“أعرّفكم جميعاً إن السجن سور
أعرّفكم جميعاً إن الفكرة نور
وعمر النور ما يعجز يقزح ألف سور
وعمر السور ما يقدر يحجز بنت حُور”
أحمد فؤاد نجم
المعطي منجب، رجل يسير على حافّة النسيان الذي يُكتب ويُفرض قسراً، لا كما يُشتهى، وكأن ميلان كونديرا أخرجه من صفحات “كتاب الضحك والنسيان”، فألقى به في قلب مغربٍ يحترف القتل الرمزي… فُصل منجب عن التدريس في الجامعة، وطُرد من قنوات البلاد العمومية، ومن الذاكرة الرسمية. تماماً كأولئك الذين تُمحى وجوههم من الصور الجماعية في زمن الشمولية، يُراد لمنجب أن يُمحى لا جسداً، بل معنى، أن يُقصى من السرد الرسمي، لا لأنه أخطأ، بل لأنه تجرّأ على التذكير بالماضي، على إنارة الحاضر حتى لا يكون المستقبل غربيباً، كأقبية السجون.
المعطي منجب ممنوع من السفر، لا لأن الطائرات لا تُحلّق، بل لأن السلطة تخاف من الفكر حين يعبر الحدود. لا أحد يمنع جسداً من الطيران إلا حين يخشى أن تُسافر معه فكرة، شيء يُشبه عالم كونديرا، فكما في مغرب منجب، الخطر ليس في الفعل، بل في القول؛ فالكلمة تُحاسَب عليها حين تُطلقها من فيك حرّةً، ولذلك، يُحبس الحبر، وتُجمّد الحناجر، ويُتّهم الحالم بالخيانة.
فعندما وصل المعطي منجب (63 عاماً) أستاذ التاريخ في جامعة محمد الخامس في الرباط، إلى مطار العاصمة المغربية في الثالث من نيسان/ أبريل، متوجهاً إلى باريس، لإلقاء محاضرة في جامعة السوربون، ذلك الصرح الأكاديمي العريق الذي تخَرّجَ فيه منذ سنوات مضت، بعدما أمضى سنوات من الدراسة العميقة، واعتبره دوماً بيته الثاني، ومكاناً منحه المعرفة وساعده على تكوين رؤيته النقدية تجاه الواقع السياسي.
حصل على بطاقة صعود الطائرة من دون أي مشاكل، وكانت فكرة السفر تسري في قلبه بهدوء؛ ظنّ أنه أخيراً سيكون قادراً على الخروج من طوق القمع الذي يُحيط به في وطنه، ولو إلى حين!
لكن، سرعان ما تحوّلت لحظات الطمأنينة تلك إلى صدمة قاسية، فبعد وصوله إلى بوابة المغادرة، اكتشف أنه ممنوع من السفر… لم يكن الأمر مجرّد تأخير روتيني أو مشكلة في الإجراءات، بل كان قراراً مفروضاً عليه من خلف الأبواب المغلقة، حيث لا يملك المعطي سوى أن يُعطي مصيره لمانعه المستبدّ.
كان في تلك اللحظة، وكأن جواز سفره الذي حمله طوال سنوات من النضال والبحث، تحوّل إلى وثيقة عبور إلى واقع جديد من القيود! كيف يمكن لروحٍ تتوق إلى الحرّية أن تصطدم بجدار من المنع المتكرّر؟ كيف للعلم أن يُمنع من الانتشار في العالم، في حين أن كلّ كلمة يكتبها تدين الأنظمة المهيمنة؟
المعطي منجب لم يكن مجرّد أستاذ جامعي، بل كان جسداً لفكرة لا تموت، فكرة الحرّية الفكرية التي تتسلّل عبر الكتابة والبحث؛ فهو لم يكن ليرتدي جواز سفره كما يفعل سواه، ليحمل أعباءه وهمومه الشخصية فحسب، بل كان يحمل معه روحاً نقية من الحلم الذي يُعانق العدالة ويُواجه الاستبداد.
كانت محاضراته وكتاباته بمثابة أسلحة فكرية تكشف خيوط “البنية السرّية” للنظام المغربي، وكانت تعريته لـ”البوليس السياسي” الذي يعشّش في الخفاء داخل كلّ مفاصل المجتمع والوطن؛ تفضح الشبكات المظلمة التي تحيك المؤامرات ضدّ كلّ من يجرؤ على التفكير بحرّية.
منعه من السفر كان جزءاً من المحاصرة التي فرضها عليه النظام، بداية من منع التدريس الجامعي، وصولاً إلى الحصار الإعلامي الذي سعى لتشويهه بكلّ الوسائل، وكلّ أدوات التشهير الرخيصة التي تُذكّرنا بهواة النميمة من عاطلي الحواري والأزقّة الشعبية.
لقد فهم النظام جيداً أن المعطي منجب هو مفتاح فكّ الطلاسم السرّية لبنية حاكمة تستمرّ في الظلال؛ فكلّ كلمة كان يكتبها، وكلّ تحليل كان يُقدّمه، كان يُسلّط الضوء على مكامن القوّة والفساد التي تكمن في “الطبقات المغلقة”، التي لا يرغب أحد في أن تُكشف.
لقد فُرض على الرجل صمت قسري في قاعات الجامعة، أُغلقت عليه أبواب السفر، وحُجب عنه حقّه في التنقّل، في صورة واضحة، يتجلّى في فعل الدوس على الدستور والقانون.
لم يكن ذلك مجرّد قرار إداري، بل كان بمثابة رسالة: لا حرّية لمن يفضح الألاعيب السياسية، ولا سفر لمن يسعى إلى كشف المستور! لكنّ المعطي، الذي يعرف جيداً كيف يُفكّك الأشياء، يُدرك أن الحقيقة لا تُسجن في مطار، ولا تُعتم في ردهات المحاكم المثقلة بالقضايا التي تدين مخرجها ومصوّرها وحتى السيناريست الغبي والبغي في الآن معاً.
ومع ذلك، لم يكن يهمّه الحظر، سواء كان على جناح سفره أو على قلبه، وهو الذي اقتحم الموت جوعاً في إضراب عن الطعام… لا يهمّه كلّ ذلك، لأن المعطي منجب، حتى وإن كان ممنوعاً من السفر، فإنه لا يزال يحمل جوازاً آخر، جوازاً من نوع مختلف؛ جواز حرّية الفكر والكلمة.
وإنه لجواز لا يُسحب ولا يُمنع؛ لأنه جواز الروح الحرّة، جواز القلم الذي لا يعترف بالحدود، جواز الحقّ الذي يُعبّر عن ذاته في أقسى الظروف!
حين منعوه من السفر، سخروا من فكرة أن الكلمات يُمكن أن تُتحرّر من كلّ حرس الحدود، لكنهم نسوا شيئاً أساسياً؛ الفكرة لا تُسافر عبر المطارات أو بختم جوازات السفر، ولا تسكن في الحقائب، بل تنتقل عبر الأذهان، تُسافر على أجنحة العقول، وتنتقل من صدر إلى صدر، لا تحتاج إلى إذن من أحد لتتحقّق.
المعطي منجب لا يُمنع، لا يُحاصر، لأنه يحمل الحقيقة معه، والحقيقة لا تقبع في مطار ولا تستسلم لمنع!
المعطي في كلّ لحظة، في كلّ كلمة، في كلّ ملاحظة، يتحرّر أكثر مما كان عليه قبل أن يُمنع، وهذا هو جوازه الآخر الذي لا يُمكن لأي نظام أن يُوقفه عن السفر الفكري… هذا هو جوازه الذي لا يخضع لإجراءات التفتيش، لأنه جواز الوعي، جواز الحرّية، الذي لا يُوقفه حرس الحدود ولا قيود الأنظمة.
يتصادف هذا المنع، مع أشرس هجوم على حرّية الصحافة، وأكبر انتكاسة في حرّية الرأي والتعبير، لم تشهده البلاد حتى في سنواتها الأكثر ديكتاتورية في زمن الشمولي الحسن الثاني ووزير داخليته المستبدّ إدريس البصري، التي حملت اسم “سنوات الجمر والرصاص”، وهاهي اليوم المملكة العلوية تشهد سنوات جمر من نوع آخر، وفي ما سمي زوراً بـ”العهد الجديد” الذي يبدو أنه لم يُجدّد سوى آليات القمع، وتقنيات المنع، رغم أن العقلية السياسية التي ورثها من ذلك الزمن المقبور البائد وغير المأسوف عليه؛ ما زالت قائمة، مسلّطة على رؤوس الجميع، كأنها “سيف ديموقليس” المخزني (مصطلح مغربي للدلالة على مسؤولي الدولة).
كلّ هذا، يأتي بينما البلاد تعيش أيضاً في الوضع السياسي الأكثر توتّراً منذ تولّي الملك محمد السادس العرش، صراعات إقليمية، وقطيعة مع الجزائر، وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، واقتصاد جريح، مع نخبة سياسية متشبّثة بامتيازاتها بخوف، وأحزاب هجينة تلهج بمدح النظام القائم، ومنافذ إعلامية خاضعة إلى حدّ كبير للمخابرات وأموال المستشهرين والدعم العمومي، التي فُرض عليها من فرط هشاشتها، شنّ أكبر هجوم منسّق بالتشهير والسبّ والقذف ضدّ كلّ من عاكس هذا التيّار.
المعطي منجب، مؤرّخ يُعيد معه التاريخ نفسه في صيغة مغربية حديثة، فقبله مفكّرون قوبلوا بالقمع، وما يُعانيه هو اليوم ليس حالة فريدة أو استثنائية، بل هو جزء من تاريخ إنساني طويل من قمع المفكّرين والنشطاء السياسيين الذين حاولوا كشف الحقيقة وفضح الأنظمة المستبدّة، إنه “العود الأبدي” الذي حدّثنا عنه “نيتشه”؛ في صورته الناقصة، المشوّهة بالتزوير، بعد تكرّر كلّ هذه الاستعارات الديكتاتورية لها.
إقرأوا أيضاً:
في التاريخ، هناك العديد من الأمثلة التي أثبتت أن الأفكار الجريئة لا بدّ أن تُواجه القيود، وأن الأنظمة التي تخشى النقد تُقاوم الحرّية الفكرية بكلّ ما أوتيت من قوّة… هناك سفيتلانا أليكسيفيتش، الصحافية البيلاروسية الحائزة على جائزة نوبل في الأدب، كانت هدفاً للقمع من قِبل النظام البيلاروسي بسبب مواقفها المعارضة.
لقد تمّ تهديدها بعدّة طرق، ومُنعت من السفر في العديد من المرّات، بسبب كتاباتها التي فضحت الفساد والقمع في بلادها، حيث كانت كلماتها أسلحة تُهدد النظام الذي لا يقبل النقد.
نيلسون مانديلا، الذي قضى أكثر من 27 عاماً في السجن بسبب نضاله ضدّ الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، كان يعاني من قيود شديدة على حرّيته. حتى بعد خروجه من السجن، استمرّ في مواجهة العديد من القيود على حركته بسبب نشاطاته السياسية المناهضة للظلم العنصري.
سلمان رشدي، الكاتب البريطاني من أصل هندي، الذي أصدر كتابه “آيات شيطانية” في عام 1988، فوجئ بفتوى من إيران تُطالب بقتله بسبب محتوى الكتاب الذي اعتُبر مسيئاً للإسلام. ورغم أن رشدي عاش حياة مختبئة لسنوات طويلة بسبب هذه الفتوى، فإن أفكاره واستمرار نشرها كانا بمثابة تحدٍ ضدّ أي محاولة لإسكات الكتّاب والمفكّرين.
فرانسيسكو فرانكو، الديكتاتور الإسباني، كان يُلاحق المفكّرين والصحافيين والنشطاء الذين تجرّأوا على معارضة حُكمه الاستبدادي، حيث تمّ تكميم الأفواه، وسجن العديد من المعارضين، ومنع السفر عنهم لتقليص تأثيرهم، مات فرانكو وهو الآن نائم في إغفاءة الأبدية في مزبلة التاريخ، ولكنّ الذين منعهم ما يزالون أحياء في قلوب الإسبان، وفي ذاكرة الديمقراطية التي تعيشها إسبانيا.
ومثل “تامينا”، تلك الشخصيّة التي تبحث عن دفاتر ذكرياتها المسروقة، في “كتاب الضحك والنسيان” لكونديرا، يبحث المعطي عن واقع اليوم في ثنايا التاريخ، ببساطة يا قوم الرجل لا يُريد أكثر من أن يقول: هذا ما رأيت، هذا ما قرأت، هذا ما فهمت من بلدي.
ولكنّ النظام لا يُحبّ الذاكرة، بل يخاف من أرشيف النضال، من دفاتر الممانعة، من تدوين الهامش المنسي، بقدر ما يُفضّل الصمت، ولا يُريد للمثقفين والصحافيين سوى أن يبتسموا في الصور كأفراد عصابة؛ ثم يختفوا كأنهم لم يكونوا.
في عالم المعطي، كما في روايات كونديرا، لا تنتهي القصّة عند المنع، بل تبدأ؛ لأن الذين يُمنعون من السفر هم الذين زرعوا أجنحة غير متكسّرة داخل عقولهم، والذين يُمنعون من الكلام هم الذين علّقوا أصواتهم في ضمائر الآخرين.
وهكذا، يظلّ منجب حرّاً، حتى وهو مقيّد؛ حاضراً حتى وهم يشطبونه من القوائم؛ يظلّ خالداً، لأنه ببساطة، لم يتوقّف عن الحلم، حلم بمغرب تُشرق فيه شمس الديمقراطية لا أن تأفل فيه، فقد كان الرجل يفتح خرماً في دُرج الظلام المخزني كلّما أحكم الاستبداد إغلاقه، وكان يكشف قدرتهم على فعل أي شيء في أي وقت، إنه يعرفهم أكثر من أنفسهم، لهذا يُريدونه أن يصمت وإلى الأبد!
المعطي منجب، مثل هؤلاء، لا يُراد له أن يكون حرّاً في تنقّلاته أو في أعماله الأكاديمية، لكنّ الحقيقة أن الأفكار، مثل النهر، لا يُمكن أن تُوقف بقرار مانع غير دستوري، بل ستستمرّ في الجريان حتى لو تمّ سدها بحصار “البوليس السياسي”.
فكما فُرض عليه الصمت الأعجم في قاعات الجامعة، فإن المعطي، الذي يعرف جيّداً كيف يُفكّك الأشياء، يُدرك أن الحقيقة لا تُسجن في مطار، فهو يحمل جوازاً آخر، جوازاً من نوع مختلف؛ جواز حرّية الفكر والكلمة الحرّة.
يا مُعطي ما يجبُ لمن لا يُحبُّ، يا من يقدّم نفسه قرباناً لحرّيتنا، يا من وضعتَ جسدك على تخوم الألم ليعبر الحلم، حلمنا في صعود هضبة العدالة والديمقراطية؛ يا من رفعت كفّك لا لتلوّح بالوداع من مطار المنع، بل لتُقسم أن لا تُنزِلها حتى يرتفع هذا الوطن فوق الهامات، مهما داس على الهامات.
إنهم لا يمنعونك ويُحاصرونك وحدك، بل يمنعون صوتنا إذا مرّ من حنجرتك، ويكسرون ظلّك لأننا اتّكأنا عليه، إنهم لا يخافون وجعك، بل يخافون أن يُضمّد وجعك كسورَ الجَمع، يهابون إقدامك على خياطة راية الوطن المحلوم به بجراحك الخفيّة، يفزعون من أن تجعل من نزفك نشيداً، ومن خطواتك طريقاً نعود فيه إلى أنفسنا.
يا من سكن التاريخ اسمه، واختبأت الشجاعة في ظلاله، قل لمانعك قول ابن المُقَرَّب العيوني:
“رِماحُ الأَعادي عَن حِماكَ قِصارُ
وَفي حَدِّها عَمّا تَرومُ عِثارُ
وَكُلُّ اِمرِئٍ لَيسَت لَهُ مِنكَ ذِمَّةٌ
يُضامُ عَلى رَغمٍ لَهُ وَيُضارُ”.
إقرأوا أيضاً: