سنة مرت على خروج رياض سلامة من مصرف لبنان بعد 30 عاماً، أي أكثر من ربع قرن أمضاها حاكماً مطلقاً له. خلال هذه السنة، شهدت الليرة اللبنانية استقراراً نسبياً وتوقفت “صيرفة”، المنصة المريبة التي يرجح أنها تولّت تمويل حياة الرجل الباذخة خلال هذه السنة، والأرجح أنها ستكون مصدراً مالياً لما تبقى للرجل من سنوات. فعلى الرغم من أنه مطلوب دولياً وجميع حساباته المصرفية مجمّدة، إلا أنه يعيش بحرية ورفاهية في لبنان. فأين هو رياض سلامة اليوم وكيف يتمكّن من الحفاظ على المستوى المعيشي الفاخر؟
في تحقيق سابق لـ “درج”، “قدّر ديبلوماسي غربي ثروة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بنحو 4 مليارات دولار معظمها خارج لبنان، علماً أن سلامة كان كشف عن أن أملاكه، عندما عُين حاكماً لمصرف لبنان عام 1993، كانت تبلغ قيمتها نحو 23 مليون دولار!”. لكن هذه المبالغ مجمّدة بفعل العقوبات الأميركية، والتحقيقات الأوروبية التي قضت بتجميد أرصدته.
والسؤال عن ثروة رياض سلامة وأملاكه مشروع بل وملح بعد مرور نحو خمس سنوات على الانهيار المصرفي والمالي الذي كان لحاكم مصرف لبنان السابق دور محوري فيه، والأهم هو الحماية التي يحظى بها سلامة من الملاحقة القضائية والمسائلة السياسية محلياً رغم ما تكبده الاقتصاد والمودع اللبناني وغير اللبناني من خسائر.
رياض سلامة غير مرحب به في أكثر من دولة أوروبية فتحت تحقيقات بثرواته المتنقلة بين لبنان وعدة دول أوروبية، لكنه في لبنان يعيش مطمئناً على ما يبدو.
يشير أكثر من مصدر مصرفي إلى أنّ سلامة يُنفق من مئات الملايين من الدولارات المخزّنة في منازله في لبنان، وهذه المبالغ بحسب المصادر هي حصيلة “سنوات العمل في منصة صيرفة”، والمنصة هي الأداة النقدية الرئيسية التي اعتمدها مصرف لبنان المركزي لتحقيق استقرار الليرة.
يملك رياض سلامة وعائلته عدداً من المنازل في لبنان، وهي بحسب المصادر عينها:
فيلا في الرابية
منزلان لابنتيه في الرابية
فيلا في الصفرا
شقة في Bay Tower داون تاون
شقة لابنته في مبنى 2030 في الأشرفية
ومن أشكال حضور سلامة الاجتماعي والاستهلاكي في بيروت، المتجر الفاخر الذي تملكه زوجته ندى في وسط بيروت، Limited Edition، والذي يعرض تحفاً فاخرة ومرتفعة الثمن، وقد تم تحصين واجهاته بأبواب حديدية بعدما استهدفه متظاهرون خلال احتجاجات العام 2019. وحول هذا المتجر تنعقد علاقات زبائنية يختلط فيها نفوذ الحاكم السابق مع زبائن المتجر، وجلّهم من المصرفيين ورجال الأعمال الذين تربطهم بسلامة علاقات مصرفية. وLimited Edition هو مسرح لحكايات يتناقلها أبناء المجتمع المخملي عن هدايا يشترونها منه ويتباهون بتبادلها، وباعتمادهم المتجر في “liste de mariage” في أعراسهم.
كيف يعيش رياض سلامة ؟
يتجول رياض سلامة اليوم بمرافقة أمنية رسمية، على رغم خروجه من الحاكمية وعدم تمتعه بأي حصانة، وترفض الأجهزة الأمنية، لا سيما جهازي الأمن الداخلي وأمن الدولة تنفيذ مذكرات التوقيف القضائية التي صدرت بحقه. وكان لافتاً خلال تشييع جنازة شقيقه رمزي، الذي توفي قبل أشهر، تولي وحدات من الجيش اللبناني أمن الجنازة.
يحسم مراقبون وخبراء أن سلامة استفاد من منصة “صيرفة” عبر التنسيق مع عدد من الصرافين لشراء الدولار من السوق بسعر معين وبيعه لمصرف لبنان بسعر أعلى، ما عزز شكوكاً كبيرة عن كونه المستفيد الأكبر من هذه العمليات إلى جانب الصرافين. من أبرز هؤلاء الصرافين حسن مقلد، الذي خضع لعقوبات أميركية. تشير أدلة إلى علاقة سلامة بعدد من الصرافين. وعلى سبيل المصادفة يقع مكتب شركة Currency Transfer Exchange أو CTEX لحسن مقلد في المبنى نفسه الذي توجد فيه شقة باسم زوجة سلامة في Bay Tower، في وسط بيروت.
لم نتمكن من التحقق ومن توثيق ما ورد أعلاه، لكن يشير تقرير للبنك الدولي بعنوان “لبنان: مرصد اقتصادي”، الصادر في ربيع 2023، “إلى أنّ المشاركين في منصة صيرفة من جانب الشراء ربما حققوا أرباحاً تصل إلى 2.5 مليار دولار من خلال عمليات المراجحة بين السعر المخصوم المعروض على المنصة وسعر العملة في السوق الموازية”.
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ سلامة يخضع لعقوبات أميركية وبريطانية وكندية، بالإضافة إلى التحقيقات في دول أوروبية عدة. هذا كله يعيق استخدام سلامة حساباته المصرفية في الخارج.
تشير “الدراسة الوطنية للمليونيرات” إلى أنّهم لا يصرفون أكثر من 200 دولار أميركي في الشهر في المطاعم.
كما تشير دراسة أخرى إلى أنّ المليونيرات الذين تتجاوز ثروتهم الـ5 ملايين دولار، ينفقون نحو 505 دولارات شهرياً على البقالة.
في حين تشير تقارير أخرى إلى أنّ متوسط صرف المليونير الأميركي على الملابس هو 117 دولاراً في الشهر، “على الرغم من التصوّر بأن المليونيرات سينفقون أكثر مع زيادة ثروتهم، إلا أن الواقع ليس كذلك”، بحسب الدراسة.
يفترض الذكاء الاصطناعي التكاليف الإضافية التالية:
السكن 2500 دولار (بما في ذلك الصيانة).
النقل 500 دولار (بما في ذلك أقساط السيارة والوقود والصيانة).
الترفيه والمصاريف المتنوعة 300 دولار. تقريبياً، نتحدّث عن إنفاق نحو 5 آلاف دولار في الشهر الواحد كمتوسط صرف المليونير، باستثناء الرواتب الشهرية.
وفقاً للجدول السابق وباعتبار متوسط إنفاق المليونير الشهري 5000 دولار/ الشهر، أي نحو 60 ألف دولار في السنة، وفرضاً أنّ سلامة يملك نحو 200 مليون دولار كاش (وهو مبلغ واقعي إذا ما احتسبنا أرباح عمليات صيرفة، وفقًا لتقديرات خبراء ماليين)، تمكّنه هذه الأموال من صرف نحو 60 ألف دولار في السنة لمدّة تزيد عن 3000 سنة. علماً أن أصدقاء الرجل يتحدثون عن تقشّفه في الإنفاق، وعن هدايا يتلقاها من أكثر من مصدر، لا سيما السيغار الكوبي الفاخر، الذي يجزم أحد أصدقائه أنه لم يشترِ علبة واحدة منه، على رغم استهلاكه اليومي منه.
مذكرات التوقيف
بحق سلامة مذكرة توقيف دولية وإشارة من الأنتربول الدولي، وبناءً عليهما:
أصدرت فرنسا مذكرة توقيف دولية بحق سلامة في 16 أيار/ مايو 2023 بعدما فشل في المثول للاستجواب من المحققين الفرنسيين.
أصدرت ألمانيا مذكرة توقيف بحق سلامة في 23 أيار 2023 كجزء من تحقيق في غسل الأموال وجرائم أخرى.
ونتجت من مذكرتي التوقيف إشارة من الأنتربول الدولي. ويخضع سلامة للتحقيقات في عدد من الدول الأخرى.
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ ألمانيا ألغت مذكرة التوقيف بحق سلامة في 18 حزيران/ يونيو 2024، لكن بحسب مصدر قانون ألماني مطلّع على الملف لموقع “درج”، فإنّ “قرار القضاء الألماني إلغاء مذكرة التوقيف في حق حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة مجرد تدبير قانوني، ولا يؤثر على مسار التحقيق أو جدّيته. المصدر أكد أن “شيئاً لم يتغير” وأن القضاء الألماني لا تزال لديه “شبهات قوية وملحّة”، ولفت إلى أن الدعوى التي تقدّم بها سلامة لإلغاء قرار تجميد أمواله في ألمانيا رُفضت على هذا الأساس. أما قرار إلغاء مذكرة التوقيف فهو بسبب تغيّر ظروف سلامة وسقوط الأسباب الموجبة لإصدار المذكرة في المقام الأول. فبحسب القانون الألماني، تصدر مذكرات التوقيف عادةً بعد صدور الأحكام إلا في حال وجود أسباب موجبة. وهذه الأسباب الموجبة في حالة سلامة تتمثّل بوجوده في مصرف لبنان وإمكان تلاعبه بمعطيات متعلّقة بالتحقيق. وبما أن سلامة لم يعد في منصبه، فإن هذا الخطر لم يعد موجوداً”، بحسب “درج”.
كما يخضع سلامة وعدد من المرتبطين به لعقوبات دولية بريطانية وأميركية. ولكن على رغم ذلك كلّه، يتمتّع سلامة بحصانة سياسية تتيح له التحرك في لبنان بحرية من دون الخوف من الملاحقة.
أشارت شانيز منسوس، مديرة الدعاوى القضائية في منظّمة شيربا، في مقابلة لـ”درج”، الى أنّ “مذكرة التوقيف الدولية، على عكس ما يدل عليه الاسم، ترتبط بسيادة كل دولة على أراضيها. أما بالنسبة الى إشعارات البحث من الأنتربول التي تهدف فقط إلى “البحث عن مكان واعتقال الأشخاص المطلوبين بهدف التسليم أو إجراءات مماثلة شرعية”، فالخطوة الأهم فيها هي إجراء التسليم من بلدانهم الأم، وهذا نادر جداً في جميع البلدان، حيث لا توجد التزامات قانونية دولية للقيام بذلك”، مؤكّدة أنّ الإجراءات الفرنسية لا تتأثر بنقص التسليم، ويمكن إجراء محاكمة غيابياً.
في هذا السياق، أكّد أنطوان جوكتور-مونروزييه – نائب المدعي العام المالي، الأمين العام ومسؤول الاتصالات، ردّاً على أسئلة “درج”، أن “لبنان لا يسلم مواطنيه ولا توجد وسائل لإجباره على القيام بذلك. ومع ذلك، بإمكان القضاء محاكمة الشخص المعني أمام المحكمة الجنائية بناءً على مذكرة التوقيف في حال عدم حضوره أثناء التحقيق القضائي، مؤكّداً أنّ التعاون القضائي مع لبنان قائم، إذ نفذت السلطات طلبات عدة للمساعدة القانونية المتبادلة من قضاة التحقيق في فرنسا، لوكسمبورغ، أو ألمانيا.
إذاً ليست هناك عوائق قانونية تمنع الدولة اللبنانية من التعاون مع مذكرات التوقيف الدولية، إنّما “هناك نقص فاضح في الإرادة يمكن تفسيره بضرورة حماية النخبة السياسية نفسها وتجنب أي تداعيات من قضية سلامة”، وفقاً للمحامية وأحد مؤسّسي منظّمة Accountability Now، زينة واكيم، في مقابلة لـ”درج”.
لكن غياب التعاون من الجانب اللبناني لا يعني عرقلة التحقيقات الأوروبية، “كانت لائحة الاتهام ضد مروان خير الدين بالإضافة إلى معاقبة بنك عودة في سويسرا ومصادرة عائدات الجريمة، رسالة واضحة بأن المزيد سيأتي وأن التعاون مع الدولة اللبنانية ليس ضرورياً لاستمرار الإجراءات في أوروبا. يمكن أن تتم المحاكمة غيابياً، ما يعني أنه حتى لو لم يحضر رياض سلامة الجلسات، سيستمر القاضي، مع احتمال مصادرة أصوله بالكامل”، بحسب واكيم.
القضايا المرتبطة بسلامة!
لا بدّ من التذكير بالقضايا الأساسية المرتبطة بسلامة، فهو وشقيقه رجا متهمان باختلاس 330 مليون دولار من المصرف المركزي إلى حسابات في سويسرا عبر شركة Forry Associates Ltd. شركة فوري هي شركة مسجّلة في جزر العذراء البريطانية BVI. تقاضت “فوري أسوشييتد” عمولات بنسبة 0.38 في المئة على إجمالي قيمة اليوروبوندات وشهادات الإيداع التي كانت تبيعها لمصرف لبنان.
“في آب/ أغسطس 2020، كشف تحقيق مشترك بين “درج” و”مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظّمة والفساد” OCCRP، أن الشركات المملوكة لحاكم مصرف لبنان في الخارج استثمرت في أصول خارجية بقيمة 100 مليون دولار تقريباً، بما في ذلك شقة فاخرة في لندن تبلغ قيمتها 4.1 مليون دولار. وتمكن ابنه ندي أيضاً من تحويل أكثر من 6.5 مليون دولار إلى الخارج، بينما منعت القيود المصرفية المفروضة على المواطنين العاديين من الوصول إلى مدخراتهم”، بحسب الـ OCCRP.
لا بدّ من التذكير بأنّ السلطات في فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ جمّدت أصولاً بقيمة 120 مليون يورو في فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ وموناكو وبلجيكا في آذار/ مارس 2022، “مرتبطة بالتحقيق في قضية تبييض الأموال في لبنان، بسبب تحقيق حول سلامة وأربعة من المقربين منه، وذلك بتهم غسل أموال” و”اختلاس أموال عامة في لبنان بقيمة أكثر من 330 مليون دولار و5 ملايين يورو على التوالي، بين 2002 و2021″.
أمّا الجديد في القضية فهو التقرير حول شركة Optimum Invest، إذ كشف أحد التقارير المالية عن حساب مالي في مصرف لبنان كانت تُجرى من خلاله العمليات المالية المشبوهة التي كانت تقوم بها الشركة لصالح مصرف لبنان، لا سيما في فترة الهندسات المالية، والذي تضمّن نحو 8 مليارات دولار أميركي مجهولة المصير، كما ذكرنا في تحقيق سابق.
مستقبل التحقيقات
“كان التركيز الرئيسي للإجراء القانوني الذي بدأته منظّمة Sherpa في عام 2019، تحديد المسؤولية المحتملة للوسطاء الماليين الموجودين في فرنسا ولوكسمبورغ، الذين لعبوا دوراً حاسماً في السماح بتدفقات مالية غير شرعية من مصرف لبنان إلى أوروبا. الهدف الآخر هو السماح للنظام القضائي الفرنسي بمصادرة جميع الأصول المكتسبة بأموال غير قانونية، وفي النهاية إعادة جميع الأموال إلى اللبنانيين كما ينص عليه القانون الفرنسي”، بحسب منسوس من منظّمة شيربا، في مقابلة لـ”درج”.
تؤكّد منسوس، مديرة الدعاوى القضائية في منظّمة شيربا، “هدفنا من هذه القضية هو استجواب جميع الجهات المعنية، بما في ذلك البنوك والوسطاء الماليون، والحصول في النهاية على قرار قضائي لجعل عملية إعادة الأموال المسروقة إلى اللبنانيين ممكنة، إلى جانب تعويض الأضرار الناتجة من الفساد النظامي الذي حدث في لبنان، والذي امتدّ أيضاً الى فرنسا وأوروبا”.
“نحن نعمل على التأكد من أن السياسيين الفاسدين في السلطة يواجهون مصير رياض سلامة نفسه، وسنقدم قريباً مزيداً من الشكاوى. التغيير على الطريق، وللمجتمع المدني اللبناني دور مهم في ضمان أن يكون التغيير نحو الأفضل… ستتم محاسبة السياسيين الذين سرقوا البلاد، وإذا لم تتحرك السلطات اللبنانية، فإن المجتمع المدني سيسعى الى تحقيق العدالة من خارج لبنان”، تختم زينة واكيم.
إقرأوا أيضاً: