fbpx

كيف أمسك السيسي بزمام الدولة العميقة؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

حتى بداية عام 2011، كانت مصر تُدار من خلال ثلاثة أجهزة أمنية. وعلى رغم خلافاتها، إلا أنها كانت كلها تخدم نظام مبارك حتى رحيله. بعدها بدأت الصراعات بينها، حتى جاء السيسي ليُحكم قبضته على هذه الأجهزة من جديد، فكيف حدث ذلك؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

صبيحة 25 كانون الثاني/ يناير 2011، كانت مصر تُدار من خلال ثلاثة أجهزة أمنية هي المخابرات العامة، والمخابرات الحربية والأمن الوطني. وعلى رغم خلافاتها وتنافسها وتداخل بعضها في اختصاصات الأخرى، إلا أنها كانت كلها تخدم نظام حسني مبارك وتأتمر بأمره، حتى رحيله. بعدها بدأت الصراعات بينها، حتى جاء عبد الفتاح السيسي ليُحكم قبضته على هذه الأجهزة من جديد، فكيف حدث ذلك؟

أجهزة ما قبل الثورة

في نهاية عهد مبارك كان جهاز أمن الدولة هو صاحب اليد الباطشة للنظام، وهو المتحكم الأول في إدارة شؤون الدولة، بخاصة مع وجود اللواء حبيب العادلي على رأس وزارة الداخلية آتياً من هذا الجهاز الذي أمضى فيه معظم فترة خدمته، إضافة إلى قربه من نجل الرئيس جمال مبارك الذي كان يطمح إلى تولي الرئاسة، وقد نجح العادلي في تضخيم قوة وزارته بشرياً وتسليحاً، حتى كادت تتحول إلى جيش جديد داعم ومساند للوريث، بخاصة مع وجود مؤشرات على رفض المؤسسة العسكرية ذلك المشروع، وتعميق عمل جهازه الاستخباراتي في الشؤون كافة.

كذلك كان لجهاز المخابرات العامة قوة وسيطرة كبيرة على ملفات كثيرة، لا سيما الحساسة منها داخلياً وخارجياً مدنياً وعسكرياً، ونظراً إلى قرب مديره الأسبق اللواء عمر سليمان من مبارك الأب الذي يتبعه الجهاز مباشرة فقد كان هناك الكثير من الخلافات بين الجهاز وبقية الأجهزة، سواء مع جهاز أمن الدولة في بعض الملفات السياسية الداخلية مثل معارضة نجل الرئيس أو الوضع في سيناء، أو مع جهاز المخابرات الحربية في التعامل الأمني داخل سيناء أو مع القضية الفلسطينية وقطاع غزة وبعض المصالح الاقتصادية والاقليمية، وكذلك مع وزارة الخارجية التي لطالما عبرت عن امتعاضها من تدخل الجهاز في شؤونها.

أما المخابرات الحربية، فقد كانت تُحافظ على مسافة بينها وبين الأمور السياسية أو الملفات الداخلية التي لا تمس بأمور القوات المسلحة الاقتصادية أو رؤيتها الأمنية أو بعض العلاقات الإقليمية، إلا أنها كانت على رغم تلك المسافة على إطلاع ومتابعة لشؤون البلاد بشكل جيد، وهو ما ظهر جلياً بعد ثورة يناير.

ما بعد يناير

بعد سقوط مبارك في 2011، تغير الوضع تماماً وأصبحت المخابرات الحربية على رأس الأجهزة الأمنية التي تُدير شؤون البلاد، بعد تولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحكم، وتُشير أحداث السنوات التالية إلى أن رئيس الجهاز وقتها والرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي كان قد عزم الأمر على السيطرة على بقية الأجهزة لتملك زمام الأمور والسيطرة على شؤون الدولة بجميع ملفاتها.

في 5 آذار/ مارس 2011، سمحت القوات المسلحة لبعض المتظاهرين باقتحام مراكز أمن الدولة في محافظات عدة في وقت واحد واستخراج الملفات الأمنية الخاصة بالجهاز، والتي كانت تحتوي على معلومات ووثائق عن كافة أمور الدولة السياسية وغير السياسية. تلك الملفات استلمها الجيش وأصبحت بحوزة المخابرات الحربية. ورغم ما قيل عن تلك الواقعة من أن الاقتحام كان مُدبراً لزعزعة الدولة، إلا أن تصريحاً سابقاً أدلى به اللواء إسماعيل عتمان مدير إدارة الشؤون المعنوية وقتها، يُشير إلى أن ذلك تم برضا كامل من الجيش. اتضح بعد ذلك أن هناك رغبة لدى المخابرات الحربية في الاطلاع على تفاصيل الحياة السياسية في مصر وتحديد طرائق التعامل مع الفاعلين فيها، وهو ما ساعد رئيسها –عبد الفتاح السيسي – بعد ذلك في التواصل والتعامل مع التيارات والنشطاء السياسيين بنفسه، وكذلك الحصول على الملفات الخاصة بضباط جهاز أمن الدولة أنفسهم، إلا أن وضع وزارة الداخلية بأكملها بعد الثورة كان أضعف من أن يُنافس أو يُخالف جهاز المخابرات الحربية.

وعلى رغم محاولة الجيش والمخابرات الحربية مهادنة الثورة وإظهار انسجامها مع مطالب تطهير الداخلية وإعادة هيكلتها بما يتناسب مع مطالب الثورة بمعاملة كريمة وتفعيل حقوق الإنسان، إلا أنهم قاموا تدريجيا بالعمل على تقوية الداخلية من جديد وإعادة تسليح الضباط بشكل أحدث من قبل، وزيادة رواتبهم وشنّ حملات إعلامية لتحسين صورهم، وذلك لاستخدامهم في إعادة السيطرة على الشارع عبر حملات قمعية ومواجهات ضد متظاهرين سقط ضحيتها مئات القتلى، قام المجلس بإخفاء مسؤوليتهم عنها واتهام أطراف خفية بها. وهكذا حافظت المؤسسة العسكرية على علاقات ودية وحميمة مع الشرطة لا سيما جهاز الأمن الوطني الذي كان له دور كبير في مرحلة لاحقة، مع الحفاظ على سيادة الجيش وارتفاع مرتبته في أي مناوشات تحدث بين أفراد المؤسستين.

ولكن العلاقة بين الجهازين تعمقت أكثر بعد تولي السيسي وزارة الدفاع وكذلك تولي اللواء محمد إبراهيم وزارة الداخلية في عهد الرئيس السابق محمد مرسي. وتدل مؤشرات كثيرة على تعميق هذا التقارب منذ زيارة رئيس الأركان وقتها الفريق صدقي لدولة الامارات –المعروف قُربها من وزارة الداخلية التي ظل ولاؤها لحبيب العادلي. وأكد مبارك في تصريحه خلال معرض آيدكس للسلاح، أن القوات المسلحة على استعداد للنزول إلى الشوارع من جديد حال طلب الشعب منها ذلك.

ومع تزايد حدة الاضطرابات في عهد مرسي، تزايد نفوذ جهاز الشرطة والأمن الوطني وقوتهما، برضا من الرئيس الذي ظن أن تلك القوة ستكون في صالحه، فعمل على تضخيم تسليحها وزيادة نفوذها، حتى تم عزل مرسي بعد مظاهرات حاشدة. كان من الواضح رضا المؤسسة العسكرية والشرطة عليها، وما تبع ذلك من تقارب شديد بين السيسي شخصياً وجهاز الشرطة. فقام بحضور حفلات تخرج طلابها ولقاء قياداتها العليا والمتوسطة، وأبلغهم خلالها أنهم اليد التي ستُدير البلاد في المرحلة اللاحقة، ووفق أحد الحاضرين، قال السيسي في لقائه “أنتو رجالتنا اللي ع الأرض”.

ومنذ عزل مرسي وحتى اللحظة الحالية اتبع السيسي منهجاً خاصاً في التعامل مع الشرطة، إذ حرص على تحصينهم من المحاكمات أو أي عقوبات تنتج عن انتهاكاتهم بحق المعارضين أو بقية المواطنين حتى شهدت أقسام الشرطة مئات من حالات التعذيب التي أدت إلى كثير من حالات الوفاة وفق تقارير حقوقية، وكذلك تأمينهم من المخالفات المالية فقام بعزل رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات المستشار هشام جنينة، بعد فضحه مخالفات مالية وسرقات بلغ بعضها 2 ونصف مليار جنيه، كما أشرك الجهاز في القطاع الاقتصادي وأصبح للشرطة منافذ بيع للتجارة والأعمال على شاكلة منافذ القوات المسلحة. كل تلك التفاصيل ربما كانت الطريقة الأمثل لكسب ولاء الشرطة وانصياعها، وفي القلب منها جهاز الأمن الوطني الذي وصفه السيسي بـ”مافيا من مليون شخص” وفق حديث سابق له مع مسؤول أميركي رفيع.

المخابرات العامة

أما المواجهة الكبرى فكانت بين جهاز المخابرات الحربية ورئيسها الطموح عبد الفتاح السيسي، وبين الجهاز الأعمق “المخابرات العامة” ورئيسها القوي عُمر سليمان، الذي على رغم خروجه من منصبه، فقد احتفظ بقوة ونفوذ داخلها لسنوات وبقيت الولاءات له ولرؤيته حتى يومنا هذا وبعد موته بسنوات.

في يوم الخامس من تموز/ يوليو عام 2013، وقبل مرور 24 ساعة على أداءه اليمين الدستورية، أصدر الرئيس الموقت عدلي منصور، قراراً بتعيين اللواء محمد فريد التهامي رئيساً للمخابرات العامة لمصر، ذلك القرار الذي حمل الكثير من الدلائل والمؤشرات على الصراع المكتوم سابقاً بين السيسي والجهاز الأعمق في مصر.

منذ عزل مرسي وحتى اللحظة الحالية اتبع السيسي منهجاً خاصاً في التعامل مع الشرطة، إذ حرص على تحصينهم من المحاكمات أو أي عقوبات تنتج عن انتهاكاتهم

ويعود الخلاف بين الجهازين لسنوات ما قبل الثورة، بداية من الملفات الأمنية داخل سيناء التي كان الجيش والمخابرات الحربية يضغطان من أجل توسيع الصلاحيات والعمليات الميدانية العسكرية بداخلها للمصلحة الأمنية المشتركة مع إسرائيل، واتخاذ إجراءات أكثر صرامة تجاه قطاع غزة وصلت في بعض الأحيان إلى التفكير في تدخل عسكري داخله ضد حركة حماس ولتمكين محمد دحلان بإيعاز من الإمارات وفق تحقيق سابق للباحث–المعتقل حالياً –إسماعيل الاسكندراني. أما المخابرات العامة فكانت تميل إلى حلول سياسية للملفين، وذلك إلى جانب تنافس اقتصادي بين الجهازين الذين كانا يمتلكان شركات تعمل في مجالات متشابهة، إضافة إلى تضارب الرؤى حول بعض العلاقات الدولية مثل التعامل مع إيران وإسرائيل، إلى جانب اختلاف كبير للرؤى حول الوضع الداخلي.

بعد قيام الثورة، خرج الخلاف إلى العلن وظهر الخوف المتبادل بين الجهازين، فمن ناحية كان هناك خوف المخابرات الحربية من عودة عمر سليمان– الذي كان قد تعرض لمحاولات اغتيال في تلك الفترة- إلى موضع القوة وتم الضغط عليه لإخراجه من الانتخابات الرئاسية التي كان قد عزم الأمر على دخولها وبدء جمع التوكيلات الخاصة بها، ومن ناحية أخرى ظهر خوف سليمان من ترتيبات وسيناريوات تُعدها الحربية. وخلال حوار له مع جهاد الخازن بجريدة الحياة اللندنية حذر سليمان من انقلاب عسكري وشيك يعقب وصول الاخوان للحكم، ليتم إعلان وفاته بعدها بقليل.

وعلى رغم تزايد نفوذ المخابرات الحربية حين كان السيسي وزيراً للدفاع خلال حكم الرئيس السابق محمد مرسي، إلا أن المخابرات العامة حافظت على وجودها واستقرار الكثير من قياداتها تحت رئاسة اللواء رأفت شحاتة، حتى تمت الإطاحة بمرسي وبدأت مرحلة تصفية الجهاز.

خلال إحدى المكالمات التي تم تسريبها بين السيسي ومدير مكتبه اللواء عباس كامل بخصوص الملف الليبي، أخبره الأخير أن أحمد قذاف الدم يتعامل مع “المخابرات العامة” والتي قال عنها “احنا أيدينا والأرض من العامة في كل حاجة” ما يعني أنهم فقدوا السيطرة عليها تماماً، لذا كان اختيار اللواء محمد فريد التهامي لرئاسة الجهاز وسرعة تعيينه –قبل مرور ساعات على الإطاحة بمرسي -علامة بارزة على خوف السيسي من الجهاز على طموحه للوصول إلى الرئاسة أو ما بعد ذلك، فالتهامي الذي كان معلماً للسيسي في سلاح المشاة ثم في جهاز المخابرات الحربية الذي ترأسه سابقاً والذي كان يوصف “بمُعلم السيسي” كان يُرى فيه القدرة على الإمساك بزمام الجهاز ومنعه من التدخل ضد مصلحة السيسي.

وبعد أسابيع من تولي التهامي منصبه أقيل 10 من وكلاء الجهاز المسؤولين عن جميع القطاعات الجغرافية والنوعية داخله، ما بدا وكأنه عملية تطهير شاملة، لتبدأ حرب من التسريبات لمكالمات السيسي ورجاله وبخاصة عباس كامل وكثير من الشخصيات العسكرية الأخرى لم يُعرف تحديداً الجهة المسؤولة عنها، لكن كان أصابع الاتهام تُشير إلى الجهاز المتمرد كما يراه السيسي، فتمت الإطاحة بالتهامي وتعيين اللواء خالد فوزي ابن الجهاز الذي عمل فيه أكثر من 35 عاماً.

وخلال رئاسة فوزي الجهاز نجح في كسب ثقة السيسي بعد استطاعته حل كثير من الأزمات، كان أهمها ملف المصالحة الفلسطينية الذي فشلت فيه المخابرات الحربية لسنوات، وكذلك مواصلة عملية تطهير الجهاز من الولاءات المُتخيلة للرئيس، فتمت إقالة أكثر من 200 من القيادات العُليا المشكوك في ولائهم، عبر قرارات نُشرت في الجريدة الرسمية وفق ما يُلزم قانون الجهاز، والبعض الأخر من القيادات والرُتب المتوسطة والدُنيا بقرارات غير مُعلنة لا يُلزمهم القانون بنشرها، كما تم ندب واستبدال كثيرين برجال من جهاز المخابرات الحربية، إضافة إلى تصعيد ابن السيسي “محمود” داخل الجهاز، حتى توترت الأمور في نهاية الفترة الأولى للسيسي لأسباب عدة، منها تواصل أفراد الجهاز مع مرشحي الرئاسة أحمد شفيق وسامي عنان، والتدخل في لغة الخطاب الإعلامي لبعض الوسائل التي بدت وكأنها معارضة لبعض سياسات النظام.

ولم يجد السيسي بعد ذلك سوى أن يضع عباس كامل رئيساً للجهاز، فهو الرجل الأقرب إليه والأكثر عداءً للجهاز في محاولة للسيطرة عليه والإيحاء بنهاية الصراع لمصلحته، إضافة إلى ابنيه محمود الذي أصبح الرجل الثاني في الجهاز ومديراً للمكتب الفني لرئيسه، وحسن الأصغر الذي تم إلحاقه بالجهاز أخيراً، مديراً لمكتب الاتصالات، على رغم ذلك يرى كثيرون من المقربين من الجهاز أن المعركة لم تنتهِ بعد وأن لها فصولاً أخرى، وأن الجهاز أعمق من أن تتم السيطرة عليه بهذه السرعة.