ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

كيف تختفي الحدائق العامّة في مصر؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أحدث الحدائق التي يحوم حولها شبح “التطوير”، هي حديقة الزهرية التراثية في الزمالك، التي تحوي أشجاراً يتعدّى عمرها المائة عام، ولا يتعدّى ثمن تذكرة الدخول إليها عشرة جنيهات، وهي واحدة من المساحات الخضراء التي تُميّز حيّ الزمالك.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تسكن سارة.ن في جوار حديقة الأورمان في الجيزة منذ طفولتها. الحديقة التي أُنشئت ‏في‏ ‏عهد‏ ‏الخديوي‏ ‏اسماعيل‏ في ‏عام  1878، لها مكانة خاصّة عند سارة، خصوصاً وقت جائحة كورونا التي ألزمت الجميع المكوث في المنزل، والابتعاد عن التجمّعات.

 علمت سارة أن الحديقة ستُغلق بهدف “التطوير”، فتحدّثت مع محبّي الحديقة من معماريين ومهندسين زراعيين وخبراء، فوثّقوا كلّ أشجارها، وأجروا اجتماعات مع المسؤولين عن تطوير الحديقة، الذين أكّدوا لهم أنهم لن يُزيلوا الأشجار. لكن، وتشير بيدها إلى الحديقة: “بس الدنيا زي مانتي شايفة”.

 أما آلاء.ب فاعتادت أن تذهب إلى حدائق الإسكندرية في طفولتها، في رحلات مدرسية أو نزهات مع أهلها، تقول آلاء إن بعض الحدائق تغيّر شكلها كثيراً، وازدادت أسعار تذاكر الدخول إليها، مثل المتنزّه، والشلالات وأنطونيادس. 

حدائق أخرى أغلقت أبوابها أمام الروّاد أيضاً، مثل حديقة الخالدين في محطّة الرمل، التي تحوّلت إلى مجمّع من المقاهي، تضيف آلاء: “حتى حديقة سيدي بشر بعد التطوير مبقاش فيها مكان للناس تقعد فيه”.

نزهة فوق الخراب

“تعالوا أقولكوا على خروجة على قد الإيد”، هكذا تعلن بعض صفحات التواصل الاجتماعي، عن نزهة بـ20 جنية للأسرة كلّها. هي نزهة تشبه “فسحة على قد الإيد” في متناول المواطن المتوسّط أو المحدود الدخل، حيث يستطيع الجلوس في الحديقة والترويح عن نفسه.

 لكنّ هذه الفسحات بدأت بالاختفاء شيئاً فشيئاً بسبب غلق الكثير من الحدائق العامّة، ومنها حديقة أم كلثوم  التي كان يمكن للأسر التنزّه فيها. الحديقة  التي تقع على النيل في منطقة المنيل، والتي أنشئت في عام ١٩٩٧، كانت ملجأ للتنزّه والجلوس وتناول المشروبات حتى إغلاقها  في ١ كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٥. 

يفترش الناس الأرض يجلسون على أطلال الحديقة المهدومة، وفي جوارهم تمثال أم كلثوم ما زال صامداً بين بلدوزرين، لكنّ الحديقة جُرفت تماماً. تقع حديقة أم كلثوم ضمن أراضي طرح النهر، أو المنشآت التي تقع في جوار مجرى النيل، والتي قُرّر إخلاؤها من شبرا حتى حلوان في إطار خطّة “تطوير” حيّ المنيل، تضمّنت إلغاء حقّ انتفاع أراضي طرح النهر وعدم تجديده، ما ترتّب عليه إخلاء مبنى كليّة سياحة جامعة حلوان وفنادقها،  وإزالة مسرح فاطمة رشدي أو المسرح العائم، و”تطوير” منطقة المنيل القديم.

الاستثمار عوضاً عن المساحات الخضراء!

أحدث الحدائق التي يحوم حولها شبح “التطوير”، هي حديقة الزهرية التراثية في الزمالك، التي تحوي أشجاراً يتعدّى عمرها المائة عام، ولا يتعدّى ثمن تذكرة الدخول إليها عشرة جنيهات، وهي واحدة من المساحات الخضراء التي تُميّز حيّ الزمالك.

تدرك المجموعات المهتمّة بالحدائق والمساحات العامّة، أن التطوير يقلّص المساحات الخضراء لحساب استثمارات كالمطاعم والمقاهي، لذلك أطلقت نداءات لوقف المشاريع المقترح إقامتها في حديقة الزهرية، لحين مشاركة تفاصيل شكل الحديقة وتطويرها مع الجمهور والمجتمع المدني. يأتي هذا التخوّف من أن تلحق الزهرية بمثيلتها حديقة المسلة، التي أُغلقت في عام ٢٠٢١ للتطوير، على الرغم من جمع التوقيعات لعدم تجريفها والمحافظة على هويّتها التراثية. 

يبدو عبثياً الحديث عن أهمّية المساحات الخضراء، كمتنزّهات أو كحائط صدّ أمام تبعات التغيّر المناخي، حيث تساهم في خفض الانبعاثات الكربونية والحدّ من الجزر الحرارية، كونه في الوقت الذي تختفي فيه المساحات الخضراء العامّة، يزدهر اللون الأخضر في “الكمبوندات” والمجمّعات السكنية المغلقة، التي لا تستهدف المواطن متوسّط الدخل والفقير، الذي لا يمكنه تحمّل تكلفة وسيلة المواصلات التي ستوصله إليها.

نال العديد من المحافظات المصرية نصيبه من غلق الحدائق، ففي مدينة طنطا في دلتا مصر، أُغلق المتنزّه أو حديقة الأندلس، وحلّ مكانه مجمّع من المطاعم  والمقاهي الفخمة، التي يصل سعر مشروبات بسيطة في بعضها إلى 500 جنيه. فيما يبدو إهمال الحدائق؛ كما حصل لحديقة الأندلس، تمهيداً للـ”تطوير”، وهذا ما حصل في  المنصورة التي هُدمت حديقتها هابي لاند الشيرة، القائمة على مساحة تبلغ 10835 متراً مربعاً، لتتحوّل إلى مركز ترفيهي

خصخصة المساحات العامّة!

 إزالة الحدائق العامّة يمكن أن يُرى في إطار توجّه الدولة لخصخصة المساحات العامّة، والخدمات العامّة بشكل عام، هكذا تصف إلهام عيداروس وكيلة حزب “العيش والحرّية”، السياسية المتّعبة بخصوص الحدائق، وتشرح  في حديثها لـ”درج”: “المواطن اللي عاوز يتفسّح أو يغير جو ويشم هوا نضيف، وياخد عياله في مكان المفروض من وجهة نظر الدولة في المرحلة دي يدفع فلوس كتير عشان التنزه والترفيه ده”.

 ترى عيداروس أن المشكلة ليست في إغلاق الحدائق مثل الأورمان وحديقة الحيوان فقط، لكن المشكلة تكمن أننا لا نعلم كيف سيتمّ التطوير؟ وما هو ثمن تذكرة الحديقة بعد التطوير؟ هذا هو ما سيحسم إن كانت الأسر البسيطة ستستطيع الاستفادة من المكان أم لا.

ظاهرة أخرى توضحها عيداروس هي اختفاء “جزيرة الشارع”، وهي مساحة في وسط الشارع لفصل حركة المرور، تتضمّن قطعة خضراء، أو نجيلة، أو مساحة من “البلاط” يلجأ إليها الناس للاستراحة قليلاً، والجلوس، هذه المساحة اختفت، وحُرم الناس منها لتوسيع الشارع، وحلّ مكانها أحياناً أكشاك تجارية.

 ترى عيداروس أن أسباب إزالة الحدائق يرجع إلى أن القسم الأكبر من الموازنة يذهب لخدمة الدين العامّ، فلا يبقى هناك مخصّصات للإنفاق على الخدمات الاجتماعية والساحات العامّة، وبالتالي تحاول الدولة خصخصة كلّ شيء “عشان تجيب فلوس”، ويتحمّل المواطن التكلفة.

تعتبر عيداروس أن غياب الديمقراطية بشكل عامّ، والمحلّيات بشكل خاصّ، يسهّل على المحافظين والهيئات المركزية في الدولة، اتّخاذ قرارات بخصوص مساحات تخصّ المواطنين في مناطقهم المحلّية، وتختم كلامها قائلة: “لو في محلّيات منتخبة كانت ستدافع عن مساحات الناس، ولو الناس عندها أدوات ديمقراطية زي التنظيم والتجمّع والتعبير، كانت ستحاول الدفاع عنها بالوقفات الاحتجاجية مثلاً، أو بالضغط على المجالس المحلّية لو منتخبة”.

لا مساحة عامّة بعد اليوم!

يحمل تقلّص المساحات العامّة المجانية أبعاداً كثيرة، نكتشفها في كتاب “نشتري كلّ شيء”، إذ نقرأ: “لم يعد من الممكن التواجد في هذه المساحات “العامّة” من دون طلب شوكولاتة أو قهوة، لأنها أصبحت بالفعل ساحات للمطاعم والكافيهات. وبهذه الصورة يصبح المواطن هو المستهلك، أو يكون الاستهلاك هو مركز علاقة الطبقة الوسطى الجديدة ومحتواها بالمساحات العامّة، ولا مانع أيضاً من محو آثار “الاستخدام الخاطئ” لهذه المساحات في 2011″.

نقرأ أيضاً في البحث الصادر عن مؤسّسة “الإنسان والمدينة”، الذي يحمل عنوان “تسييج المساحات العامّة- الكورنيش والمسطّحات الخضراء في الإسكندرية”، أن إغلاق هذه المساحات تستفيد منه الدولة مادّياً، وأن هذه السياسات تأتي على حساب استبعاد الفئات الفقيرة من المجتمع، وذكرت الدراسة أن هذا التعدّي على المساحات العامّة، يفاقم من شعور الظلم الاجتماعي ومن اللا مساواة. 

تقول حنين شاهين الناشطة المناخية في هذا السياق لـ”درج”: “إن العدالة المناخية ترتبط بوجود مساحات عامّة مجّانية للجمهور، كما أن غلق الحدائق العامّة وتحويلها إلى أماكن فارهة يستفيد منها جمهور معيّن، هو في جوهره ضدّ العدالة المناخية. فالعدالة المناخية ترى أن لكلّ إنسان الحقّ في الحصول على بيئة حرارتها مناسبة، تضمن له الغذاء والأمان، وحرّية الحركة”. 

وتضيف شاهين أن “التوسّع العمراني السريع يستلزم في المقابل ساتراً أخضر، في ظلّ التغيّرات المناخية  في مدينة مثل القاهرة، والحزام الأخضر يقلّل من حدّة الحرارة في المدينة، ويقلّل من نسبة التلوّث، خاصّةً وأن القاهرة تحتلّ صدارة المدن التي تعاني من التلوّث.

الاختفاء “الهادئ” للمساحات الخضراء

تأتي إزالة الحدائق العامّة ضمن سياسات عمرانية تتّبعها الدولة، عبر إقامة مشاريع كبيرة ومدن جديدة  تخدم فئة محدودة من المواطنين، ليس من ضمنهم المواطن المتوسّط أو المحدود الدخل، ومشاريع تودي بحياة المواطنين بدلاً من تحسين حياتهم، وقوانين تحرمهم من السكن الآمن، ولا تراعي من هم في سنّ المعاش؛ بخاصة النساء، الذين لا يتحمّلون تكلفة إيجار مسكن، في ظلّ ارتفاع أسعار إيجارات السكن، وهدم أماكن تحمل قيمة تراثية وإنسانية.

 تتمّ إزالة الحدائق العامّة أحياناً كثيرة بهدوء ودون أن يلتفت أحد، توثّق المجموعات المهتمّة ما تستطيع توثيقه، يلتقط أفرادها صوراً للأماكن خوفاً من نسيانها، وحفظاً للذاكرة، لكنّ شكل المدينة يتغيّر بوتيرة أسرع وأكبر من قدرة  المواطنين والمجموعات والباحثين على التوثيق، وأكبر من قدرة الجميع على الحزن على الأماكن التي يألفونها.

جنى بركات - صحافية لبنانية | 14.11.2025

“ستارلينك” لبنان: ما علاقتها بوزير الاتّصالات وبالشبهات المرتبطة بمعاقَب أميركياً؟ 

مع دخول "ستارلينك" إلى لبنان، برزت إشكالية حول مساعي الشركة الأميركية للتعاقد مع "Connect Services Liberia" كموزّع لخدمات "ستارلينك" في لبنان، من دون فتح باب المنافسة بين الشركات الأخرى، وهي الشركة التي سبق أن ترأّسها وزير الاتّصالات الحالي شارل الحاج. 
16.10.2025
زمن القراءة: 6 minutes

أحدث الحدائق التي يحوم حولها شبح “التطوير”، هي حديقة الزهرية التراثية في الزمالك، التي تحوي أشجاراً يتعدّى عمرها المائة عام، ولا يتعدّى ثمن تذكرة الدخول إليها عشرة جنيهات، وهي واحدة من المساحات الخضراء التي تُميّز حيّ الزمالك.

تسكن سارة.ن في جوار حديقة الأورمان في الجيزة منذ طفولتها. الحديقة التي أُنشئت ‏في‏ ‏عهد‏ ‏الخديوي‏ ‏اسماعيل‏ في ‏عام  1878، لها مكانة خاصّة عند سارة، خصوصاً وقت جائحة كورونا التي ألزمت الجميع المكوث في المنزل، والابتعاد عن التجمّعات.

 علمت سارة أن الحديقة ستُغلق بهدف “التطوير”، فتحدّثت مع محبّي الحديقة من معماريين ومهندسين زراعيين وخبراء، فوثّقوا كلّ أشجارها، وأجروا اجتماعات مع المسؤولين عن تطوير الحديقة، الذين أكّدوا لهم أنهم لن يُزيلوا الأشجار. لكن، وتشير بيدها إلى الحديقة: “بس الدنيا زي مانتي شايفة”.

 أما آلاء.ب فاعتادت أن تذهب إلى حدائق الإسكندرية في طفولتها، في رحلات مدرسية أو نزهات مع أهلها، تقول آلاء إن بعض الحدائق تغيّر شكلها كثيراً، وازدادت أسعار تذاكر الدخول إليها، مثل المتنزّه، والشلالات وأنطونيادس. 

حدائق أخرى أغلقت أبوابها أمام الروّاد أيضاً، مثل حديقة الخالدين في محطّة الرمل، التي تحوّلت إلى مجمّع من المقاهي، تضيف آلاء: “حتى حديقة سيدي بشر بعد التطوير مبقاش فيها مكان للناس تقعد فيه”.

نزهة فوق الخراب

“تعالوا أقولكوا على خروجة على قد الإيد”، هكذا تعلن بعض صفحات التواصل الاجتماعي، عن نزهة بـ20 جنية للأسرة كلّها. هي نزهة تشبه “فسحة على قد الإيد” في متناول المواطن المتوسّط أو المحدود الدخل، حيث يستطيع الجلوس في الحديقة والترويح عن نفسه.

 لكنّ هذه الفسحات بدأت بالاختفاء شيئاً فشيئاً بسبب غلق الكثير من الحدائق العامّة، ومنها حديقة أم كلثوم  التي كان يمكن للأسر التنزّه فيها. الحديقة  التي تقع على النيل في منطقة المنيل، والتي أنشئت في عام ١٩٩٧، كانت ملجأ للتنزّه والجلوس وتناول المشروبات حتى إغلاقها  في ١ كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٥. 

يفترش الناس الأرض يجلسون على أطلال الحديقة المهدومة، وفي جوارهم تمثال أم كلثوم ما زال صامداً بين بلدوزرين، لكنّ الحديقة جُرفت تماماً. تقع حديقة أم كلثوم ضمن أراضي طرح النهر، أو المنشآت التي تقع في جوار مجرى النيل، والتي قُرّر إخلاؤها من شبرا حتى حلوان في إطار خطّة “تطوير” حيّ المنيل، تضمّنت إلغاء حقّ انتفاع أراضي طرح النهر وعدم تجديده، ما ترتّب عليه إخلاء مبنى كليّة سياحة جامعة حلوان وفنادقها،  وإزالة مسرح فاطمة رشدي أو المسرح العائم، و”تطوير” منطقة المنيل القديم.

الاستثمار عوضاً عن المساحات الخضراء!

أحدث الحدائق التي يحوم حولها شبح “التطوير”، هي حديقة الزهرية التراثية في الزمالك، التي تحوي أشجاراً يتعدّى عمرها المائة عام، ولا يتعدّى ثمن تذكرة الدخول إليها عشرة جنيهات، وهي واحدة من المساحات الخضراء التي تُميّز حيّ الزمالك.

تدرك المجموعات المهتمّة بالحدائق والمساحات العامّة، أن التطوير يقلّص المساحات الخضراء لحساب استثمارات كالمطاعم والمقاهي، لذلك أطلقت نداءات لوقف المشاريع المقترح إقامتها في حديقة الزهرية، لحين مشاركة تفاصيل شكل الحديقة وتطويرها مع الجمهور والمجتمع المدني. يأتي هذا التخوّف من أن تلحق الزهرية بمثيلتها حديقة المسلة، التي أُغلقت في عام ٢٠٢١ للتطوير، على الرغم من جمع التوقيعات لعدم تجريفها والمحافظة على هويّتها التراثية. 

يبدو عبثياً الحديث عن أهمّية المساحات الخضراء، كمتنزّهات أو كحائط صدّ أمام تبعات التغيّر المناخي، حيث تساهم في خفض الانبعاثات الكربونية والحدّ من الجزر الحرارية، كونه في الوقت الذي تختفي فيه المساحات الخضراء العامّة، يزدهر اللون الأخضر في “الكمبوندات” والمجمّعات السكنية المغلقة، التي لا تستهدف المواطن متوسّط الدخل والفقير، الذي لا يمكنه تحمّل تكلفة وسيلة المواصلات التي ستوصله إليها.

نال العديد من المحافظات المصرية نصيبه من غلق الحدائق، ففي مدينة طنطا في دلتا مصر، أُغلق المتنزّه أو حديقة الأندلس، وحلّ مكانه مجمّع من المطاعم  والمقاهي الفخمة، التي يصل سعر مشروبات بسيطة في بعضها إلى 500 جنيه. فيما يبدو إهمال الحدائق؛ كما حصل لحديقة الأندلس، تمهيداً للـ”تطوير”، وهذا ما حصل في  المنصورة التي هُدمت حديقتها هابي لاند الشيرة، القائمة على مساحة تبلغ 10835 متراً مربعاً، لتتحوّل إلى مركز ترفيهي

خصخصة المساحات العامّة!

 إزالة الحدائق العامّة يمكن أن يُرى في إطار توجّه الدولة لخصخصة المساحات العامّة، والخدمات العامّة بشكل عام، هكذا تصف إلهام عيداروس وكيلة حزب “العيش والحرّية”، السياسية المتّعبة بخصوص الحدائق، وتشرح  في حديثها لـ”درج”: “المواطن اللي عاوز يتفسّح أو يغير جو ويشم هوا نضيف، وياخد عياله في مكان المفروض من وجهة نظر الدولة في المرحلة دي يدفع فلوس كتير عشان التنزه والترفيه ده”.

 ترى عيداروس أن المشكلة ليست في إغلاق الحدائق مثل الأورمان وحديقة الحيوان فقط، لكن المشكلة تكمن أننا لا نعلم كيف سيتمّ التطوير؟ وما هو ثمن تذكرة الحديقة بعد التطوير؟ هذا هو ما سيحسم إن كانت الأسر البسيطة ستستطيع الاستفادة من المكان أم لا.

ظاهرة أخرى توضحها عيداروس هي اختفاء “جزيرة الشارع”، وهي مساحة في وسط الشارع لفصل حركة المرور، تتضمّن قطعة خضراء، أو نجيلة، أو مساحة من “البلاط” يلجأ إليها الناس للاستراحة قليلاً، والجلوس، هذه المساحة اختفت، وحُرم الناس منها لتوسيع الشارع، وحلّ مكانها أحياناً أكشاك تجارية.

 ترى عيداروس أن أسباب إزالة الحدائق يرجع إلى أن القسم الأكبر من الموازنة يذهب لخدمة الدين العامّ، فلا يبقى هناك مخصّصات للإنفاق على الخدمات الاجتماعية والساحات العامّة، وبالتالي تحاول الدولة خصخصة كلّ شيء “عشان تجيب فلوس”، ويتحمّل المواطن التكلفة.

تعتبر عيداروس أن غياب الديمقراطية بشكل عامّ، والمحلّيات بشكل خاصّ، يسهّل على المحافظين والهيئات المركزية في الدولة، اتّخاذ قرارات بخصوص مساحات تخصّ المواطنين في مناطقهم المحلّية، وتختم كلامها قائلة: “لو في محلّيات منتخبة كانت ستدافع عن مساحات الناس، ولو الناس عندها أدوات ديمقراطية زي التنظيم والتجمّع والتعبير، كانت ستحاول الدفاع عنها بالوقفات الاحتجاجية مثلاً، أو بالضغط على المجالس المحلّية لو منتخبة”.

لا مساحة عامّة بعد اليوم!

يحمل تقلّص المساحات العامّة المجانية أبعاداً كثيرة، نكتشفها في كتاب “نشتري كلّ شيء”، إذ نقرأ: “لم يعد من الممكن التواجد في هذه المساحات “العامّة” من دون طلب شوكولاتة أو قهوة، لأنها أصبحت بالفعل ساحات للمطاعم والكافيهات. وبهذه الصورة يصبح المواطن هو المستهلك، أو يكون الاستهلاك هو مركز علاقة الطبقة الوسطى الجديدة ومحتواها بالمساحات العامّة، ولا مانع أيضاً من محو آثار “الاستخدام الخاطئ” لهذه المساحات في 2011″.

نقرأ أيضاً في البحث الصادر عن مؤسّسة “الإنسان والمدينة”، الذي يحمل عنوان “تسييج المساحات العامّة- الكورنيش والمسطّحات الخضراء في الإسكندرية”، أن إغلاق هذه المساحات تستفيد منه الدولة مادّياً، وأن هذه السياسات تأتي على حساب استبعاد الفئات الفقيرة من المجتمع، وذكرت الدراسة أن هذا التعدّي على المساحات العامّة، يفاقم من شعور الظلم الاجتماعي ومن اللا مساواة. 

تقول حنين شاهين الناشطة المناخية في هذا السياق لـ”درج”: “إن العدالة المناخية ترتبط بوجود مساحات عامّة مجّانية للجمهور، كما أن غلق الحدائق العامّة وتحويلها إلى أماكن فارهة يستفيد منها جمهور معيّن، هو في جوهره ضدّ العدالة المناخية. فالعدالة المناخية ترى أن لكلّ إنسان الحقّ في الحصول على بيئة حرارتها مناسبة، تضمن له الغذاء والأمان، وحرّية الحركة”. 

وتضيف شاهين أن “التوسّع العمراني السريع يستلزم في المقابل ساتراً أخضر، في ظلّ التغيّرات المناخية  في مدينة مثل القاهرة، والحزام الأخضر يقلّل من حدّة الحرارة في المدينة، ويقلّل من نسبة التلوّث، خاصّةً وأن القاهرة تحتلّ صدارة المدن التي تعاني من التلوّث.

الاختفاء “الهادئ” للمساحات الخضراء

تأتي إزالة الحدائق العامّة ضمن سياسات عمرانية تتّبعها الدولة، عبر إقامة مشاريع كبيرة ومدن جديدة  تخدم فئة محدودة من المواطنين، ليس من ضمنهم المواطن المتوسّط أو المحدود الدخل، ومشاريع تودي بحياة المواطنين بدلاً من تحسين حياتهم، وقوانين تحرمهم من السكن الآمن، ولا تراعي من هم في سنّ المعاش؛ بخاصة النساء، الذين لا يتحمّلون تكلفة إيجار مسكن، في ظلّ ارتفاع أسعار إيجارات السكن، وهدم أماكن تحمل قيمة تراثية وإنسانية.

 تتمّ إزالة الحدائق العامّة أحياناً كثيرة بهدوء ودون أن يلتفت أحد، توثّق المجموعات المهتمّة ما تستطيع توثيقه، يلتقط أفرادها صوراً للأماكن خوفاً من نسيانها، وحفظاً للذاكرة، لكنّ شكل المدينة يتغيّر بوتيرة أسرع وأكبر من قدرة  المواطنين والمجموعات والباحثين على التوثيق، وأكبر من قدرة الجميع على الحزن على الأماكن التي يألفونها.

16.10.2025
زمن القراءة: 6 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية