قصص قصيرة، يتبلور فيها أسلوب كونديرا: المزج بين الحدث الأقصى للمأساة والمواقف الكوميدية بخاصة في علاقات الحب، وتبرز فيها تيمة المزحة وعواقبها، ويستخدم فيها التقنية التي ستميزه لاحقاً، والتي يمزج فيها بين السرد الشخصي والتعليقات الفلسفية واستعمال الحكاية التاريخية للإضاءة على شخوص رواياته، جامعاً كما قال في حوار مع “باريس ريفيو” عام 1983، بين الجدية القصوى مع أقصى درجات الخفة في الشكل، فـ” الجمع بين شكل تافه وموضوع جاد يكشف على الفور حقيقة مسرحياتنا اليومية التي نلعبها على المسرح العظيم، وعدم أهميتها المروعة، نحن نختبر خفة الوجود التي لا تطاق”.
طُرد كونديرا من الحزب، عندما أعلن في محاضرة قدمها أمام المؤتمر الرابع للكتاب التشيكي، “عن الحاجة إلى إعادة كرامة الأدب وجودته” بحسب كتاب “السيرة غير المعروفة لميلان كونديرا” لآريان شومان، الصادر بترجمة عربية عن دار ترياق، ووجّه إلى كونديرا اللوم في مذكرة رسمية.
كان باكلاف هافيل، والذي صار لاحقاً رئيساً لجمهورية التشيك، أحد أشهر المثقفين التشيكيين، هو واحد من رفاق درب كونديرا الذين أثروا في حركة التمرد في ربيع براغ، إلا انهما اختلفا بالرأي بعد الاجتياح الروسي لبراغ في آب/ أغسطس 1968، فحتى عام 1969، كان كونديرا يرى أن هذا الاجتياح لم يكن نهاية المطاف، وأن الشعب التشيكي أبرز من خلال تمرده “إمكانات ديمقراطية جبارة لبلاده، رقدت منكسرة في مشروع المجتمع الاشتراكي”، وأن الشعب أجبر أوروبا على “أن ترى عظمته”، وأن الدبابات الروسية صدّت حركة التمرد، لكنها لم تنتصر عليها نهائياً، وهو ما رأى فيه هافيل “كلمات وهمية تتوسل صور الوطنية الخادعة للنفس عبر تعظيمها”. الواقع أثبت أن هافيل كان على حق، إذ استمرت البلاد تحت قيادة الزعيم الشيوعي غوستاف هوك، ما دفن أي أمل للناس بالإصلاح على مدار عقدين.
نالت “غراميات مرحة” اهتماماً كبيراً خارج تشيكوسلوفاكيا، ونشر أحد فصولها في مجلة “الأزمنة الحديثة” التي يديرها جان بول سارتر، بينما نشر الشاعر أراغون فصلاً آخر منها في مجلته “الآداب الفرنسية”.
واستطاع أحد رفاق كونديرا تسليم مسودة المزحة إلى أراغون، ووعده بكتابة مقدمة الترجمة الفرنسية. نال كونديرا جائزة اتحاد الكتاب في تشيكوسلوفاكيا عن روايته المزحة، إلا أن الصحافة الفرنسية وللترويج للترجمة الصادرة عن دار جاليمار، ربطت بين الرواية وما حدث في ربيع براغ، لتصور كونديرا بوصفه “الكاتب الملتزم”، وهو ما علق عليه كونديرا لاحقاً، “آنذاك، كنت في نظر الجميع جندياً فوق دبابة”.
بعدها، بدأ فصل جديد في حياة كونديرا، إذ طرد من الحزب وألغى تعاقده مع كلية السينما عام 1971، وسحبت كتبه من المكتبات، ليبدأ رحلة المنفى إلى باريس، وبعد ظروف حياتية قاسية، ذاعت شهرة كونديرا عالمياً بسبب روايته “كائن لا تحتمل خفته”، التي تُرجمت إلى لغات عدة، لكنه عانى من قرار الحكومة الشيوعية في تشيكوسلوفاكيا، بسحب جنسيته، إذ لفت ذلك الانتباه إليه ككاتب منشق، وهو ما سيعمل طويلاً على مكافحته.
بحسب إبراهيم العريس، في مقاله ميلان كونديرا كبير المنشقين.
“لا شك أن هذا كله قد أسبغ على كونديرا فرادة، وحال دون جعل أدبه الغاضب والمشاكس مع ذلك، بيادق تستخدم في لعبة شطرنج كونية. باكراً أدرك كونديرا أن أسوأ ما قد يحدث له هو أن يُستخدم. لأنه كان يعرف أن لكل “استخدام” فترة صلاحية محددة هي النقيض لفعل الإبداع نفسه”.
إقرأوا أيضاً:
لكن كيف يمكن الفكاك من أثر السياسة؟
ما شكل تجربة كونديرا الحياتية هو العيش في كلا جانبيّ الستار الحديدي، بعد خيبة الأمل التي أحدثها ربيع براغ في 1968، الاضطهاد والمضايقات، ثم المنفى الاختياري في باريس، حيث وجد المشهد الثقافي تحت هيمنة اليسار، وعبر تجربة مختلفة جداً عن أحداث 1968 الفرنسية، وفي جو من الارتياب تجاه منشقي الكتلة الشرقية.
وفيما حظي كونديرا بمقروئية واسعة في فرنسا، كان أشبه بأب غائب للأدب التشيكي، وبحسب الفيلم الوثائقي للمخرجة التشيكية جارميلا بوزكوفا: ميلان كونديرا… أوديسا الأوهام المغدورة”، ظلت كتب كونديرا ممنوعة لعقود، لكن ذلك لم يمنع بعض القراء من الوصول إليها. يقول الكاتب الشاب يان نيمتيس في الفيلم، إن كونديرا رغم ذلك المنع يكون هو أول كاتب يقرأه المرء حين يدخل عالم القراءة. ورغم أن أبرز أعمال كونديرا كتبت في عقدي السبعينات والثمانينات، إلا أنها لن تصبح متاحة أمام التشيكيين إلا بعد عام 2006.
كل ما سبق يحيل إلى علاقة متلبسة بين كونديرا وبلده الأم، فمن ناحية هو يمثل للجيل الجديد من الكتاب دور الأب الذي إما ينظر الى إنجازه باحترام ويسير اللاحقون على خطاه، أو التمرد عليه والتعسف تجاهه وتلقف كل ما يدينه بنوع من الهيستيريا من دون التدقيق، كما حدث معه عندما اتُّهم من الصحافة التشيكية، بأنه عمل مع الأمن وأبلغ عن جاسوس غربي، وهو ما ثبت من خلال شهادات لكتاب آخرين عدم دقته.
ساد انقسام حاد في الساحة الثقافية التشيكية حول كونديرا، فهناك قسم يحتفي به باعتباره أعظم كاتب تشيكي على قيد الحياة و”سفيراً فوق العادة” لبلده في الساحة الأدبية العالمية، بغض النظر عن اللغة التي يكتب بها. وهناك قسم آخر يتهم كونديرا بالتعالي على وطنه بسبب إصراره على رفض ترجمة رواياته المكتوبة بالفرنسية إلى التشيكية وحرمان أبناء بلده من قراءته في لغتهم، بل إن بعض الصحافيين التشيكيين غالوا في هجومهم على كونديرا واتهموه بالخيانة.
يرفض كونديرا مفهوم المسؤولية السياسية للكاتب، ويفضل تبني دور الروائي الذي يكرس نفسه للجمالية والالتزام بنقل تقاليد أدبية محددة. يرى كونديرا أن من الإهانة أن يتم النظر إلى أعماله الأدبية على أنها “رواية سياسية”. في كتابه “الوصايا المغدورة”، يعبر عن نفوره العميق والمتأجج تجاه أولئك الذين يبحثون عن معنى (سياسي، فلسفي، ديني.. الخ) في العمل الفني، بينما يتجاهلون البحث عن الفهم والاستيعاب للواقع من خلال العمل الفني ذاته.
بالنسبة الى كونديرا، “الحركات السياسية لا ترتكز كثيراً على المواقف العقلانية قدر ارتكازها على الخيالات الجامحة، الصور، الكلمات، والنماذج الأصلية التي تأتي معاً لتشكيل هذه المادة السياسية أو تلك”.
في روايته “الخلود”، الراوي (الذي هو صدى لكونديرا نفسه) يفسر على نحو نموذجي أن “بقايا ماركس لا تعود تشكّل أي نظام منطقي من الأفكار، إنما فقط سلسلة من الصور المثيرة للذكريات والعواطف، ومن الشعارات (عامل مبتسم يحمل مطرقة، رجال بيض وسود وصفر بأيدٍ متشابكة على نحو أخوي، حمامة السلام وهي ترتفع نحو السماء، وهلم جرا)، إننا نستطيع أن نتحدث على نحو شرعي عن التحوّل التدريجي، الشامل والهائل، للأيديولوجيا إلى علم الصورة”.
رغم ذلك، تظل كتابات كونديرا مليئة بالتعليقات السياسية الباذخة والمثيرة للاهتمام، والتي تتميز بالبصيرة العميقة، ومن الصعوبة بمكان فصل المعالجة السياسية لأعماله عن مضمونها، إذ هي تستعرض تعقيدات الحياة من منظور ساخر ومتهكم وشديد العمق من الناحية الفلسفية، إلا أن بعضها قد يعد وثائق أدبية فريدة ومهمة تعكس فترة تاريخية حاسمة للتشيك تحت الحكم الشيوعي.
وبحسب الكاتب إيفون جرينيه، فإن نقد كونديرا للسياسة يمكن أن يُرى كغطاء لشيء جوهري أكثر: فردانيته الراديكالية، المتجذرة في ارتيابه العميق لأي تمثيل للفكرة الجماعية، القائلة بأن الأيام المقبلة ستكون مفعمة بالفرح والتفاؤل.
إقرأوا أيضاً: