كيف أستطيع وصف حالنا، نحن سكّان هذا الشرق المشؤوم، وكيف يتبدّل مع حلول عام 2025؟! وكأنّ لعنةً كانت قد انزاحت عن هذا المكان وها هي تنفك عنا اليوم.
حلّ هذا العام بدون طاغية دمشق الذي حكم بالحديد والنار. وأصبح للبنان رئيس جمهورية حدّد بخياراته الإصلاحية أولويات المرحلة، ورئيس وزراء قانوني دولي ذو مصداقية. تجددت في نفوس اللبنانيين شعلة الأمل، والحلم، ولو بحذرٍ، ببناء دولةٍ ومستقبلٍ أفضل.
في فلسطين، حملت بداية هذا العام لأهل غزّة اتفاق وقف إطلاق النار وفسحةً لالتقاط الأنفاس وتضميد الجراح ولملمة ما تبقّى من الإنسانية والعدالة في هذه الحفرة العميقة التي نرقد جميعنا في قعرها. كيف نُخرج أنفسنا من المشهد لوهلةٍ ونحاول أن نفهم كيف حدثت هذه التغيرات وكيف نشعر تجاهها؟
كيف للبنانيين واللبنانيات الذين تُركوا لمصيرهم قتلى وجرحى ونازحين بلا مأوى في الحرب الأخيرة، أن يصّدقوا أن هذا كله لن يتكرّر مجدّداً؟ كيف لمن خسروا مدخرات حياتهم في المصارف أن يسترجعوا ثقتهم بها بعد الآن؟ كيف للسوريين والسوريات الذين عاشوا سنين عمرهم خائفين من أن تشي الجدران بأسرارهم، أن ينطقوا ويعبّروا؟ كيف للأطفال الذين وُلدوا في سجون الأسد أن يتخيّلوا فراشةً أو لعبةً أو مدينة؟ كيف لأبناء غزة أن يفرحوا فيما جراحهم لم تلتئم بعد؟ كيف يحلمون بالأمن والأمان وهم أسرى الركام والدمار؟ أطرح هذه الأسئلة من دون أحكام، فأنا أسأل علّني أفهم حالنا، أو أعبّر عنه.
حالنا اليوم مألوفٌ وغريبٌ في آن، فالفرحة تخيفنا وتقلقنا، وكأننا على يقين بأن الألم والمعاناة سيعودان. نحن نخاف الأمل والحلم، نخشى أن نتخيّل واقعاً مختلفاً. نحن لا ننتظر من يقمعنا أو يقتلنا. نحن أصبحنا نقمع ذاتنا، ونوبّخ عقولنا إذا ما سمحت لنفسها بأن تتصوّر عالماً آخر أجمل من عالمنا. نحن نكمُّ أفواهنا قبل أن تقوى على التعبير عن هذا العالم الذي نريده ونفزع من خسارته حتى قبل أن نبنيه.
أمام هذا الحال، لا بد منّا أن نستلهم من التاريخ كيف تحدث التغيرات، ربما نستطيع عقلنة ما نشعر به اليوم. كيف انتصرت ثوراتٌ وسقطت أنظمةٌ وبنيت دولٌ وتبددت أخرى؟ إذا راقبنا هذه التغيرات نرى أن تقاطع الظروف بمواقيتها وأماكنها تُبدّل الأحوال، وتُحدث طفراتٍ في التاريخ تعيد تذكيرنا بأن الأبد لا يخلّدُ وأن الإحباط ليس قدرنا.
هكذا سقط الأسد، إذ تلاقت الظروف محليّاً وإقليمياً ودولياً. فالنظام تآكل داخلياً وجيشه لم ينهض للقتال. وإقليمياً، أُنهك حزب الله بعد حربه مع إسرائيل ولم يقوَ على إنقاذ الأسد كما فعل سابقاً. أمّا دولياً، فروسيا المنشغلة بحرب أوكرانيا التقت مع تركيا وإيران لتُخرج نفسها من وحل الحرب السورية بأقل الخسائر. هكذا تقاطعت العوامل لتنتج واقعاً مختلفاً لسوريا والسوريين. وربما يصعب تحديد السبب المباشر وراء حدثٍ بهذا الحجم مثلاً، لكن التقاط هذه الظروف وترتيبها يعطياننا تفسيراً منطقيّاً قد يكتفي البعض به.
إقرأوا أيضاً:
لكن العامل الأهمّ الذي غالباً ما يسقط عنّا سهواً هو إرادتنا، نحن الأناس العاديين، وقدرتنا على تغيير مسار الأحداث. فلو لم يخرج مئات الآلاف من السوريين الى شوارع سوريا هاتفين “ما في للأبد” في الـ2011 والسنوات اللاحقة، لما سقط الأبد اليوم.
أمّا في لبنان، فلا شك في أن التغيرات والظروف الجيوسياسية غالباً ما تسيطر على قراءتنا وتحليلنا للأحداث. لكننا بحاجة إلى التفكير في دورنا ومبادرتنا نحن أبناء هذا البلد الراغبين في تغيير واقعنا السياسي والاجتماعي. صحيحٌ أن التغيير لم يأت لبنانياً بحتاً كما نأمل، لكن لا بد لنا أن نبني على هذا التقدم مستقبلاً. فعلى رغم الحديث عن الضغوط الخارجية التي أدت إلى انتخاب الرئيس جوزاف عون، يبقى هنالك عنصر لبنانيٌّ أساسي، وهو كيف مثّل خطاب القسم مرآةً للخطاب السياسي النقيض للنظام الطائفي التحاصصي الميليشياوي السائد. هذا الخطاب البديل تطوّر على مر السنين منذ عام 2005 مع طرد نظام الأسد من لبنان إلى 2011 والحراك المدني، فالـ2015 ومواجهة عجز السلطة عن حل أزمة النفايات، وتبلور في تظاهرات 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019.
أصبح خطاب 17 تشرين الذي طُرح في صلبه بناء الدولة والحقوق المدنية والحريات ومحاربة الفساد، هو المرجع والمعيار للكتل النيابية التي التحقت بالسرب وسمّت نواف سلام لرئاسة الوزراء. كذلك، فإن تكليف سلام جاء بعد مناورة برلمانية قادها نوّابٌ وصلوا إلى البرلمان نتيجة حملاتٍ شعبيةٍ بموارد محدودة للغاية بذلت جهداً في التنظيم والمبادرة في الانتخابات النيابية عام 2022، ولأن 300 ألف لبناني ولبنانية قرّروا التخلي عن الثنائيات الطائفية، ونجحوا بإيصال خيارٍ مغاير إلى مجلس النواب أتى بثماره اليوم. أضف إلى ذلك ضغط الرأي العام والناشطين والناشطات الذين نجحوا بوضع الكتل النيابية أمام خيار بناء الدولة المتمثل بتسمية نواف سلام وإلّا استكمال نهج اللادولة مع نجيب ميقاتي ومنافسه بالسوء فؤاد مخزومي.
أما في ما يتعلق بوقف إطلاق النار في غزة، فما لا شك فيه أن لترامب اعتبارات جيوسياسية مختلفة تتعلق بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة وإعادة توزيعها الموارد الدبلوماسية والعسكرية بين أوكرانيا والصين وأماكن أخرى في العالم. ومع ذلك، فإن هذه الاعتبارات والمصالح متشابكة أيضاً مع الزخم المناهض للحرب سواء ضمن المجتمع المدني الأميركي والحركات التي بدأت في الجامعات، أو على مستوى العالم والقضايا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، والسخط تجاه انتهاكات إسرائيل التي عبرت عنها بلدان عدة في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
أما الأهم فيكمن في عزيمة أهل غزة من مراسلين ومراسلات، الذين وثّقوا جرائم إسرائيل وأوصلوا أصوات أطفال غزة إلى العالم، وأطباء ثابروا على تضميد الجراح رغم تدمير إسرائيل معظم المستشفيات والمراكز الصحية، وكل الذين صبروا طوال هذه الحرب. هذه حياتهم وهذا مخاضهم. هم أحرارٌ أن يفرحوا، أن يتألموا، أن يشعروا، أن يعبّروا.
مع بداية هذا العام، فُتحت لنا نافذة في آخر هذا النفق المظلم ونحن نتلمّس الجدران ونخطو تجاه النور رويداً. نحن من تعوّدت أعيننا على الظلام نخاف أن يعمينا نور النافذة فنتعثّر ونرقد مكاننا. لكننا قطعنا درباً طويلاً. فلنستلهم من المحنات التي اجتزناها القليل، عسى أن تلائمنا بعض الظروف ونصنع بإرادتنا نحن البعض الآخر، فربما نستحق أن نعتاد الفرحة والأمل.
إقرأوا أيضاً: