ألا يعتبر قرارك ِهذا نفاقاً؟
هذا السؤال طرحه علي أحد الأصدقاء ولعله من القلة الذين ناقشوني في قراري بكل احترام، أنا التي اعتدت أن تنهال علي الاتهامات بالتعصب أو بالنفاق. كنت الفتاة التي تخوض ثورة مزدوجة ضد النظام أولاً، وضد المجتمع الريفي الذي رفض وجودنا في النضال الثوري ثانياً، لتضاف أيضاً داعش لاحقا.
لم أكن فتاةً مثالية في التزامها، وكان الحجاب كافياً بالنسبة لي. ومنحتني الثورة السورية لاحقاً المزيد من الشجاعة، فكنت صاخبة في كل شي، في دراستي وفي عملي وفي علاقتي مع أصدقائي.
بقيتُ على هذا النحو إلى أن ظهر “داعش” كواقع كنت استبعد اقترابه. وأمام تقدم التنظيم المتسارع في العراق وسورية، أصبح المشهد ضبابياً، وما زاده سوءاً تلك الفرحة الموقتة، التي أصابت الناس بهذه الانتصارات خاصة في العراق. ويضاف إلى صخب تلك المعارك معركتنا نحن النساء مع التنظيم. معركة اللباس والعمل والدراسة وغيرها.
تصدر النقاب المشهد بعد سيطرة التنظيم على مدينة الرقة، وحين فرض العباءة السوداء والنقاب كلباس ٍشرعيٍ للنساء هناك. وكانت تصلنا الأخبار المتلاحقة عن ممارسات التنظيم وكنا نحن النساء، نأخذ الحديث على محمل التحدي. كنا نقول، نحن اللواتي رفضن الرضوخ لجور نظام الأسد، فهل سنرضخ للتنظيم؟ كانت هذه ردودنا على جميع الأخبار التي تصلنا.
حصل أول تحدٍ لي مع التنظيم بعد سيطرته على الرقة. فبعد أن أصبح دخولي إلى ديرالزور المدينة مستحيلا بحكم مشاركتي في الثورة، وبسبب مرض ٍأصابني، جاءتني الفرصة للذهاب الى الرقة، حيث “داعش”، وهنا سأشبع فضولي، وأرى داعش على أرض الواقع وأتأكد من جميع القرارات، خاصة تلك المتعلقة بي كفتاة .
كنت سعيدةً جداً، ومتحمسةً لزيارة الرقة للمرة الأولى، بعدما سيطر التنظيم عليها. وفي الصباح ارتديت ملابسي المعتادة الملونة، والحجاب الأبيض وبعض المكياج، الذي تقصدت وضعه على وجهي، فأنا ذاهبة لاكتشاف عالم آخر، أثار في نفسي الكثير من الفضول.
صعدتُ الى السيارة برفقة صديقتي، فتوقف السائق ونظر إلينا بغضب وقال: ارتدوا العباءة على الأقل، وإلا سوف أُحاسب، وتصادر سيارتي وقد يعيدوننا ويمنعونا من الدخول إلى الرقة.
رفضتُ حتى نقاشه وأجبته، أنني المسؤولة عن نفسي، وسأخبرهم إذا لزم الأمر بذلك.
بدأت الرحلة أخيراً، وبدأ عقلي يضج بالأسئلة، في انتظار الوصول إلى الرقة. وعند مدخل المدينة، ارتدت جميع النساء النقاب والعباءة، باستثنائي أنا وصديقتي، ونحن نتابع المشهد والصدمة بادية على وجوهنا.
ماهذا!!!
ياإلهي يُخفون العباءة والنقاب في حقائبهم ويرتدونها عند الاقتراب من الرقة. ولم تكد تنتهي دهشتي، حتى توقفت السيارة أمام حاجز التنظيم الأول، وتقدم شاب لا يتجاوز العشرين من عمره باتجاهنا، وصرخ بي وبصديقتي: ما هذا يا أختاه أين نقابك؟
فأجبته بكل ثقة، أنا لست منقبة بالأساس، ولن أرتدي النقاب في منطقتك لأرضيك وأخلعه خارجها، فأكون بذلك منافقة أمام الله وكاذبة أمامك، وهذه الصفات بعيدة عني كل البعد.
فدمدم “الله يهديكي اذهبوا اذهبوا”.
أكمل السائق طريقه بسرعة، ولم يتسنّ لي أن أرد عليه، وسط غضب وضجة باقي النساء والرجال في السيارة، الذين ينظرون إلينا كمجرمتين كدنا أن نتسبب بفشل رحلتهم.
دخلنا المدينة وكانت صدمتي الثانية. فالجميع في الشوارع يرتدي الأسود من رأسه حتى قدميه، والمحلات التي كانت تتميز عن باقي أسواق سورية بألوانها الصاخبة سوداء كئيبة. المدينة كلها يلفها السواد وكأنها في حالة حداد على نفسها.
بعد عودتي انهالت علي الأسئلة من أصدقائي وأقربائي ماذا رأيتي وكيف تصرفتي، فالجميع كان يريد أن يعرف. والكثير الكثير من علامات الاستفهامات المرافقة لرعبي على مستقبل الثورة، فـ”داعش” أصبحت واقعاً لامفرّ منه. إنه واقعٌ رأيته بعيني ، فكنت أشمّ رائحة سوادهم كلما سقطت بلدة تحت سيطرتهم.
صراعٌ على الأرض وصراعٌ آخر في عقلي ، كيف سأرتدي الأسود تحت قوانين التنظيم وبالإجبار، وكيف سأتنازل لهم؟ كيف سأقف أمام طلابي وأصدقائي وأهل قريتي الذين صدعتُ رؤوسهم بالحديث عن التمرد ضد الطغاة من النظام حتى “داعش”. ثم كيف سأواجه أعداء الثورة، من داعمي النظام ممن كنت ألتقي بهم في المدرسة، أو العمل، ودائماً كانوا يقولون لي لنرى ماذا أنت فاعلة أمام “داعش”.
في ظل الأحداث المتسارعة، كنت أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن أوافق أهلي على قرار السفر المطروح منذ بداية الثورة والمرفوض من قبلي، وغير قابل للنقاش، وإما الخيار الثاني. جلستُ لوحدي وتكلمتُ مع الله كما أفعل دائماً في فرحي وفي حزني، وأخبرته أنني سأرتدي النقاب، وعاهدته على أن أبذل كل قوتي أمام مغريات الحياة، للحفاظ عليه حتى لا يحتَسب ذلك علي نفاقاً، ورجوته أن يتقبل مني ذلك، وأن يساندني، ويمنحني الثبات عليه.
جمعتُ حقائب السفر في منزلنا، ووضعت فيها جميع ملابسي الملونة، وكلما وضعت قطعة ملابس خاصة، فاحت منها ذكرى جميلة. حاولتُ أن أعطل مشاعري هذه. لم أُبقِ على شيء سوى العباءات السوداء، التي كانت تصلني من أشقائي في السعودية، وفي حينها كان مصيرها الحقائب والنسيان، والآن حان وقت إعادة الاعتبار لها.
في الصباح ارتديتُ النقاب لأول مرة، وخرجتُ إلى المدرسة. وكما توقعت، كانت رداتُ فعل أصدقائي مختلفة، ولعل أقساها من اتهمني بالخوف من “داعش”، فيما اعتبرها آخرون ضربةً استباقية من الدهاء، أما أنا فكنت أدمدمُ بيني وبين نفسي: سامحني يا الله ولا تحتسبني من المنافقين. وكنت أواجه الأسئلة بالصمت. لم أجادل أحداً يومها وكنت أكتفي بردودٍ مختصرة وأنهي الحديث.
لم أكن فلك يومها ربما، إذ كيف صمتُ وأنا التي لا أصمت أبداً. مات شيءٌ في داخلي يومها، ولا أعلم ما هو. لم يكن الألوان الزاهية التي غادرتها، ما مات يومها شيءٌ آخر أكثر عمقاً.
أيامٌ قليلةٌ مضت، وبدأت أرى النساء في قريتي يرتدين النقاب، ومنهن صديقتي، وأصبح المشهد مألوفاً خاصة مع اقتراب داعش من البلدة. ُكنت ما زلت على إيماني بالثورة، وكل تلك المعارك، وحصارهم قريتي لم يضعف قناعتي، وكنت أحسب أن جنود الظلام لن يدخلوا ولن يهزمو ثورتنا.
ولكن دخلوا. دخلوا على أجساد شبابنا وأحلامنا، وكان الموت والخذلان يملأ المكان، واللون الأسود الذي جلبوه معهم ليس بالأمر المدهش، فنحن بحاجته حداداً على أرواح أولادنا، الذين قضوا في قتالهم، وحداداً على ثورتنا اليتيمة. لم يكن الأسود أسوأ ماجلبوه معهم.
فقد لفّ السواد كل الأسواق، ومشهد النساء في الرقة صار مشهد قريتي أيضاً، ويضاف إليه الهزيمة. وهذه المرة لملمنا أحزاننا بسرعة، وعدنا الى العمل الإنساني الذي كنا نمارسه، فهو عزاؤنا الوحيد ومصدر ثباتنا في القرية.
ولم تكد النساء تلتزم بالنقاب، حتى أضافوا قراراً جديداً، يتمثل بضرورة إخفاء العينين أيضا. لا أنسى كلمات ذلك الشاب العشريني، الذي أوقفنا على طريق حلب الرقة وقال لي نقابك غير شرعي، ويجب أن ترتدي نقاباً يخفي عينيكي. فأجبته وكيف أرى أمامي، وهل من الشرع أن اصطدم بالرجال في الشارع حين يعيق رؤيتي ، فأجاب يا أختاه عيناك ملفتتان للنظر، وبالتالي تسببان لنا الفتنة.عدتُ وأجبته بسرعة وغضب ولماذا تنظر إلى عيني لتفتن؟ فتدخلت أمي محاولةً إنقاذ الموقف فاسكتتني.
أما الأحمق الآخر، الذي اقتحم مكان عملنا في المركز الطبي ليصرخ بنا، لماذا تكشفن عن عيونكن، فأجابه أحد الشباب، وكيف يا شيخ نحقن أبرة السل الدقيقة، لطفل عمره أسبوع بعيون مغطاة؟ طبعاً لم يلتفت، واستمر بالصراخ بصوته المرتفع، وسلاحه الذي يفوق قامته.
مرت أشهر على قرار اخفاء العينين ولم التزم به، لا استطيع. فأنا أرى وأضحك وأتكلم من خلال عيني. أنا مؤمنة الآن أنني أرتدي النقاب لأجل نفسي، أما باقي قوانينهم السوداء فلا تعنيني. كل مايعنيني الآن عملي الذي سلبوني إياه لاحقاً، ومتابعة الثورة في المحافظات الأخرى بانتظار عودتها إلينا وفكّ أسرنا.
مر العام الأول، ثمّ الثاني، ولم أتوقف يوماً عن الانتظار. هم لم يهزموننا، إلا عندما جردونا من عملنا، فأغلقوا المدارس والمراكز الطبية، وأوقفوا جميع أشكال العمل التطوعي، ولهذا ولأسباب أخرى وقبل عام تماماً قررتُ الخروج باتجاه تركيا.
بعد رحلة حافلة امتدت لشهرٍ ونصف، تعرضنا خلالها للسجن من قبل التنظيم، ومن قبل الجندرما التركية، أصطدم هنا نقابي للمرة الأولى، خارج أراضي “داعش”، بواقع مختلف لم يكن بالحسبان. على الحدود التركية، وبعد محاولة دخول فاشلة، ألقى عناصر الجندرما القبض علينا، فركض المهرب نحوي وراح يصرخ، اخلعي نقابك سيقتلوننا بسببه، أبعديه سيظنوننا دواعش.
هنا بدأت بالضحك، انتابتني نوبة ضحك شديد لم أضحكه منذ سنوات، استمر لدقائق وأنتهى بالبكاء ، خرجت من سجن “داعش” لأتهم بهم بسبب نقابي. وبعد عدة محاولات وصلنا إلى تركيا، وهنا لم أعد أشعر بالحنين الذي رافقني طوال رحلتي الى قريتي، ولكني فقدت شيئاً آخر مني، بعد تجاوزي للحدود، وهذه المرة أعلم ماهو.
لقد فقدت صفتي كمواطنة وأصبحتُ نازحة.
في المساء وصلنا إلى مدينة أورفا شرق تركيا. كانت الشوارع مُضاءة، وهذا مشهد غريب نسيناه في أرضنا المظلمة منذ سنوات. واجهات المحلات الملونة لم تشدني أبداً، وأنا المهووسة بالألوان وملابس المحجبات. مضت أيام قليلة، ولم أكد أتنفس الصعداء بعد من ثقل “داعش” على روحي، ومشقة الطريق، حتى بدأت أصطدم بما خلفه فكر التنظيم لدى الناس.
في الشارع صرت عرضة لتعليقات من قبل شباب وبنات كانوا ينتظرون أن أصبح قريبة منهم، فيصلني همسهم في أذني، “داعش”. في البداية كان الأمر يغضبني جداً، ويبكيني أحيانا، ولكن لاحقا أصبح يثير في الرغبة في الضحك. فهم يجهلون من أكون. ولكن أكثر ما أشعرني بالخيبة كان بعض الأصدقاء المقربين الذين كنت أفتخر بوجودهم في حياتي، عندما بدأوا بانتقاد نقابي، قائلين أنني أبالغ في تديني وفي النهاية خسرتهم أو هم خسروني.
خسرتُ أيضاً الكثير من فرص العمل ،التي كنت أرفضها لأنها لا تتناسب مع النقاب. أصبحت نشاطاتي مقتصرة على العالم الافتراضي، الذي لم يسلم هو أيضاً من الانتقادات من بعض الأشخاص، بعد أن كانوا يعلمون أنني منقبة. ومؤخراً شاركت في حملة من أجل المخيمات في الشرق السوري المنكوب، وحضرتُ اجتماعاً مع منظمة دولية، لوضعهم في صورة ما يجري على الأرض. طلب مني أحد الأصدقاء التحضير للاجتماع وقال، “جهزي الملف وابحثي عن شخص يستطيع تقديمه عنكِ، فكما تعلمين هؤلاء نظرتهم مختلفة عن النقاب، وأول فكرة سيأخذونها عنا هي التطرف، وبالتالي لن ننجز شيئاً ولن يتعاطفوا معنا.
دائما ترافقهم الدهشة عندما أتحدث عن الثورة، وعن حريتنا، وعن الدولة المدنية التي نطمح إليها، والسؤال المرافق لي دائماً في كل مكان، كيف لك أن تحملي هذه الأفكار وأنت منقبة؟ والغريب في الأمر أنني لم أدرك حتى الآن كيف يفكر هؤلاء الناس، وما العلاقة بين الحجاب والقضية التي أؤمن بها وأدافع عنها؟
كيف لهم وهم المدّعون تمثيل الثورة والحرية الشخصية لكل فرد فينا، أن يناقضوا أهدافهم! كيف أستطيع أن أخبرهم أنني قضية وأنني ثورة ولست “داعش”.
حتى الآن ألتزم الصمت، ولا أناقشهم بشأن قراري. وإنما أردد في نفسي، ” ياإلهي …أنا عند داعش متهمة بالعلمانية، وعند شركاء الثورة متهمة بالدعشنة ” ..
[video_player link=””][/video_player]

كيف ترى المنقبة؟ وكيف تُرى؟ سيرة امرأة سورية قبل تنظيم الدولة وبعده..
ألا يعتبر قرارك ِهذا نفاقاً؟ هذا السؤال طرحه علي أحد الأصدقاء ولعله من القلة الذين ناقشوني في قراري بكل احترام، أنا التي اعتدت أن تنهال علي الاتهامات بالتعصب أو بالنفاق. كنت الفتاة التي تخوض ثورة مزدوجة ضد النظام أولاً، وضد المجتمع الريفي الذي رفض وجودنا في النضال الثوري ثانياً، لتضاف أيضاً داعش لاحقا. لم أكن فتاةً مثالية في التزامها، وكان الحجاب كافياً بالنسبة لي. ومنحتني الثورة السورية لاحقاً المزيد من الشجاعة، فكنت صاخبة في كل شي، في دراستي وفي عملي وفي علاقتي مع أصدقائي. بقيتُ على هذا النحو إلى أن ظهر “داعش” كواقع كنت استبعد اقترابه. وأمام تقدم التنظيم المتسارع في العراق وسورية، أصبح المشهد ضبابياً، وما زاده سوءاً تلك الفرحة الموقتة، التي أصابت الناس بهذه الانتصارات خاصة في العراق. ويضاف إلى صخب تلك المعارك معركتنا نحن النساء مع التنظيم. معركة اللباس والعمل والدراسة وغيرها. تصدر النقاب المشهد بعد سيطرة التنظيم على مدينة الرقة، وحين فرض العباءة السوداء والنقاب كلباس ٍشرعيٍ للنساء هناك. وكانت تصلنا الأخبار المتلاحقة عن ممارسات التنظيم وكنا نحن النساء، نأخذ الحديث على محمل التحدي. كنا نقول، نحن اللواتي رفضن الرضوخ لجور نظام الأسد، فهل سنرضخ للتنظيم؟ كانت هذه ردودنا على جميع الأخبار التي تصلنا. حصل أول تحدٍ لي مع التنظيم بعد سيطرته على الرقة. فبعد أن…

تخبّط عالمي بعد تعليق التمويل الأميركي… ماذا عن الإعلام المستقلّ والجيش اللبناني؟

مجتمع الميم في سوريا: انتهاك الكرامة الإنسانيّة وترسيخ الإفلات من العقاب !

لبنان: تحالف مرئي بين “حزب المصارف” وحزب السلاح
ألا يعتبر قرارك ِهذا نفاقاً؟ هذا السؤال طرحه علي أحد الأصدقاء ولعله من القلة الذين ناقشوني في قراري بكل احترام، أنا التي اعتدت أن تنهال علي الاتهامات بالتعصب أو بالنفاق. كنت الفتاة التي تخوض ثورة مزدوجة ضد النظام أولاً، وضد المجتمع الريفي الذي رفض وجودنا في النضال الثوري ثانياً، لتضاف أيضاً داعش لاحقا. لم أكن فتاةً مثالية في التزامها، وكان الحجاب كافياً بالنسبة لي. ومنحتني الثورة السورية لاحقاً المزيد من الشجاعة، فكنت صاخبة في كل شي، في دراستي وفي عملي وفي علاقتي مع أصدقائي. بقيتُ على هذا النحو إلى أن ظهر “داعش” كواقع كنت استبعد اقترابه. وأمام تقدم التنظيم المتسارع في العراق وسورية، أصبح المشهد ضبابياً، وما زاده سوءاً تلك الفرحة الموقتة، التي أصابت الناس بهذه الانتصارات خاصة في العراق. ويضاف إلى صخب تلك المعارك معركتنا نحن النساء مع التنظيم. معركة اللباس والعمل والدراسة وغيرها. تصدر النقاب المشهد بعد سيطرة التنظيم على مدينة الرقة، وحين فرض العباءة السوداء والنقاب كلباس ٍشرعيٍ للنساء هناك. وكانت تصلنا الأخبار المتلاحقة عن ممارسات التنظيم وكنا نحن النساء، نأخذ الحديث على محمل التحدي. كنا نقول، نحن اللواتي رفضن الرضوخ لجور نظام الأسد، فهل سنرضخ للتنظيم؟ كانت هذه ردودنا على جميع الأخبار التي تصلنا. حصل أول تحدٍ لي مع التنظيم بعد سيطرته على الرقة. فبعد أن أصبح دخولي إلى ديرالزور المدينة مستحيلا بحكم مشاركتي في الثورة، وبسبب مرض ٍأصابني، جاءتني الفرصة للذهاب الى الرقة، حيث “داعش”، وهنا سأشبع فضولي، وأرى داعش على أرض الواقع وأتأكد من جميع القرارات، خاصة تلك المتعلقة بي كفتاة . كنت سعيدةً جداً، ومتحمسةً لزيارة الرقة للمرة الأولى، بعدما سيطر التنظيم عليها. وفي الصباح ارتديت ملابسي المعتادة الملونة، والحجاب الأبيض وبعض المكياج، الذي تقصدت وضعه على وجهي، فأنا ذاهبة لاكتشاف عالم آخر، أثار في نفسي الكثير من الفضول. صعدتُ الى السيارة برفقة صديقتي، فتوقف السائق ونظر إلينا بغضب وقال: ارتدوا العباءة على الأقل، وإلا سوف أُحاسب، وتصادر سيارتي وقد يعيدوننا ويمنعونا من الدخول إلى الرقة. رفضتُ حتى نقاشه وأجبته، أنني المسؤولة عن نفسي، وسأخبرهم إذا لزم الأمر بذلك. بدأت الرحلة أخيراً، وبدأ عقلي يضج بالأسئلة، في انتظار الوصول إلى الرقة. وعند مدخل المدينة، ارتدت جميع النساء النقاب والعباءة، باستثنائي أنا وصديقتي، ونحن نتابع المشهد والصدمة بادية على وجوهنا. ماهذا!!! ياإلهي يُخفون العباءة والنقاب في حقائبهم ويرتدونها عند الاقتراب من الرقة. ولم تكد تنتهي دهشتي، حتى توقفت السيارة أمام حاجز التنظيم الأول، وتقدم شاب لا يتجاوز العشرين من عمره باتجاهنا، وصرخ بي وبصديقتي: ما هذا يا أختاه أين نقابك؟ فأجبته بكل ثقة، أنا لست منقبة بالأساس، ولن أرتدي النقاب في منطقتك لأرضيك وأخلعه خارجها، فأكون بذلك منافقة أمام الله وكاذبة أمامك، وهذه الصفات بعيدة عني كل البعد. فدمدم “الله يهديكي اذهبوا اذهبوا”. أكمل السائق طريقه بسرعة، ولم يتسنّ لي أن أرد عليه، وسط غضب وضجة باقي النساء والرجال في السيارة، الذين ينظرون إلينا كمجرمتين كدنا أن نتسبب بفشل رحلتهم. دخلنا المدينة وكانت صدمتي الثانية. فالجميع في الشوارع يرتدي الأسود من رأسه حتى قدميه، والمحلات التي كانت تتميز عن باقي أسواق سورية بألوانها الصاخبة سوداء كئيبة. المدينة كلها يلفها السواد وكأنها في حالة حداد على نفسها. بعد عودتي انهالت علي الأسئلة من أصدقائي وأقربائي ماذا رأيتي وكيف تصرفتي، فالجميع كان يريد أن يعرف. والكثير الكثير من علامات الاستفهامات المرافقة لرعبي على مستقبل الثورة، فـ”داعش” أصبحت واقعاً لامفرّ منه. إنه واقعٌ رأيته بعيني ، فكنت أشمّ رائحة سوادهم كلما سقطت بلدة تحت سيطرتهم. صراعٌ على الأرض وصراعٌ آخر في عقلي ، كيف سأرتدي الأسود تحت قوانين التنظيم وبالإجبار، وكيف سأتنازل لهم؟ كيف سأقف أمام طلابي وأصدقائي وأهل قريتي الذين صدعتُ رؤوسهم بالحديث عن التمرد ضد الطغاة من النظام حتى “داعش”. ثم كيف سأواجه أعداء الثورة، من داعمي النظام ممن كنت ألتقي بهم في المدرسة، أو العمل، ودائماً كانوا يقولون لي لنرى ماذا أنت فاعلة أمام “داعش”. في ظل الأحداث المتسارعة، كنت أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن أوافق أهلي على قرار السفر المطروح منذ بداية الثورة والمرفوض من قبلي، وغير قابل للنقاش، وإما الخيار الثاني. جلستُ لوحدي وتكلمتُ مع الله كما أفعل دائماً في فرحي وفي حزني، وأخبرته أنني سأرتدي النقاب، وعاهدته على أن أبذل كل قوتي أمام مغريات الحياة، للحفاظ عليه حتى لا يحتَسب ذلك علي نفاقاً، ورجوته أن يتقبل مني ذلك، وأن يساندني، ويمنحني الثبات عليه. جمعتُ حقائب السفر في منزلنا، ووضعت فيها جميع ملابسي الملونة، وكلما وضعت قطعة ملابس خاصة، فاحت منها ذكرى جميلة. حاولتُ أن أعطل مشاعري هذه. لم أُبقِ على شيء سوى العباءات السوداء، التي كانت تصلني من أشقائي في السعودية، وفي حينها كان مصيرها الحقائب والنسيان، والآن حان وقت إعادة الاعتبار لها. في الصباح ارتديتُ النقاب لأول مرة، وخرجتُ إلى المدرسة. وكما توقعت، كانت رداتُ فعل أصدقائي مختلفة، ولعل أقساها من اتهمني بالخوف من “داعش”، فيما اعتبرها آخرون ضربةً استباقية من الدهاء، أما أنا فكنت أدمدمُ بيني وبين نفسي: سامحني يا الله ولا تحتسبني من المنافقين. وكنت أواجه الأسئلة بالصمت. لم أجادل أحداً يومها وكنت أكتفي بردودٍ مختصرة وأنهي الحديث. لم أكن فلك يومها ربما، إذ كيف صمتُ وأنا التي لا أصمت أبداً. مات شيءٌ في داخلي يومها، ولا أعلم ما هو. لم يكن الألوان الزاهية التي غادرتها، ما مات يومها شيءٌ آخر أكثر عمقاً. أيامٌ قليلةٌ مضت، وبدأت أرى النساء في قريتي يرتدين النقاب، ومنهن صديقتي، وأصبح المشهد مألوفاً خاصة مع اقتراب داعش من البلدة. ُكنت ما زلت على إيماني بالثورة، وكل تلك المعارك، وحصارهم قريتي لم يضعف قناعتي، وكنت أحسب أن جنود الظلام لن يدخلوا ولن يهزمو ثورتنا. ولكن دخلوا. دخلوا على أجساد شبابنا وأحلامنا، وكان الموت والخذلان يملأ المكان، واللون الأسود الذي جلبوه معهم ليس بالأمر المدهش، فنحن بحاجته حداداً على أرواح أولادنا، الذين قضوا في قتالهم، وحداداً على ثورتنا اليتيمة. لم يكن الأسود أسوأ ماجلبوه معهم. فقد لفّ السواد كل الأسواق، ومشهد النساء في الرقة صار مشهد قريتي أيضاً، ويضاف إليه الهزيمة. وهذه المرة لملمنا أحزاننا بسرعة، وعدنا الى العمل الإنساني الذي كنا نمارسه، فهو عزاؤنا الوحيد ومصدر ثباتنا في القرية. ولم تكد النساء تلتزم بالنقاب، حتى أضافوا قراراً جديداً، يتمثل بضرورة إخفاء العينين أيضا. لا أنسى كلمات ذلك الشاب العشريني، الذي أوقفنا على طريق حلب الرقة وقال لي نقابك غير شرعي، ويجب أن ترتدي نقاباً يخفي عينيكي. فأجبته وكيف أرى أمامي، وهل من الشرع أن اصطدم بالرجال في الشارع حين يعيق رؤيتي ، فأجاب يا أختاه عيناك ملفتتان للنظر، وبالتالي تسببان لنا الفتنة.عدتُ وأجبته بسرعة وغضب ولماذا تنظر إلى عيني لتفتن؟ فتدخلت أمي
ألا يعتبر قرارك ِهذا نفاقاً؟
هذا السؤال طرحه علي أحد الأصدقاء ولعله من القلة الذين ناقشوني في قراري بكل احترام، أنا التي اعتدت أن تنهال علي الاتهامات بالتعصب أو بالنفاق. كنت الفتاة التي تخوض ثورة مزدوجة ضد النظام أولاً، وضد المجتمع الريفي الذي رفض وجودنا في النضال الثوري ثانياً، لتضاف أيضاً داعش لاحقا.
لم أكن فتاةً مثالية في التزامها، وكان الحجاب كافياً بالنسبة لي. ومنحتني الثورة السورية لاحقاً المزيد من الشجاعة، فكنت صاخبة في كل شي، في دراستي وفي عملي وفي علاقتي مع أصدقائي.
بقيتُ على هذا النحو إلى أن ظهر “داعش” كواقع كنت استبعد اقترابه. وأمام تقدم التنظيم المتسارع في العراق وسورية، أصبح المشهد ضبابياً، وما زاده سوءاً تلك الفرحة الموقتة، التي أصابت الناس بهذه الانتصارات خاصة في العراق. ويضاف إلى صخب تلك المعارك معركتنا نحن النساء مع التنظيم. معركة اللباس والعمل والدراسة وغيرها.
تصدر النقاب المشهد بعد سيطرة التنظيم على مدينة الرقة، وحين فرض العباءة السوداء والنقاب كلباس ٍشرعيٍ للنساء هناك. وكانت تصلنا الأخبار المتلاحقة عن ممارسات التنظيم وكنا نحن النساء، نأخذ الحديث على محمل التحدي. كنا نقول، نحن اللواتي رفضن الرضوخ لجور نظام الأسد، فهل سنرضخ للتنظيم؟ كانت هذه ردودنا على جميع الأخبار التي تصلنا.
حصل أول تحدٍ لي مع التنظيم بعد سيطرته على الرقة. فبعد أن أصبح دخولي إلى ديرالزور المدينة مستحيلا بحكم مشاركتي في الثورة، وبسبب مرض ٍأصابني، جاءتني الفرصة للذهاب الى الرقة، حيث “داعش”، وهنا سأشبع فضولي، وأرى داعش على أرض الواقع وأتأكد من جميع القرارات، خاصة تلك المتعلقة بي كفتاة .
كنت سعيدةً جداً، ومتحمسةً لزيارة الرقة للمرة الأولى، بعدما سيطر التنظيم عليها. وفي الصباح ارتديت ملابسي المعتادة الملونة، والحجاب الأبيض وبعض المكياج، الذي تقصدت وضعه على وجهي، فأنا ذاهبة لاكتشاف عالم آخر، أثار في نفسي الكثير من الفضول.
صعدتُ الى السيارة برفقة صديقتي، فتوقف السائق ونظر إلينا بغضب وقال: ارتدوا العباءة على الأقل، وإلا سوف أُحاسب، وتصادر سيارتي وقد يعيدوننا ويمنعونا من الدخول إلى الرقة.
رفضتُ حتى نقاشه وأجبته، أنني المسؤولة عن نفسي، وسأخبرهم إذا لزم الأمر بذلك.
بدأت الرحلة أخيراً، وبدأ عقلي يضج بالأسئلة، في انتظار الوصول إلى الرقة. وعند مدخل المدينة، ارتدت جميع النساء النقاب والعباءة، باستثنائي أنا وصديقتي، ونحن نتابع المشهد والصدمة بادية على وجوهنا.
ماهذا!!!
ياإلهي يُخفون العباءة والنقاب في حقائبهم ويرتدونها عند الاقتراب من الرقة. ولم تكد تنتهي دهشتي، حتى توقفت السيارة أمام حاجز التنظيم الأول، وتقدم شاب لا يتجاوز العشرين من عمره باتجاهنا، وصرخ بي وبصديقتي: ما هذا يا أختاه أين نقابك؟
فأجبته بكل ثقة، أنا لست منقبة بالأساس، ولن أرتدي النقاب في منطقتك لأرضيك وأخلعه خارجها، فأكون بذلك منافقة أمام الله وكاذبة أمامك، وهذه الصفات بعيدة عني كل البعد.
فدمدم “الله يهديكي اذهبوا اذهبوا”.
أكمل السائق طريقه بسرعة، ولم يتسنّ لي أن أرد عليه، وسط غضب وضجة باقي النساء والرجال في السيارة، الذين ينظرون إلينا كمجرمتين كدنا أن نتسبب بفشل رحلتهم.
دخلنا المدينة وكانت صدمتي الثانية. فالجميع في الشوارع يرتدي الأسود من رأسه حتى قدميه، والمحلات التي كانت تتميز عن باقي أسواق سورية بألوانها الصاخبة سوداء كئيبة. المدينة كلها يلفها السواد وكأنها في حالة حداد على نفسها.
بعد عودتي انهالت علي الأسئلة من أصدقائي وأقربائي ماذا رأيتي وكيف تصرفتي، فالجميع كان يريد أن يعرف. والكثير الكثير من علامات الاستفهامات المرافقة لرعبي على مستقبل الثورة، فـ”داعش” أصبحت واقعاً لامفرّ منه. إنه واقعٌ رأيته بعيني ، فكنت أشمّ رائحة سوادهم كلما سقطت بلدة تحت سيطرتهم.
صراعٌ على الأرض وصراعٌ آخر في عقلي ، كيف سأرتدي الأسود تحت قوانين التنظيم وبالإجبار، وكيف سأتنازل لهم؟ كيف سأقف أمام طلابي وأصدقائي وأهل قريتي الذين صدعتُ رؤوسهم بالحديث عن التمرد ضد الطغاة من النظام حتى “داعش”. ثم كيف سأواجه أعداء الثورة، من داعمي النظام ممن كنت ألتقي بهم في المدرسة، أو العمل، ودائماً كانوا يقولون لي لنرى ماذا أنت فاعلة أمام “داعش”.
في ظل الأحداث المتسارعة، كنت أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن أوافق أهلي على قرار السفر المطروح منذ بداية الثورة والمرفوض من قبلي، وغير قابل للنقاش، وإما الخيار الثاني. جلستُ لوحدي وتكلمتُ مع الله كما أفعل دائماً في فرحي وفي حزني، وأخبرته أنني سأرتدي النقاب، وعاهدته على أن أبذل كل قوتي أمام مغريات الحياة، للحفاظ عليه حتى لا يحتَسب ذلك علي نفاقاً، ورجوته أن يتقبل مني ذلك، وأن يساندني، ويمنحني الثبات عليه.
جمعتُ حقائب السفر في منزلنا، ووضعت فيها جميع ملابسي الملونة، وكلما وضعت قطعة ملابس خاصة، فاحت منها ذكرى جميلة. حاولتُ أن أعطل مشاعري هذه. لم أُبقِ على شيء سوى العباءات السوداء، التي كانت تصلني من أشقائي في السعودية، وفي حينها كان مصيرها الحقائب والنسيان، والآن حان وقت إعادة الاعتبار لها.
في الصباح ارتديتُ النقاب لأول مرة، وخرجتُ إلى المدرسة. وكما توقعت، كانت رداتُ فعل أصدقائي مختلفة، ولعل أقساها من اتهمني بالخوف من “داعش”، فيما اعتبرها آخرون ضربةً استباقية من الدهاء، أما أنا فكنت أدمدمُ بيني وبين نفسي: سامحني يا الله ولا تحتسبني من المنافقين. وكنت أواجه الأسئلة بالصمت. لم أجادل أحداً يومها وكنت أكتفي بردودٍ مختصرة وأنهي الحديث.
لم أكن فلك يومها ربما، إذ كيف صمتُ وأنا التي لا أصمت أبداً. مات شيءٌ في داخلي يومها، ولا أعلم ما هو. لم يكن الألوان الزاهية التي غادرتها، ما مات يومها شيءٌ آخر أكثر عمقاً.
أيامٌ قليلةٌ مضت، وبدأت أرى النساء في قريتي يرتدين النقاب، ومنهن صديقتي، وأصبح المشهد مألوفاً خاصة مع اقتراب داعش من البلدة. ُكنت ما زلت على إيماني بالثورة، وكل تلك المعارك، وحصارهم قريتي لم يضعف قناعتي، وكنت أحسب أن جنود الظلام لن يدخلوا ولن يهزمو ثورتنا.
ولكن دخلوا. دخلوا على أجساد شبابنا وأحلامنا، وكان الموت والخذلان يملأ المكان، واللون الأسود الذي جلبوه معهم ليس بالأمر المدهش، فنحن بحاجته حداداً على أرواح أولادنا، الذين قضوا في قتالهم، وحداداً على ثورتنا اليتيمة. لم يكن الأسود أسوأ ماجلبوه معهم.
فقد لفّ السواد كل الأسواق، ومشهد النساء في الرقة صار مشهد قريتي أيضاً، ويضاف إليه الهزيمة. وهذه المرة لملمنا أحزاننا بسرعة، وعدنا الى العمل الإنساني الذي كنا نمارسه، فهو عزاؤنا الوحيد ومصدر ثباتنا في القرية.
ولم تكد النساء تلتزم بالنقاب، حتى أضافوا قراراً جديداً، يتمثل بضرورة إخفاء العينين أيضا. لا أنسى كلمات ذلك الشاب العشريني، الذي أوقفنا على طريق حلب الرقة وقال لي نقابك غير شرعي، ويجب أن ترتدي نقاباً يخفي عينيكي. فأجبته وكيف أرى أمامي، وهل من الشرع أن اصطدم بالرجال في الشارع حين يعيق رؤيتي ، فأجاب يا أختاه عيناك ملفتتان للنظر، وبالتالي تسببان لنا الفتنة.عدتُ وأجبته بسرعة وغضب ولماذا تنظر إلى عيني لتفتن؟ فتدخلت أمي محاولةً إنقاذ الموقف فاسكتتني.
أما الأحمق الآخر، الذي اقتحم مكان عملنا في المركز الطبي ليصرخ بنا، لماذا تكشفن عن عيونكن، فأجابه أحد الشباب، وكيف يا شيخ نحقن أبرة السل الدقيقة، لطفل عمره أسبوع بعيون مغطاة؟ طبعاً لم يلتفت، واستمر بالصراخ بصوته المرتفع، وسلاحه الذي يفوق قامته.
مرت أشهر على قرار اخفاء العينين ولم التزم به، لا استطيع. فأنا أرى وأضحك وأتكلم من خلال عيني. أنا مؤمنة الآن أنني أرتدي النقاب لأجل نفسي، أما باقي قوانينهم السوداء فلا تعنيني. كل مايعنيني الآن عملي الذي سلبوني إياه لاحقاً، ومتابعة الثورة في المحافظات الأخرى بانتظار عودتها إلينا وفكّ أسرنا.
مر العام الأول، ثمّ الثاني، ولم أتوقف يوماً عن الانتظار. هم لم يهزموننا، إلا عندما جردونا من عملنا، فأغلقوا المدارس والمراكز الطبية، وأوقفوا جميع أشكال العمل التطوعي، ولهذا ولأسباب أخرى وقبل عام تماماً قررتُ الخروج باتجاه تركيا.
بعد رحلة حافلة امتدت لشهرٍ ونصف، تعرضنا خلالها للسجن من قبل التنظيم، ومن قبل الجندرما التركية، أصطدم هنا نقابي للمرة الأولى، خارج أراضي “داعش”، بواقع مختلف لم يكن بالحسبان. على الحدود التركية، وبعد محاولة دخول فاشلة، ألقى عناصر الجندرما القبض علينا، فركض المهرب نحوي وراح يصرخ، اخلعي نقابك سيقتلوننا بسببه، أبعديه سيظنوننا دواعش.
هنا بدأت بالضحك، انتابتني نوبة ضحك شديد لم أضحكه منذ سنوات، استمر لدقائق وأنتهى بالبكاء ، خرجت من سجن “داعش” لأتهم بهم بسبب نقابي. وبعد عدة محاولات وصلنا إلى تركيا، وهنا لم أعد أشعر بالحنين الذي رافقني طوال رحلتي الى قريتي، ولكني فقدت شيئاً آخر مني، بعد تجاوزي للحدود، وهذه المرة أعلم ماهو.
لقد فقدت صفتي كمواطنة وأصبحتُ نازحة.
في المساء وصلنا إلى مدينة أورفا شرق تركيا. كانت الشوارع مُضاءة، وهذا مشهد غريب نسيناه في أرضنا المظلمة منذ سنوات. واجهات المحلات الملونة لم تشدني أبداً، وأنا المهووسة بالألوان وملابس المحجبات. مضت أيام قليلة، ولم أكد أتنفس الصعداء بعد من ثقل “داعش” على روحي، ومشقة الطريق، حتى بدأت أصطدم بما خلفه فكر التنظيم لدى الناس.
في الشارع صرت عرضة لتعليقات من قبل شباب وبنات كانوا ينتظرون أن أصبح قريبة منهم، فيصلني همسهم في أذني، “داعش”. في البداية كان الأمر يغضبني جداً، ويبكيني أحيانا، ولكن لاحقا أصبح يثير في الرغبة في الضحك. فهم يجهلون من أكون. ولكن أكثر ما أشعرني بالخيبة كان بعض الأصدقاء المقربين الذين كنت أفتخر بوجودهم في حياتي، عندما بدأوا بانتقاد نقابي، قائلين أنني أبالغ في تديني وفي النهاية خسرتهم أو هم خسروني.
خسرتُ أيضاً الكثير من فرص العمل ،التي كنت أرفضها لأنها لا تتناسب مع النقاب. أصبحت نشاطاتي مقتصرة على العالم الافتراضي، الذي لم يسلم هو أيضاً من الانتقادات من بعض الأشخاص، بعد أن كانوا يعلمون أنني منقبة. ومؤخراً شاركت في حملة من أجل المخيمات في الشرق السوري المنكوب، وحضرتُ اجتماعاً مع منظمة دولية، لوضعهم في صورة ما يجري على الأرض. طلب مني أحد الأصدقاء التحضير للاجتماع وقال، “جهزي الملف وابحثي عن شخص يستطيع تقديمه عنكِ، فكما تعلمين هؤلاء نظرتهم مختلفة عن النقاب، وأول فكرة سيأخذونها عنا هي التطرف، وبالتالي لن ننجز شيئاً ولن يتعاطفوا معنا.
دائما ترافقهم الدهشة عندما أتحدث عن الثورة، وعن حريتنا، وعن الدولة المدنية التي نطمح إليها، والسؤال المرافق لي دائماً في كل مكان، كيف لك أن تحملي هذه الأفكار وأنت منقبة؟ والغريب في الأمر أنني لم أدرك حتى الآن كيف يفكر هؤلاء الناس، وما العلاقة بين الحجاب والقضية التي أؤمن بها وأدافع عنها؟
كيف لهم وهم المدّعون تمثيل الثورة والحرية الشخصية لكل فرد فينا، أن يناقضوا أهدافهم! كيف أستطيع أن أخبرهم أنني قضية وأنني ثورة ولست “داعش”.
حتى الآن ألتزم الصمت، ولا أناقشهم بشأن قراري. وإنما أردد في نفسي، ” ياإلهي …أنا عند داعش متهمة بالعلمانية، وعند شركاء الثورة متهمة بالدعشنة ” ..
[video_player link=””][/video_player]
آخر القصص

السعادة للنساء القويات والمتمردات فقط!

50 مليون طن من الركام الملوّث خلّفتها الحرب الإسرائيليّة على غزة

تخبّط عالمي بعد تعليق التمويل الأميركي… ماذا عن الإعلام المستقلّ والجيش اللبناني؟

مجتمع الميم في سوريا: انتهاك الكرامة الإنسانيّة وترسيخ الإفلات من العقاب !
