fbpx

كيف دمّرت حروب المعلومات المضلِّلة في سوريا حياة أحد مؤسّسي “الخُوَذ البيض”؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

خلال السنوات التي سبقت وفاة جيمس، أصبح هو ومنظّمة “الخوذ البيض” محورَ اهتمام حملة تضليل إلكترونيّة يقودها مسؤولون سوريّون ورُوس، ويروِّج لها مدوّنون موالون للأسد وشخصيّات إعلاميّة يمينيّة متطرِّفة …

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، وقبل شروق الشمس مباشرة على إسطنبول، استيقظت إيمّا وينبرغ من غفوة قصيرة على صوت طرقٍ مدوٍّ متكرّر على باب بيتها الحديديّ. تحسّست إيمّا بهلعٍ المساحة الفارغة بجوارها على السرير، بعيونٍ نصف نائمة. نهضت سريعاً وارتدت سروالاً على عجلٍ، وتعثّرت بالمصباح الذي بجوار السرير أثناء ركضها إلى المطبخ المجاور لغرفة النوم. قالت إيمّا، “لم يكن جيمس موجوداً هناك. وأدركت لحظتها ما حدث”.

نامت إيمّا لفترة قصيرة بعد ليلة مضطربة. وبينما كانت تغطّ في النوم، في حدود الساعة الرابعة والنصف صباحاً، رأت زوجها ينظر إليها وهو يقف بالقرب من نافذة غرفة النوم في شقّتهما التي تقع في الدور الثالث. وبعدما استيقظت فزِعة، توجّهت إلى البقعة التي كان يقف فيها، وكان فزعها يزيد مع كلّ خطوة تخطوها. تقول إيمّا، “نظرت إلى الأسفل وقلت لنفسي: شكراً يا إلهي، جيمس ليس هنا. ثم نظرت إلى اليسار”.

كان جيمس لو ميسورييه، الذي شارك في تأسيس “الخُوَذ البيض”، المنظّمة التي تكرّس جهودها لإنقاذ المدنيّين العالقين في الحرب السوريّة، يتمدّد عارياً في الأسفل وسط العتمة. وقد التفّ مصلّون كانوا في طريقهم لأداء صلاة الفجر، في جامع “قليج علي باشا” القريب، بصمتٍ حول جثّة الأجنبيّ الممدّدة على أرضيّة الزقاق المرصوف بالحصى. وتبعثرت الضمادات والأغلفة البلاستيكيّة التي خلّفها المسعفون وراءهم في موقع الحادث.

في مكان ليس ببعيد، كانت سفن الشحن المحمَّلة ببضائع تشقّ طريقها عبر مياه البوسفور التي بدت رماديّة اللون. ووقفت نوارس على حائط تراقب المشهد، بينما واصلت جموع المتفرّجين ورجال الشرطة ازديادها. حينها بدأت شمس الخريف تتسلّل ببطءٍ فوق الأفق. 

وصلت إيمّا أسفل الدرج وهي تتعثّر، وفتحت أحد البابَين الأمنيَّين، وعندما همَّت بفتح الثاني هُرِع خمسة رجال شرطة إليها. أخبرَتني إيمّا راهناً في المرّة الأولى التي تحدّثت فيها علناً عن وفاة زوجها قائلة، “سمعتُ بعدها من شخص آخَر أنّني كنت أبكي وأردِّد: لا، لا، لا. أحضرتُ بطّانيّة لأنّني كنت أريد أنْ أغطّيه. كنت أستطيع رؤيته وأنا واقفة عند الباب، لكنّهم لم يسمحوا لي بلمسه. حاولتُ إقناعهم بأخذ البطّانيّة لوضعها عليه وتغطيته، لكنّهم رفضوا أيضاً، وأجبروني على الصعود إلى الأعلى. ثم بدأت بعد ذلك أسوأ لحظة في حياتي”.

سرعان ما انتشر خبر وفاة جيمس، وأصبح محورَ حديث الأوساط السياسيّة في إسطنبول وشمال سوريا. واستيقظ الناس في لندن وموسكو -حيث كان أكثر شهرةً- على تقارير وفاته بعد ساعتين من الحادثة. اطّلع أيضاً كبارُ المسؤولين في البلدَين، بينهم بوريس جونسون شخصيّاً، على الخبر قبل إفطارهم. كان هذا خبراً عالميّاً بتداعيات واسعة النطاق. التقى بوريس جيمس خلال زيارة سابقة قام بها بوريس إلى تركيا عام 2016 عندما كان وزيراً للخارجيّة، وظلَّ داعماً لعمله من ذلك الحين.

جيمس لو ميسورييه، من مؤسسي “الخُوَذ البيض”

منذ أواخر عام 2013، كان جيمس يساهم في تنسيق فريق من المتطوّعين في شمال غربيّ سوريا، حيث يتركّز معظم المعارضين لحكم بشّار الأسد. كانت المنطقة خارج تغطية رجال الإنقاذ المدعومين من الدولة؛ ولهذا -وبدافع اليأس- بدأ سكّان المنطقة -من مدرّسين ونجّارين ومدنيّين آخرين- تنظيم أنفسهم وتشكيل مجموعات لانتشال أفراد أسرهم وجيرانهم من تحت الأنقاض بعد القصف الجوّيّ. وقد التمَس رجال إنقاذ المساعدة من مؤسّسة “أرك” Ark الدوليّة للاستشارات الإنسانيّة في الإمارات، التي كان يعمل جيمس فيها حينذاك. وبعد عشر سنوات في الشرق الأوسط، أصيب بخيبة أمل إزاء شركات الأمن الأجنبيّة ذات الميزانيّات الضخمة، التي شعر بأنّها تعمل على إثراء المتعاقدين الأجانب أكثر من سعيها إلى تمكين السكّان المحلّيّين. وتصوَّر أنّ المنظّمات ذات القواعد الشعبيّة، التي تتشكّل من مدنيّين يعملون على أرض الواقع، يُمكن أنْ تقدم أداءً أفضل بكثير. وبدا له أنّ عمل رجال الإنقاذ السوريّين المدنيّين مثاليّ للغاية. لذا استقال من “أرك”، وأخذ فكرة المشروع معه، وانتقل للعيش في تركيا.

سرعان ما كبرت الفكرة. وبدأ جيمس، الذي كان ضابطاً في الجيش البريطانيّ خلال التسعينات، يساعد على تدريب رجال الإنقاذ المتطوعين ويؤمّن التمويل الدوليّ لِعملهم. وأسّس في مطلع عام 2014 “مؤسّسة مِيْدِي للإنقاذ” Mayday Rescue Foundation، ويعني اسمها مؤسّسة “الاستغاثة للإنقاذ”، لتدريب المدنيّين المتطوّعين وتزويدهم بالمعدّات اللازمة، وجعلها شغله الشاغل خلال آخر خمس سنوات من حياته.

 بعد فترة قصيرة تحولت الفكرة إلى منظّمة ذات اسم بارز. وبدأ المتطوعون في “الخوذ البيض” -كما باتوا يُعرَفون- استخدام الكاميرات المثبَّتة على الرأس لتسجيل ما كان يحدث على أرض الواقع. كان لصور المتطوعين السوريّين، الذين يرتدون خُوَذاً بيضاً عليها كشّافات ويضعون أقنعة واقية من الغازات، وهم يجاهدون وسط الأنقاض لإنقاذ الأرواح، وقعٌ كبير في جميع أنحاء العالم. واستطاعت مَشاهدُ الرضَّعِ الذين يُنتشَلون أحياءً من تحت أنقاض المباني المقصوفة والأطفالِ الذين يُنقَلون إلى سيّارات الإسعاف من وسط حطام المنازل المحترقة، أنْ تضع حدّاً لحالة التخاذل العامّ المحيطة بالحرب. احتفى صنّاع الأفلام والمشاهير وزعماء العالم بمجهودات “الخوذ البيض”. كانت المنظّمة، في أوجها، تُموِّل 200 فريق في مختلف أنحاء سوريا، بإجمالي 4 آلاف رجل إنقاذ ومُسعِف، مع توفير شاحنات إغاثة وسيّارات إسعاف ومعدّات حفر أيضاً. 

انهالت الأموال على المنظّمة، إذ تبرَّعت بريطانيا والدنمارك وألمانيا وهولندا وقطر وكندا بمبالغ وصل مجموعها إلى 30 مليون دولار سنويّاً، عندما كانت الطائرات الروسيّة والسوريّة تقصف مئات آلاف الأشخاص في شمال غربي سوريا. فقد وصل عدد القتلى في الصراع إلى حوالى 500 ألف شخص في منتصف عام 2015. وارتفعت هذه الأرقام في أواخر العام نفسه عندما تكثّفت الغارات الجوّيّة الروسيّة. ومنذ ذلك الحين وعدد القتلى آخذ في الارتفاع.

كانت سوريا تنهار بالكامل، في كارثة عالميّة أخرى أعقبت الغزو الأميركيّ-البريطانيّ المشترَك للعراق والإخفاقات الجسيمة التي حدثت خلاله، والتي لطّخت سمعة الحكومة البريطانيّة (ودفعتها للاعتذار لاحقاً). بَدَا أنّ تمويل “الخوذ البيض” يُمثّل وسيلة مساعدة مأمونة خالية من المخاطر للدول التي لا ترغب في التدخّل عسكرياً. لذا أصبح تعاوُن الحكومة البريطانيّة مع “ميدي” من التدخّلات المعروفة القليلة التي قامت بها بريطانيا في الحرب السوريّة.

حصد عمل “الخوذ البيض” لاحقاً أوسمةً وجوائز عالميّة. ورُشِّحت المنظّمة أكثر من مرّة لنيل جائزة نوبل للسلام. وعام 2016، حصل جيمس على وسام الإمبراطوريّة البريطانيّة برتبة ضابط “لحمايته المدنيّين في سوريا”. ثمّ في العام التالي، فاز وثائقيّ “الخوذ البيض” الذي أنتجته “نتفلكس” بجائزة أوسكار. لكن مع تعاظم شهرة المنظّمة دوليّاً، اجتذبت أيضاً أعداءً أقوياء كانوا مصمِّمين على تشويه سمعتها ومطاردة مَن يقفون خلفها.

وبَينما كان خبراء الطبّ الشرعيّ يُشرِّحون جثمان جيمس، وصل مزيد من رجال الشرطة إلى مقرّ “ميدي”، الذي يقع في الطبقة الثانية من البناية التي كان جيمس يسكن فيها؛ وسرعان ما عجَّ المكان بالمسؤولين. في الدور العلويّ، الثالث، كان المحقِّقون يباشرون العمل مع إيمّا، فقد أخذوا بصماتها وعيِّنات من حمضها النوويّ، وعامَلوها كمشتبهٍ بها في جريمة قتل. في الطرف الآخَر من المدينة، حيث يقع مقرّ منظّمة “الخوذ البيض” ومكاتبها، استيقظ الموظّفون على الأخبار المروِّعة التي تتحدّث عن وفاة جيمس. وكذلك كان الحال على الإنترنت، حيث طُعِنَ في عمل المؤسّسة -وعمل جيمس نفسه- منذ اللحظة الأولى لتأسيسها. 

عام 2016، حصل جيمس على وسام الإمبراطوريّة البريطانيّة برتبة ضابط “لحمايته المدنيّين في سوريا”. ثمّ في العام التالي، فاز وثائقيّ “الخوذ البيض” الذي أنتجته “نتفلكس” بجائزة أوسكار

خلال السنوات التي سبقت وفاة جيمس، أصبح هو ومنظّمة “الخوذ البيض” محورَ اهتمام حملة تضليل إلكترونيّة يقودها مسؤولون سوريّون ورُوس، ويروِّج لها مدوّنون موالون للأسد وشخصيّات إعلاميّة يمينيّة متطرِّفة ومَن يصفون أنفسهم بأنّهم معادون للإمبرياليّة. فمع اتّساع رقعة عملهم في سوريا، أصبحت المجموعة واحدة من أكثر المؤسّسات في العالم التي تتعرّض لحملات تشويه السمعة والتمحيص الدقيق.

كان الدافع وراء ذلك واضحاً. فهذه مجموعة تعمل حصراً في مناطق سوريّة تخضع لسيطرة المعارضة، وتساعد في إنقاذ ضحايا الهجمات التي ينفّذها أنصار الأسد. في الوقت ذاته، قوَّضت مشاهد عمليّات الإنقاذ سرديّة النظام وحشدت تعاطفاً إنسانيّاً كبيراً مع ضحاياه. اعتبر النظام أنّ هذه استفزازات لا تُغتفَر.

التدخل الروسي 

بدءاً من أيلول/ سبتمبر 2015، عندما تدخّلت روسيا في الحرب لدعم الأسد والحيلولة دون هزيمته، وصلت الغارات الجوّيّة على الأحياء المدنيّة إلى مستويات غير مسبوقة. وأظهرت المشاهدُ الواضحة للرجال والنساء والأطفال المصابين بإصابات مروِّعة كذبَ ادّعاءات الأسد والروس أنّ حملتهم لاستعادة السيطرة على محافظة إدلب وريف دمشق لا تستهدف سوى “الجماعات الإسلاميّة الإرهابيّة” والمتعاطفين معهم، بل أكّدت، مثلما تُظهِر مقاطع الفيديو المسجَّلة، أنّهم كانوا يقصفون الأحياء المدنيّة قصفاً عشوائيّاً.

سرعان ما تضخّمت حملة التضليل، وكان هدفها إثارةَ الشكوك حول منظّمة “الخوذ البيض” والصور التي تسجلها. مع تطوّر الحرب، بات شمال غربي سوريا مرتَعاً للإسلاميّين المتطرّفين العازمين على استغلال الفوضى لتدشين فكرة “الجهاد العالميّ”. استغلّ مروِّجو حملات البروباغندا الارتباكَ على أرض الواقع؛ وبعد فترة وجيزة انتشرت مزاعم على الإنترنت بأنّ “الخوذ البيض” أصبحت مخترَقة من تنظيم “القاعدة”، الذي يزعم أنّه استولى على المجموعة كوسيلة للحصول على تمويلها الأجنبيّ. انتشرت اتّهامات أيضاً بأنّ المنظّمة أسستها حكومات عقدت العزمَ على الإطاحة بحكم الأسد، وأنّ المتطوِّعين في “الخوذ البيض” كانوا “ممثِّلي أزمات” يفبركون مشاهد تمثيليّة لتشويه سمعة روسيا وسوريا.

أفسحت وسائل الإعلام الروسيّة والسوريّة المجالَ لبعض المغفّلين المُفيدين الذين يروِّجون نظريّات المؤامرة تلك على “يوتيوب” و”تويتر” ومواقعهم الشخصيّة الهامشيّة، ومنحتهم تغطية جذّابة. كان جيمس نفسه هدفاً لسلسلة شبه يوميّة من الهجمات الروسيّة التي ترعاها الدولة على التلفزيون الرسميّ ومنصّات التواصل الاجتماعيّ، والتي وُصِف خلالها بافتراءات كثيرة ملفَّقة كالإرهابيّ والجاسوس والمُتحرِّش بالأطفال ومهرِّب الأعضاء. سموه أيضاً “عميل الاستخبارات الغربيّة”، الذي يستخدِم مؤسّسة إغاثيّة وسيلة خفيّة لتغيير النظام. بل إنّ تلك الاتّهامات وصلت إلى مجلس الأمن الدوليّ خلال اجتماع مغلَق دعت إليه موسكو.

 كان الهدف هو إغراق جميع المنافذ الإعلاميّة بالأكاذيب لزعزعة الثقة في أوساط داعمي المنظّمة، بخاصّة الحكومات المانحة. وبالفعل آتَت هذه الاستراتيجيّة ثمارَها في ما يتعلّق بسمعة “الخوذ البيض” وأخلاقيّات المتطوِّعين فيها والداعمين لها ونزاهتهم. في أيلول 2018، عندما التقيتُ جيمس للمرّة الأولى، تحدَّث معي عمّا تسبِّبه له حملة التشويه تلك من إرهاق وإجهاد. ومنذ ذلك الحين أتابع قصّته عن كثب.

 خلال السنوات القليلة الماضية، اتّسمت الطبيعة الجيوسياسيّة للصراع السوريّ، وطبيعة الحرب ذاتها، بتحدّياتٍ كبيرة أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. فقد بات شمال غربيّ سوريا هو المنطقة الأكثر كثافةً سكّانيّة في البلاد بأسرها، والتمس المُهجَّرون المشرَّدون من جميع المناطق ملاذاً آمِناً لهم وسط سكّان المنطقة الأصليّين. وجدت أيضاً جماعات إسلاميّة متشدِّدة طريقَها إلى المنطقة واتّخذتها مقرّاً لها. وعلى نحو متزايد أصبح التساؤل حول مَن يسيطر على إدلب -المحافظة التي كانت “الخوذ البيض” تنتشر فيها أكثر من أيّ منطقة أخرى- يشغل الحكومات المانحة، التي طالبت بتوضيح الجهات التي تذهب مساعداتهم الماليّة إليها.

قال إيثان ويلسون، مدير البرامج السابق في “ميدي”، “أصبح الوضع على الأرض أكثر تعقيداً. فبين عامي 2017 و2019، أدّت عوامل مُجتمعة تتمثّل في النفور العالميّ المتزايد من سوريا، وحملة التضليل الروسيّة، وتزايُد سياسات اليمين المتطرِّف الانعزاليّة والارتيابيّة في الغرب، إلى التدقيق الشديد في أوضاع المؤسّسات الإغاثيّة أكثر ممّا كان الحال عليه في عامي 2015 و2016”.

طيلة عام 2019، كانت “ميدي” تتعرّض لضغوط متزايدة. فقد واجه الديبلوماسيّون الذين يتعاملون معها أسئلة كثيرة للغاية من السياسيّين تتعلّق بكيفيّة إنفاق أموالهم والجهات المستفيدة منها. أصبح من الضروريّ التدقيق في كلّ قرش من أموال المانحين، وأُثيرت مخاوف من أنّ “ميدي” لا تمتلك النظم والهياكل المناسبة لمراقبة حساباتها ومصادر تمويلها الكثيرة. وفي أواخر عام 2018، طالبت وزارة التنمية الدوليّة في بريطانيا -التي كانت وقتها الدائرة الحكوميّة المسؤولة عن إدارة المساعدات الخارجيّة- بإجراء مراجعة للحسابات، سُلّمت في حزيران/ يونيو 2019.

 في الأسبوع الأخير من حياة جيمس، تصاعدت حدّة التوتّر الذي مرّ به لسنوات. ففي السابع من تشرين الثاني، وقبل أربعة أيّام من وفاته، اجتمع مع فريق جديد من المُراجِعين في اجتماعٍ مصيريّ. وكان قد ابتعد خوفاً من أنّه بشكلٍ ما فقدَ السيطرة على “ميدي”. ففي ذهنه كان كلّ ما عمِل من أجله على وشك أنْ يُواجه تحدّيات مفاجئة وصادِمة بأساليب عصيّة على الفهم. الأسوأ من ذلك أنّ سمعةَ منظّمته، إضافةً إلى “الخوذ البيض”، بدَت على المحكّ. وقد خشِي أنْ يحكم عليه التاريخ أنّه كان الرجل الذي دمّر ميراثها، وعرَّضَ المساعدات المقدَّمة إلى السوريّين المُحاصرين للخطر. وعند وفاة جيمس، أو ما يعتقد أصدقاؤه وأسرته والشرطة التركيّة أنّه كان انتحاراً، كانت الضغوط النفسيّة التي تعرّض لها أصبحت لا تُطاق.

مثّلت حياة جيمس لو ميسورييه ووفاته قصّة إنسانٍ أصبح كبشَ الفداء ومحورَ النقد في حرب السرديّات حول الصراع السوريّ؛ فهو إنسان ساهم في بناء إحدى أبرز المجموعات خلال الحرب السورية، وأصبح من حيث لا يدري شخصيّةً محوريّة في حرب المعلومات العالميّة الدائرة على أنقاض النظام العالميّ المنهار. وهي أيضاً قصّة انهيار منظّمة أدارت إحدى أنجح محاولات التدخّل التعاوُنيّة لتقديم الدعم في الآونة الأخيرة، وتحكي أيضاً كيفيّة انهيار جيمس في أيّامه الأخيرة تحت وطأة حِملٍ من المزاعم التي ثبت لاحقاً كذبها.

حين وصل كورنيليس فريسفيك إلى إسطنبول في الأسبوع الثاني من كانون الثاني/ يناير 2020، لم تكن لديه فكرة عمّا عليه توقّعه. كان كورنيليس، المخضرَم في مجال الأعمال في هولندا، قد اشتُهر بإنقاذ الشركات الواقعة في ضوائق ماليّة. وعلى مدار مسار مهنيّ طويل في قطاع الشركات، صار كورنيليس نسخةً لقطاع التمويل من مستر وولف في فيلم “خيال رخيص” Pulp Fiction، وهو شخص يمثّل وجهة مَن يبحثون عن حلٍّ لأكثر المشكلات تعقيداً. بدَت هذه المهمّة ملائمة تماماً لكورنيليس.

استُدعِيَ هذا الهولنديّ البالغ من العمر 62 سنة لمُراجَعة حسابات “ميدي”، المؤسّسة التي لم يكن يعلم عنها شيئاً، والعاملة في مجالٍ لم يكن له اطّلاع عليه. وكما أخبرني كورنيليس، “أيّاً كانت الخلفيّة، كان الأمر ملائماً تماماً لخبراتي. فأنا أعمل في عالمٍ كلّ ما فيه واقع تحت الضغط”.

تمّ تعيين كورنيليس في “ميدي” من قِبَل مديرها الماليّ يوهان إليفيلد بناءً على طلب المانحين. فقد أصابهم الانزعاج إثر رسالة إلكترونيّة أرسلها جيمس قُبَيل وفاته بأيّام، وفيها أثار عدداً من القضايا الماليّة التي تمّ التنبيه منها في اجتماع مع يوهان وشركة تدقيق الحسابات. في 7 كانون الثاني 2020، التقى كلٌّ من كورنيليس ويوهان في مدينة روتردام الهولنديّة، وفي 12 كانون الثاني سافَرَا إلى إسطنبول مع رجل أعمال هولنديّ آخر يُدعَى روب فان إيك. في كلا الاجتماعَين قدِّمت إلى كورنيليس سلسلة من المخاوف المتّصلة بالشؤون الماليّة لـ”ميدي”. وكانت هذه المخاوف نابعةً جزئيّاً من النتائج الأوّليّة لتقييم استشاريّ قدَّمَته إلى جيمس، في تشرين الثاني، شركةُ التدقيق الهولنديّة SMK، في ذلك الاجتماع المصيريّ قبل أربعة أيّام من وفاته، وجرى لاحقاً تلخيص التقييم في مسوَّدة مَحضَر. أثار التقييم أسئلة حول عدد المعامَلات النقديّة، وحدَّد مجالات تثير القلق في سجلّات “ميدي”. ووفقاً لكورنيليس، أثار يوهان مزيداً من الأسئلة الإضافيّة إلى جانب ما قامت شركة SMK بتغطيته. 

مثّلت حياة جيمس لو ميسورييه ووفاته قصّة إنسانٍ أصبح كبشَ الفداء ومحورَ النقد في حرب السرديّات حول الصراع السوريّ

وقال كورنيليس “جلست في ذلك الاجتماع الأوّل، وعليّ القول إنّ انطباعي كان أنّ جيمس وإيمّا شخصَان سيّئان؛ وأنّ جيمس زعيم عصابة. وقد أخبرني يوهان أنّ إيمّا أنفقَت 90 ألف دولار على فستان زفافها، وأنّهما معاً أنفقَا ربع مليون دولار لاقتناء زورق بحريّ سريع، وأنّهما يقضيان شهر عسل يمتدّ عاماً كاملاً مع شراء مجوهرات اللؤلؤ وحقائب اليد؛ وكلّ هذا على حساب “ميدي”. واعتقدت أنّ أمر تدقيق الحسابات سيمثّل تحدّياً”. فيما قال يوهان في تصريح لصحيفة “الغارديان” إنّه لا يرى هذا الوصف للاجتماع معبِّراً عمّا دار فيه، وأصرّ على أنّه لم يذكر أيّ شيءٍ لم يرِد في مَحضَر شركة SMK. 

ترأّس كورنيليس مجلساً للإشراف من ثلاثة أشخاص -إذْ كان معه محامٍ وفان إيك- للوصول إلى جوهر الأمر (كان جيمس في وقت وفاته يحاول نقل مقرّ “ميدي” من إسطنبول إلى أمستردام؛ ومن هنا يتّضح الرابط الهولندي). يقول كورنيليس: “كانت هناك مزاعم بوجود فوائد وأتعاب هائلة، ومزاعم بوجود مدفوعات نقديّة غير مرخَّصة، لأسباب شخصيّة، ومزاعم بوجود فروق بين الأموال التي تستلمها ميدي وتلك التي تصرفها، إضافةً إلى مزاعم حول مستحقّات ضريبيّة”.

إذا ثبتت تلك المزاعم، ستكون لها آثار مدمِّرة على “ميدي”، ومضرّة بالحكومات المانحة، التي واصلت دعمها المؤسّسة -وخصوصاً “الخوذ البيض”- حتّى أواخر 2019، على رغم المعلومات المضلِّلة التي أحاطت بعمل المجموعة.

 وقد أخبر جيمس أصدقاءه قُبَيل وفاته بمدّة قصيرة أنّ تلك المزاعم بدت كأنّها تنبع من العدم. وبَينما أوصت عمليّة تدقيق الحسابات لشهر حزيران/ يونيو 2019 -التي أُجرِيت بطلبٍ من وزارة التنمية الدوليّة في بريطانيا- بإدخال ضوابط محاسبيّة أكثر تشدّداً ونظُم حَوكمة أكثر صرامةً، ليس هناك ما يُشير إلى أنّ مستقبل “ميدي” على المحكّ. أثار اجتماع تشرين الثاني مع شركة SMK لتدقيق الحسابات أسئلة حول عمليّات السحب النقديّ والأوضاع الضريبيّة واتّفاقيّات المنح، ولكنّه لم يُصدِر أيّ نتائج رسميّة. ومع ذلك، فإنّ طبيعة القضايا التي نبّهت إليها كانت صادمة بالنسبة إلى جيمس في الصميم.

معاملة من دون حل…

ظلّت إحدى المعامَلات من دون حلّ منذ عمليّة تدقيق الحسابات لتمّوز/ يوليو، وأثارتها من جديد شركة SMK في تشرين الثاني: إذْ كان جيمس سحَبَ 50 ألف دولار من خزينة “ميدي” في تمّوز 2018، لدعم مهمّة إجلاء حوالي 400 من أعضاء فريق “الخوذ البيض” وعائلاتهم من جنوب سوريا إلى الأردن. وقد أشارت المُراجَعة التي أمرَت بها وزارة التنمية الدوليّة البريطانيّة في وقتٍ سابق من العام إلى أنّ ثمّة حاجة لتحديد ما إذا كانت تلك الأموال قد دُقّقت بشكلٍ صحيح، ويعاد الآن فحصها مرّة أخرى.

 أراد فريقا تدقيق الحسابات رؤيةَ دليلٍ ملموس. في بلدٍ منهَك مزّقته الحرب، كسوريا، حيث كلّ الأمور يحرّكها المال، فإنّ الافتقار إلى تسجيلات إلكترونيّة جعل المدرسة القديمة في ضبط الحسابات أمراً ضروريّاً. ووفقَ ما قالته نادرة السكَّر، رئيسة دائرة الامتثال في “ميدي”، أُعيدَت الأموال التي لم يستخدمها جيمس، ومقدارها 40800 دولار، ولكنْ سُجِّلَت في دفتر حسابات جعل من الصعب العثور عليها في سجلّات “ميدي”. لم يحتفظ جيمس بإيصالات المبالغ الإضافيّة، التي تشمل 9200 دولار أنفقها في الأردن، ولم يتذكّر إعادة المبلغ.

 في أواخر أيار/ مايو 2019، التقى جيمس فريقَه الماليّ لمحاولة حلّ القضيّة، وقرّر أنْ يقوم بتأريخ إيصال بتاريخٍ سابق، لتقديمه إلى مدقّقي الحسابات. أخبرتني نادرة السكَّر أنّ هذا “لم يكن غيرَ قانونيّ، ولكنّه مع ذلك كان مريباً”.

 في 8 تشرين الثاني، وبعد الاطّلاع على مسوّدة مَحضَر الاجتماع مع مدقّقي الحسابات الهولنديّين، اختار جيمس -عند مواجهة ما خشِيَ أنْ يؤدّي إلى تفكّك “ميدي”- معالجة ما بدا له فوزاً عاجلاً؛ وهو شرح الظروف الكامنة وراء سحب مبلغ 50 ألف دولار، مع اتّخاذ قرار بتأريخ إيصال بتاريخ سابق”. كتب جيمس، متجاهلاً تحفظّات زملائه، رسالةً إلكترونيّة طويلة إلى المانحين، أقرّ فيها بأنّ السجلّات المتعلّقة بمبلغ الـ50 ألف دولار تمثّل تزويراً من الناحية التقنيّة. وقد اعتقد جيمس أنّ هذه الشفافيّة -تِجاهَ ما مثّل في نهاية المطاف حالةً من الغموض في ضبط وإدارة الحسابات- قد تطمئن المانحين وتؤمن التمويل في المستقبل.

ووفقَ مصادر متعدّدة، جعل يوهان مسألة الإقرار بالخطأ حيالَ ما بدا فقدان مبلغ 50 ألف دولار أمراً محوريّاً في نقاشاته مع كورنيليس وآخرين. تمّ الإبقاء على شركة المحاسبة الجنائيّة “غرانت ثورنتون” خلال الأسبوع الذي تلا وفاة جيمس. وفي الأشهر الأربعة التالية، طالَع مراجِعُوها الرسائل الإلكترونيّة وسجلّات المحادثات الهاتفيّة، وعقدوا مقابلات مع موظّفي “ميدي”، ومنهم يوهان. 

قبل “كريسماس”…

في الأسبوع الذي سبق عيد الميلاد، تلقّت إيمّا خطاباً من محاميّ “ميدي”، يتّهمونها فيه بـ”الإثراء غير المشروع مع آخرين، على حساب المؤسّسة”، مع توقيفها من منصبها في المؤسّسة كمديرة تنفيذيّة للتأثير. بدأ الخطاب بالقول إنّ “مؤسّسة ميدي للإنقاذ، ممثّلةً بعضو مجلس إدارتها، السيّد يوهان إليفيلد، قد طلبَت منّي إبلاغكم بما يلي…” كان يوهان حينها هو عضو مجلس الإدارة الوحيد. وواصَل الخطاب مشيراً إلى أنّه “في أعقاب عمليّة تحقيق أخيرة، تصاعدت شكوك خطيرة” بأنّ إيمّا سحبَت مبلغ 55 ألف دولار على ثلاث دفعات في حزيران وتمّوز 2018، ولم تقم بإعادتها.

لذا، في منتصف كانون الثاني الماضي، بدأ كورنيليس الدور الأشدّ حساسيّة من الناحية السياسيّة في حياته -وهو رئاسة المجلس الاستشاريّ لمؤسّسة ميدي للإنقاذ- غافلاً إلى حدّ كبير عن التدقيق السياسيّ الذي كان يمثّل قرعاً متواصلاً للطبول في عمل “ميدي”. فقد كانت المؤسّسة التي تموّلها حكومات، وجميعها مسؤولة أمام سياسيّيها، مؤسّسةً معقّدةً بما فيه الكفاية. أضِف إلى ذلك سلسلة من المعامَلات التي قد تكون غير منتظمة، وربّما يكون لذلك آثار على مستقبل تقديم الدعم في سوريا.

في 21 كانون الثاني، وفي وسط التحقيقات التي قادها كورنيليس وشركة “غرانت ثورنتون”، انهارت قلاع “ميدي”. وقال كورنيليس “أخبرني المانحون بشكلٍ جماعيّ أنّ أحداً منهم لن يدعم ميدي بعد ذلك. من تلك اللحظة، صار الأمر كلّه يتعلّق بخطّة إغلاق المؤسّسة”.

من أوائل الأشياء التي نظر فيها كورنيليس هو مبلغ الـ50 ألف دولار المفقود والمزاعم حول عمليّات سحب أخرى لاستخدامات شخصيّة. وقال كورنيليس “احتفظتُ بآرائي لنفسي إلى منتصف آذار/ مارس تقريباً. ثمّ بدأت التفاعل مع المانحين بصورة فرديّة”.

من حينها بدأت رؤى كورنيليس في التحوّل.

إيمّا وينبيرغ

مذ بدأت إيمّا وينبيرغ الجلوس مع جيمس تغيّرت حياتهما. ففي آذار 2016 سعت إيمّا إلى اللقاء في إسطنبول برجلٍ تعرّفت إليه مرّتين بشكلٍ وجيز في حفلات مفتوحة، ورأته إنساناً جذّاباً ذا حضور قويّ. وصلت إيّما -وهي ديبلوماسيّة بريطانيّة سابقة- إلى مكاتب “ميدي” في إسطنبول، وفي نيّتها العمل. في ذلك الحين كانت تعمل في شركة اتّصالات شمال العراق، حيث تقوم بتصميم استراتيجيّات شعبيّة لتعطيل تنظيم “داعش”، الذي كانت ينتشر في المنطقة آنذاك. كانت إيمّا تأمل بإقناع جيمس بالمساعدة في مشروع يحشد فرقاً محلّيّة لحماية المجتمعات السكنيّة المحيطة بسدّ الموصل الذي كان المهندسون يخشون انهياره. 

لم تتحرّك الخطّة قيد أنملة، ولكنّ اللقاء استمرّ إلى الليل. وعن هذا اللقاء قال جيمس في أواخر 2018، “بحلول لحظة انتهائنا من احتساء زجاجة النبيذ الرابعة، أدركت أنّنا سنستمرّ معاً. كانت إيمّا الشريكة التي حلمت بها”.

انتهت زِيجَتا جيمس السابقتان بالطلاق، وصارت “ميدي” هي همه الأول. قال لي في تشرين الثاني 2018 “لقد فقدت الأمل بالحبّ”. وكان هذا شعور إيمّا أيضاً حينها؛ إذ قالت لي بعد ذلك بشهور “كنت باختصار يئستُ من “الحياة”، قُبِيل لقائي جيمس. كنا اخترنا أولوليّة الهدف على الإنجازات الشخصيّة. ثمّ كان لقاؤنا، وتغيّر كلّ شيء. عاد إلينا الأمل”.

تزوّج جيمس وإيمّا صيف 2018 في أفخم فندق في “بيوك أضه” (الجزيرة الكبيرة، إحدى جزر بحر مرمرة)، التي تبعد من إسطنبول نحو ساعتين بالعَبّارة. وقد كان رائد الصالح، رئيس منظّمة “الخوذ البيض” أحد أَشابنة جيمس. في حين سافر ممثّلون من البلدان المانحة من جميع أنحاء العالم إلى هناك لحضور حفل الزفاف؛ إضافةً إلى أصدقاء الزوجين القدامَى، ومن بينهم زملاء جيمس الضباط في الصفّ الدراسيّ عام 1993 في أكاديميّة ساندهيرست العسكريّة الملكيّة، حيث فاز بـ”وسام الملكة في الزعامة”. حُمِل العريس في أرجاء حفل الزفاف على أكتاف أصدقائه بينما كان يمسك سيفاً احتفاليّاً خاصّاً بالمراسم. وخلافاً للادّعاءات الأخيرة، ارتدت إيمّا ثوبَ زفاف بلغت قيمتُه 1795 جنيهاً إسترلينيّاً، وهو هديّة من والدتها، اشترته من متجر لبيع الملابس المستعمَلة في غرب لندن. وبعد انتهاء مراسم الزواج، استمرّ الحفل أمام المُروج المطلّة على الشاطئ في منزل العروسين القريب، حيث احتفل الأصدقاء والزملاء والعائلة حتّى ساعات الفجر الأولى.

كان الترابط والودّ بين الزوجين واضحاً لكلِّ مَن زار منزلهما المستأجَر في “بيوك أضه”، الذي جدّدته إيمّا بعناية فائقة وملأته بالأثاث والمفروشات وزيَّنته بالتحف والمنحوتات الصغيرة، التي شُحِن بعضها من لندن والبعض الآخر تمّ شراؤه من أسواق إسطنبول. فقد أصبحت حياتُهما مندمجة ومتكاملة في جميع الجوانب تقريباً، بما في ذلك إدارة المؤسّسة. فقد شغلت إيمّا مقعداً في مجلس إدارة “ميدي” في شباط/ فبراير 2018، قبل أنْ تتنحّى عن المنصب في أيار عام 2019. ومنذ ذلك الحين، أصبحت واحدة من المسؤولين التنفيذيّين في المؤسّسة.

على مدى سنوات، وحتّى في ظلّ الهجمات القاسية التي لا هوادةَ فيها من قِبَل أصحاب المصالح الخاصّة، بدا أنّ جيمس وإيمّا ومنظّمة “الخوذ البيض” كانوا قادرين على الصمود، على رغم حملات التضليل المستمرّة. يقول إليوت هيغنز، مؤسّس منظّمة “بيلينغكات” ورئيسها، وهي منظّمة صحافيّة تدير موقعاً استقصائيّاً وتُركّز في تحقيقاتها على النفوذ الروسيّ في سوريا وأماكن أخرى من العالم، “دائماً ما كانت هناك حملات تضليل، فقد أيقظ جيمس –من دون أنْ يعلم- جيشاً من الأعداء. أساس المحرِّضين كانت جماعة متطرّفة مناهضة للإمبرياليّة، كانت موجودة لفترة بمفردها، إلى أنْ دعمت روسيا هؤلاء الأشخاص، واستخدمتهم لرحلة الكذب وترويج الشائعات حول منظّمة الخوذ البيض”. وأوضح هيغنز أنّ “التعامل مع هؤلاء المنتقِدين كان صعباً، فكلّما تفاعلت معهم، زاد عدد الناس الذين يسمعون ما يقولونه”.

 قال صالح، “بالنسبة إليّ، شخصيّاً، لا أستطيع أنْ أتجاهل وطأة حملات التضليل وتأثيرها فينا جميعاً في منظّمة الخوذ البيض. لقد كرّسنا طاقاتنا لإنقاذ الأرواح وتحسين الأوضاع المعيشيّة في سوريا. إلّا أنّ هذه الأعمال الإنسانيّة تُشكِّل تهديداً على السرد الذي تتبنّاه روسيا والنظام السوريّ لما يحدث بالفعل على أرض الواقع. وُصِفنا بأنّنا إرهابيون مموَّلون من الغرب. وهذا عبء يؤثّر بنا عاطفيّاً ونفسيّاً، ويتطلّب بذلَ جهدٍ هائلٍ للتعامل معه”.

في حين بَدَا ممكناً احتواءُ حملات التضليل، إلّا أنّ المسائل المتعلّقة بالإدارة في “ميدي” بدأت تتفاقم. فقد نمت المؤسّسة بسرعة، وكانت تتعامل مع ملايين التبرعات المُقدَّمة من المانحين شهريّاً. وبحلول منتصف عام 2018، عندما بلغ التمويل من المانحين أقصاه، كان واضحاً أنّ “ميدي” تحتاج إلى إشراف ماليّ أكثر إحكاماً وصرامةً، وأنّ فريقها التنفيذيّ يحتاج إلى التوسّع. ولذا وظّف جيمس في آب/ أغسطس 2018 يوهان للمساعدة في تحقيق تلك الغاية. 

بَيْدَ أنّ المشكلات ظلّت قائمة. فقد حدث تأخير في تقديم تقارير المنح، وكانت هناك صعوبات بشأن توريد المعدّات إلى منظّمة “الخوذ البيض” وسداد المدفوعات للمورِّدين. إضافةً إلى ذلك، كانت رواتب المسؤولين التنفيذيّين في “ميدي” أعلى من المعايير المهنيّة المعمول بها في هذا المجال. غير أنّ مصدراً مطّلعاً على تفاصيل تقرير المحاسبة الجنائيّة الذي صدر عن شركة “غرانت ثورنتون” بعد وفاة جيمس، قال “لم تكن الرواتب مرتفعة أكثر من المعدَّل الطبيعيّ. فقد كانت الأرقام مقبولة، ولكنّها مع ذلك زادت الطين بلّة. فقد كانوا يستخدمون برنامج “مايكروسوفت إكسل” لإدارة الشؤون الماليّة لمنظّمة غير حكوميّة تتجاوز قيمة تعاملاتها ملايين الدولارات”. وأضاف: “لم يسبق لهم قطّ أنْ أجروا عمليّات ختاميّة دوريّة للحسابات، أي التحقّق من الأصول والاستحقاقات والالتزامات الماليّة شهريّاً، حتى نهاية عام 2018”.

“وُصِفنا بأنّنا إرهابيون مموَّلون من الغرب. وهذا عبء يؤثّر بنا عاطفيّاً ونفسيّاً، ويتطلّب بذلَ جهدٍ هائلٍ للتعامل معه”

تراكمت أيضاً ضغوط أخرى. فقد بات العمل في تركيا محفوفاً بالمخاطر ومشحوناً بالتوتّر، لا سيَّما بعدما أصبحت حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان أقلَّ تساهلاً مع المنظّمات الأجنبيّة غير الحكوميّة، فاضطَرَّ بعضَها إلى الإغلاق. ومع أنّ أنقرة أيَّدَت المعارضة المناهِضة للأسد، فإنّ تعاطفها صار على المحكّ بعد فشل تلك المعارضة في تنظيم صفوفها، وتضاؤل قدرتها على تحمّل نحو 3 ملايين لاجئ سوريّ على أراضيها؛ الأمر الذي صاحب تضاؤل الآمال في انتهاء الحرب.

 بحلول تشرين الثاني 2019، كان جيمس منهَكاً ومتعباً عاطفيّاً ونفسيّاً. فقد أصبح الاجتماع مع مُدقّقي الحسابات الهولنديّين دافعاً للانهيار. وأخبرني في ذلك الوقت قائلاً، “لقد كانت أيّاماً عصيبة للغاية، يبدو أنّها نهايتنا، بل وربما نهاية ميدي أيضاً”. 

وقفت إيمّا مكتوفة الأيدي بلا حول ولا قوّة، ترقُب زوجها وهو ينهار. عبّرت عن تلك الفترة قائلةً، “لقد تعرّض كلانا لضغوط شديدة لفترة طويلة. فقد كانت المخاطر جسيمة للغاية، وازدادت بيئة العمل خطورةً يوماً بعد يوم. وشعرنا وكأنّنا نحاول حماية أنفسنا وتفادي وابل من الرصاص مصوّب نحونا، ولكننا كنّا قلقين دوماً من تلك الرصاصة التي قد تصيبنا في نهاية المطاف”.

في اليوم التالي، التقت نادرة السكَّر، رئيسة دائرة الامتثال في “ميدي”، جيمس. وقالت، “بَدَا شديد التوتّر. وفي يوم الجمعة 8 تشرين الثاني 2019، عقدنا كلّنا اجتماعاً، وفي نهايته عانقني، وقال لي: لقد استمتعت حقّاً بالعمل معك. لقد شعرت بقشعريرة حينها، وينتابني الشعور ذاته الآن عندما أفكّر في ما حدث”.

في الأسابيع التي تلت وفاة زوجها عزلت إيمّا -التي كانت قيد الإقامة الجبريّة آنذاك- نفسَها في بيتهما. كانت صور جيمس معلَّقة في كلّ مكان. وصارت الأرضيّات الخشبيّة التي كانت أصوات صريرُها تعلو تحت أقدام الأصدقاء والضيوف صامتة. وظلّت مائدة العشاء الطويلة خاوية، وتمدّد كلبُ الزوجين المسِنّ من سلالة “جيرمن شيبرد” على سجّادة عتيقة. وعلَت في المنزل أصداءُ ما ألَمَّ بالزوجين من خسارة فادحة.

ومع أنّ إيمّا لا تزال رسميّاً واحدةً من المشتبه بهم في وفاة جيمس، فقد سُمِح لها بمغادرة تركيا لحضور جنازته التي أقيمت في كنيسة صغيرة في مقاطعة سَري الإنكليزيّة بالقرب من منزل العائلة في 27 كانون الأول/ ديسمبر 2019. وقد أُحرقت جثّته، وتحتفظ برفاته معها. وفي أواخر كانون الثاني 2020، بعد عودتها إلى تركيا، تلقّت إيمّا مكالمة من محاميها التركيّ، الذي أبلغها بأنّها لم تعد قيد التحقيقات بتهمة القتل، وأنّ لديها مطلق الحرّيّة بالمغادرة نهائيّاً. جمعت إيمّا أغراضَ المنزل وحزمت أمتعتها وانتقلت إلى أمستردام، حيث تعيش هناك محاوِلةً استجماعَ قواها والتأقلم على الوضع الجديد. 

تحدّثت إيمّا خلال مقابلة من منزلها الجديد، بينما تحيط بها ذكريات الحياة التي بَنَياها سويّاً، وقالت: “لقد وجدت في جيمس كلَّ ما كنت أتوق إليه دوماً. ألهمني، وجعلني أقهْقِه من الضحك من كلِّ قلبي، وجعلني أؤمن بأنّه ليس هناك مستحيل، وجعلني أشعر بأنّني محبوبة للغاية، لدرجة شعرت حينها بأنّني لن أكون وحيدة مرّة أخرى أبداً. فقد تركت نزاهته وحماسته وإيمانه العميق بقوّة شجاعة الإنسان وهذا المجال، بصمةً فريدة في كلِّ الذين عرفهم. والآثار المترتّبة على وفاته لا يُمكن قياسها ولا حتّى الحديث عنها”.

وأردفت، “العالم يعاني من أزمة أمل، إذ تتعرّض دوماً آمالنا بأنْ يقوم الشخص العاديّ بأعمال بطوليّة باسلة، وأنْ يتمكّن من إحداث فارق عميق، للهجوم من قِبَل قوى مظلِمة وقويّة. إلّا أنّ جيمس واجَه هذه القوى من دون وَجَل مراراً وتكراراً في سبيل ما كان يؤمن بأنّه الصواب”. 

بينما كانت إيمّا تحاول أنْ تبدأ حياتها من جديد، حقّق كورنيليس تقدُّماً في التحقيقات حول الشؤون الماليّة الخاصّة بمؤسّسة “ميدي”، وبحلول منتصف شهر آذار، بدأ يشكّك في قصص الاحتيال والتربّح والاِغتناء التي سمعها عندما وصل إلى إسطنبول أوَّل مرّة. وقال، “لقد بات من الواضح تدريجاً أنّ هذه الادّعاءات لا يُمكن أنْ تكون صحيحة”.

من أوائل الأشياء التي نظر فيها كورنيليس هو مبلغ الـ50 ألف دولار المفقود والمزاعم حول عمليّات سحب أخرى لاستخدامات شخصيّة.

 وأضاف، “لم يكن بوسعنا أنْ نجد قرشاً واحداً صُرِف لم يكن له ما يبرِّره أو لا يُمكن تفسيره. لقد تغيَّر انطباعي عن جيمس وإيمّا تغيُّراً جذريّاً. وفي نهاية المطاف، كان من الواضح عدم تورّط إيمّا أو جيمس أو أيٍّ من الموظفين في اختلاس المال. بدأت أنظر إلى الوضع بصورة مختلفة تماماً. ففي البداية كنت أظنّ أنّه زعيم عصابة يسعى إلى الإثراء بأساليب مشينة، ولكن اتّضح لي أنّه شخص أُكِنُّ له التقدير والاحترام حقّاً”.

تقرير المحاسبة الجنائية

تأكّدت وجهة نظر كورنيليس من خلال النتائج التي توصّل إليها تقرير المحاسبة الجنائيّة الذي قدَّمته شركة “غرانت ثورنتون” في أيار 2020، والذي لم يجِد أيَّ دليل على اختلاس الأموال. ووفقاً لما جاء في ملخّص التقرير، فإنّ “الاستنتاج الرئيسيّ الذي توصّلنا إليه من خلال تحقيقنا بشأن المعاملات المُشار إليها يجعلنا نعتقد أنّه لا يوجد دليل على تبديد الأموال أو اختلاسها. لقد تمكّنا في معظم الأحيان من دحض المخالفات المزعومة. وعلى وجه التحديد، كانت عمليات السحب النقديّ التي قام بها جيمس لي ميسورييه وإيمّا وينبرغ مُبرَّرة ومصادر إنفاقها معلومة. ويبدو أنّ الأحداث التي اكتنفت سحب 50 ألف دولار من صندوق الطوارئ كانت نتيجة لسوء فهم واضح”. 

بيد أنّ التقرير أشار أيضاً إلى وجود “ثغرات كبيرة في التنظيم الإداريّ وبيئة الرقابة الداخليّة في ميدي”، وحدّد “معاملات نقديّة كبيرة لم تُسجَّل (بالكامل) في السجلّات النقديّة و/أو دفتر الحسابات العام”. وأضاف التقرير أنّه نظراً إلى أنّ بيئة العمل في “ميدي” كانت “غير رسميّة”، وكانت ناقشات عدة تُجرَى أحياناً “شفهيّاً وعبر تطبيق واتساب”، فإنّ مدقّقي الحسابات “اضطُرّوا إلى إعادة تنظيم عدد من الأحداث الماليّة وتعذّر عليهم التأكّد في مثل هذه الحالات”. وإجمالاً، من المؤكّد أنّ إدارة الحسابات في “ميدي” كانت رديئة وغير مطابقة للمواصفات، إلّا أنّ مدقّقي الحسابات لم يجدوا شيئاً يدعم أيّاً من الادّعاءات الخطيرة التي تقدَّم ذكرها. وقال يوهان إنّ تقرير “غرانت ثورنتون” أثبت عدم وجود أدلّة كافية للوصول إلى استنتاجات قاطعة.

حين طُلب من وزارة الخارجيّة وشؤون الكومنولث البريطانيّة في آب الردّ على نتائج تقرير “غرانت ثورنتون”، بعد أسابيع من التأخير، قدَّمت البيان التالي: “لقد أوقفت حكومة المملكة المتّحدة اتّفاقات التمويل المُبرَمة مع “ميدي”، ولم يجد تحقيقٌ مستقلّ أيَّ دليل على الاحتيال أو تبديد أموال المملكة المتّحدة. وتفخر المملكة المتّحدة بدعمها منظّمة “الخوذ البيض” وأنشطتها في مجال البحث والإنقاذ في سوريا التي أسفرت عن إنقاذ مئات آلاف الأرواح”. منذ بداية الشراكة مع “ميدي”، تولّى الكثير من وزراء الخارجيّة هذا المنصب. إلّا أنّ أولئك الذين شغلوا المنصب في السنوات الأخيرة كانوا أقلَّ استعداداً للاستثمار في مهمات بريطانيا في سوريا مقارنةً بأسلافهم، وهو الواقع الذي انعكس في هذا البيان المهدّئ والوقت الذي لزم لإعداده.

 بحلول آب، انتهى عقد يوهان مع “ميدي”. لكنّه أشار إلى أنّه مُقيَّد باتفاقيّة الالتزام بالسرّيّة وعدم إفشاء المعلومات، ورفض التعليق على ما قال إنّها آراء شخصيّة وسرد للأحداث من منظور الأشخاص الذين تمت مقابلتهم. وقال إنّه رفضَ تقديم المزيد من التعليقات لأنّ صحيفة “الغارديان” لم تسمح له بقراءة المقالة كاملةً قبل نشرها.

في الشهر نفسه، أعلنت “ميدي” إفلاسَها وحُلّت رسميّاً. ومن ناحية أخرى، تمكّنت منظّمة “الخوذ البيض” من الحصول على تمويل مباشر من الولايات المتّحدة وكندا والكثير من الحكومات الأوروبّيّة، ولا تزال تواصل عملها. قال صالح، “نحن ممتنّون للدعم والتدريب اللذين قدَّمتهما لنا ميدي وشركاؤنا على مرّ السنين. لقد ساعدونا في النموّ والتطوّر لنصبح منظّمة قويّة ومُستدامة، وهذا يعني أنّنا الآن في وضع يُمكّننا من الشراكة مع الجهات المانحة الدوليّة”.

في سوريا، أصبح الصراع خامداً، بعدما قدَّمت روسيا وإيران الدعم للأسد ليتمكّن من تحقيق الانتصار في ساحات القتال، وسمحت له بأنْ يدَّعي لنفسه نصراً فادحَ الثمن. ولكن لا تزال إدلب خارج سيطرته، وسكّانُها ما زالوا محاصرين داخل منطقة مستهدَفة من جميع الجهات، وتتعرّض للقصف بواسطة الطائرات الحربيّة، ومهدَّدة من المجموعات المسلّحة المتنافسة على الأرض. وما زال أكثر من نصف عدد سكّان البلاد قبل الحرب مشرَّدين داخليّاً، أو يعيشون في مخيمات عبر حدود الدول المجاورة.

قال المصدر المطّلع على تقرير “غرانت ثورنتون”، “لم أرَ أبداً في حياتي حدثاً تعرّض فيه كثر من الذين حاولوا فعل الخير إلى مثل هذا الدمار. فقد انتهى الأمر بكلِّ شيء يمسّ هذا الصراع إلى الهلاك”.

  • هذا المقال مترجم عن الرابط التالي
"درج" | 27.09.2024

“إشعال السماء”: ماذا خلف ألسنة اللهب السامة التي تسمح بها شركات النفط العملاقة ؟

تٌعد شركات النفط العملاقة في غرب أوروبا مثل "بريتيش بتروليوم ـ بي بي" وشركة "إيني" الإيطالية "الوكالة الوطنية للمحروقات" و"توتال إنرجيز" و"شل"، من بين أكبر عشرة مصادر للتلوث في أفريقيا والشرق الأوسط نتيجة عمليات حرق الغاز. وتشارك هذه الشركات في إطلاق السموم في السماء وتلويث البيئة والإضرار بصحة الناس. هذا ما كشفه تحقيق "إشعال السماء"،…
20.11.2020
زمن القراءة: 23 minutes

خلال السنوات التي سبقت وفاة جيمس، أصبح هو ومنظّمة “الخوذ البيض” محورَ اهتمام حملة تضليل إلكترونيّة يقودها مسؤولون سوريّون ورُوس، ويروِّج لها مدوّنون موالون للأسد وشخصيّات إعلاميّة يمينيّة متطرِّفة …

في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، وقبل شروق الشمس مباشرة على إسطنبول، استيقظت إيمّا وينبرغ من غفوة قصيرة على صوت طرقٍ مدوٍّ متكرّر على باب بيتها الحديديّ. تحسّست إيمّا بهلعٍ المساحة الفارغة بجوارها على السرير، بعيونٍ نصف نائمة. نهضت سريعاً وارتدت سروالاً على عجلٍ، وتعثّرت بالمصباح الذي بجوار السرير أثناء ركضها إلى المطبخ المجاور لغرفة النوم. قالت إيمّا، “لم يكن جيمس موجوداً هناك. وأدركت لحظتها ما حدث”.

نامت إيمّا لفترة قصيرة بعد ليلة مضطربة. وبينما كانت تغطّ في النوم، في حدود الساعة الرابعة والنصف صباحاً، رأت زوجها ينظر إليها وهو يقف بالقرب من نافذة غرفة النوم في شقّتهما التي تقع في الدور الثالث. وبعدما استيقظت فزِعة، توجّهت إلى البقعة التي كان يقف فيها، وكان فزعها يزيد مع كلّ خطوة تخطوها. تقول إيمّا، “نظرت إلى الأسفل وقلت لنفسي: شكراً يا إلهي، جيمس ليس هنا. ثم نظرت إلى اليسار”.

كان جيمس لو ميسورييه، الذي شارك في تأسيس “الخُوَذ البيض”، المنظّمة التي تكرّس جهودها لإنقاذ المدنيّين العالقين في الحرب السوريّة، يتمدّد عارياً في الأسفل وسط العتمة. وقد التفّ مصلّون كانوا في طريقهم لأداء صلاة الفجر، في جامع “قليج علي باشا” القريب، بصمتٍ حول جثّة الأجنبيّ الممدّدة على أرضيّة الزقاق المرصوف بالحصى. وتبعثرت الضمادات والأغلفة البلاستيكيّة التي خلّفها المسعفون وراءهم في موقع الحادث.

في مكان ليس ببعيد، كانت سفن الشحن المحمَّلة ببضائع تشقّ طريقها عبر مياه البوسفور التي بدت رماديّة اللون. ووقفت نوارس على حائط تراقب المشهد، بينما واصلت جموع المتفرّجين ورجال الشرطة ازديادها. حينها بدأت شمس الخريف تتسلّل ببطءٍ فوق الأفق. 

وصلت إيمّا أسفل الدرج وهي تتعثّر، وفتحت أحد البابَين الأمنيَّين، وعندما همَّت بفتح الثاني هُرِع خمسة رجال شرطة إليها. أخبرَتني إيمّا راهناً في المرّة الأولى التي تحدّثت فيها علناً عن وفاة زوجها قائلة، “سمعتُ بعدها من شخص آخَر أنّني كنت أبكي وأردِّد: لا، لا، لا. أحضرتُ بطّانيّة لأنّني كنت أريد أنْ أغطّيه. كنت أستطيع رؤيته وأنا واقفة عند الباب، لكنّهم لم يسمحوا لي بلمسه. حاولتُ إقناعهم بأخذ البطّانيّة لوضعها عليه وتغطيته، لكنّهم رفضوا أيضاً، وأجبروني على الصعود إلى الأعلى. ثم بدأت بعد ذلك أسوأ لحظة في حياتي”.

سرعان ما انتشر خبر وفاة جيمس، وأصبح محورَ حديث الأوساط السياسيّة في إسطنبول وشمال سوريا. واستيقظ الناس في لندن وموسكو -حيث كان أكثر شهرةً- على تقارير وفاته بعد ساعتين من الحادثة. اطّلع أيضاً كبارُ المسؤولين في البلدَين، بينهم بوريس جونسون شخصيّاً، على الخبر قبل إفطارهم. كان هذا خبراً عالميّاً بتداعيات واسعة النطاق. التقى بوريس جيمس خلال زيارة سابقة قام بها بوريس إلى تركيا عام 2016 عندما كان وزيراً للخارجيّة، وظلَّ داعماً لعمله من ذلك الحين.

جيمس لو ميسورييه، من مؤسسي “الخُوَذ البيض”

منذ أواخر عام 2013، كان جيمس يساهم في تنسيق فريق من المتطوّعين في شمال غربيّ سوريا، حيث يتركّز معظم المعارضين لحكم بشّار الأسد. كانت المنطقة خارج تغطية رجال الإنقاذ المدعومين من الدولة؛ ولهذا -وبدافع اليأس- بدأ سكّان المنطقة -من مدرّسين ونجّارين ومدنيّين آخرين- تنظيم أنفسهم وتشكيل مجموعات لانتشال أفراد أسرهم وجيرانهم من تحت الأنقاض بعد القصف الجوّيّ. وقد التمَس رجال إنقاذ المساعدة من مؤسّسة “أرك” Ark الدوليّة للاستشارات الإنسانيّة في الإمارات، التي كان يعمل جيمس فيها حينذاك. وبعد عشر سنوات في الشرق الأوسط، أصيب بخيبة أمل إزاء شركات الأمن الأجنبيّة ذات الميزانيّات الضخمة، التي شعر بأنّها تعمل على إثراء المتعاقدين الأجانب أكثر من سعيها إلى تمكين السكّان المحلّيّين. وتصوَّر أنّ المنظّمات ذات القواعد الشعبيّة، التي تتشكّل من مدنيّين يعملون على أرض الواقع، يُمكن أنْ تقدم أداءً أفضل بكثير. وبدا له أنّ عمل رجال الإنقاذ السوريّين المدنيّين مثاليّ للغاية. لذا استقال من “أرك”، وأخذ فكرة المشروع معه، وانتقل للعيش في تركيا.

سرعان ما كبرت الفكرة. وبدأ جيمس، الذي كان ضابطاً في الجيش البريطانيّ خلال التسعينات، يساعد على تدريب رجال الإنقاذ المتطوعين ويؤمّن التمويل الدوليّ لِعملهم. وأسّس في مطلع عام 2014 “مؤسّسة مِيْدِي للإنقاذ” Mayday Rescue Foundation، ويعني اسمها مؤسّسة “الاستغاثة للإنقاذ”، لتدريب المدنيّين المتطوّعين وتزويدهم بالمعدّات اللازمة، وجعلها شغله الشاغل خلال آخر خمس سنوات من حياته.

 بعد فترة قصيرة تحولت الفكرة إلى منظّمة ذات اسم بارز. وبدأ المتطوعون في “الخوذ البيض” -كما باتوا يُعرَفون- استخدام الكاميرات المثبَّتة على الرأس لتسجيل ما كان يحدث على أرض الواقع. كان لصور المتطوعين السوريّين، الذين يرتدون خُوَذاً بيضاً عليها كشّافات ويضعون أقنعة واقية من الغازات، وهم يجاهدون وسط الأنقاض لإنقاذ الأرواح، وقعٌ كبير في جميع أنحاء العالم. واستطاعت مَشاهدُ الرضَّعِ الذين يُنتشَلون أحياءً من تحت أنقاض المباني المقصوفة والأطفالِ الذين يُنقَلون إلى سيّارات الإسعاف من وسط حطام المنازل المحترقة، أنْ تضع حدّاً لحالة التخاذل العامّ المحيطة بالحرب. احتفى صنّاع الأفلام والمشاهير وزعماء العالم بمجهودات “الخوذ البيض”. كانت المنظّمة، في أوجها، تُموِّل 200 فريق في مختلف أنحاء سوريا، بإجمالي 4 آلاف رجل إنقاذ ومُسعِف، مع توفير شاحنات إغاثة وسيّارات إسعاف ومعدّات حفر أيضاً. 

انهالت الأموال على المنظّمة، إذ تبرَّعت بريطانيا والدنمارك وألمانيا وهولندا وقطر وكندا بمبالغ وصل مجموعها إلى 30 مليون دولار سنويّاً، عندما كانت الطائرات الروسيّة والسوريّة تقصف مئات آلاف الأشخاص في شمال غربي سوريا. فقد وصل عدد القتلى في الصراع إلى حوالى 500 ألف شخص في منتصف عام 2015. وارتفعت هذه الأرقام في أواخر العام نفسه عندما تكثّفت الغارات الجوّيّة الروسيّة. ومنذ ذلك الحين وعدد القتلى آخذ في الارتفاع.

كانت سوريا تنهار بالكامل، في كارثة عالميّة أخرى أعقبت الغزو الأميركيّ-البريطانيّ المشترَك للعراق والإخفاقات الجسيمة التي حدثت خلاله، والتي لطّخت سمعة الحكومة البريطانيّة (ودفعتها للاعتذار لاحقاً). بَدَا أنّ تمويل “الخوذ البيض” يُمثّل وسيلة مساعدة مأمونة خالية من المخاطر للدول التي لا ترغب في التدخّل عسكرياً. لذا أصبح تعاوُن الحكومة البريطانيّة مع “ميدي” من التدخّلات المعروفة القليلة التي قامت بها بريطانيا في الحرب السوريّة.

حصد عمل “الخوذ البيض” لاحقاً أوسمةً وجوائز عالميّة. ورُشِّحت المنظّمة أكثر من مرّة لنيل جائزة نوبل للسلام. وعام 2016، حصل جيمس على وسام الإمبراطوريّة البريطانيّة برتبة ضابط “لحمايته المدنيّين في سوريا”. ثمّ في العام التالي، فاز وثائقيّ “الخوذ البيض” الذي أنتجته “نتفلكس” بجائزة أوسكار. لكن مع تعاظم شهرة المنظّمة دوليّاً، اجتذبت أيضاً أعداءً أقوياء كانوا مصمِّمين على تشويه سمعتها ومطاردة مَن يقفون خلفها.

وبَينما كان خبراء الطبّ الشرعيّ يُشرِّحون جثمان جيمس، وصل مزيد من رجال الشرطة إلى مقرّ “ميدي”، الذي يقع في الطبقة الثانية من البناية التي كان جيمس يسكن فيها؛ وسرعان ما عجَّ المكان بالمسؤولين. في الدور العلويّ، الثالث، كان المحقِّقون يباشرون العمل مع إيمّا، فقد أخذوا بصماتها وعيِّنات من حمضها النوويّ، وعامَلوها كمشتبهٍ بها في جريمة قتل. في الطرف الآخَر من المدينة، حيث يقع مقرّ منظّمة “الخوذ البيض” ومكاتبها، استيقظ الموظّفون على الأخبار المروِّعة التي تتحدّث عن وفاة جيمس. وكذلك كان الحال على الإنترنت، حيث طُعِنَ في عمل المؤسّسة -وعمل جيمس نفسه- منذ اللحظة الأولى لتأسيسها. 

عام 2016، حصل جيمس على وسام الإمبراطوريّة البريطانيّة برتبة ضابط “لحمايته المدنيّين في سوريا”. ثمّ في العام التالي، فاز وثائقيّ “الخوذ البيض” الذي أنتجته “نتفلكس” بجائزة أوسكار

خلال السنوات التي سبقت وفاة جيمس، أصبح هو ومنظّمة “الخوذ البيض” محورَ اهتمام حملة تضليل إلكترونيّة يقودها مسؤولون سوريّون ورُوس، ويروِّج لها مدوّنون موالون للأسد وشخصيّات إعلاميّة يمينيّة متطرِّفة ومَن يصفون أنفسهم بأنّهم معادون للإمبرياليّة. فمع اتّساع رقعة عملهم في سوريا، أصبحت المجموعة واحدة من أكثر المؤسّسات في العالم التي تتعرّض لحملات تشويه السمعة والتمحيص الدقيق.

كان الدافع وراء ذلك واضحاً. فهذه مجموعة تعمل حصراً في مناطق سوريّة تخضع لسيطرة المعارضة، وتساعد في إنقاذ ضحايا الهجمات التي ينفّذها أنصار الأسد. في الوقت ذاته، قوَّضت مشاهد عمليّات الإنقاذ سرديّة النظام وحشدت تعاطفاً إنسانيّاً كبيراً مع ضحاياه. اعتبر النظام أنّ هذه استفزازات لا تُغتفَر.

التدخل الروسي 

بدءاً من أيلول/ سبتمبر 2015، عندما تدخّلت روسيا في الحرب لدعم الأسد والحيلولة دون هزيمته، وصلت الغارات الجوّيّة على الأحياء المدنيّة إلى مستويات غير مسبوقة. وأظهرت المشاهدُ الواضحة للرجال والنساء والأطفال المصابين بإصابات مروِّعة كذبَ ادّعاءات الأسد والروس أنّ حملتهم لاستعادة السيطرة على محافظة إدلب وريف دمشق لا تستهدف سوى “الجماعات الإسلاميّة الإرهابيّة” والمتعاطفين معهم، بل أكّدت، مثلما تُظهِر مقاطع الفيديو المسجَّلة، أنّهم كانوا يقصفون الأحياء المدنيّة قصفاً عشوائيّاً.

سرعان ما تضخّمت حملة التضليل، وكان هدفها إثارةَ الشكوك حول منظّمة “الخوذ البيض” والصور التي تسجلها. مع تطوّر الحرب، بات شمال غربي سوريا مرتَعاً للإسلاميّين المتطرّفين العازمين على استغلال الفوضى لتدشين فكرة “الجهاد العالميّ”. استغلّ مروِّجو حملات البروباغندا الارتباكَ على أرض الواقع؛ وبعد فترة وجيزة انتشرت مزاعم على الإنترنت بأنّ “الخوذ البيض” أصبحت مخترَقة من تنظيم “القاعدة”، الذي يزعم أنّه استولى على المجموعة كوسيلة للحصول على تمويلها الأجنبيّ. انتشرت اتّهامات أيضاً بأنّ المنظّمة أسستها حكومات عقدت العزمَ على الإطاحة بحكم الأسد، وأنّ المتطوِّعين في “الخوذ البيض” كانوا “ممثِّلي أزمات” يفبركون مشاهد تمثيليّة لتشويه سمعة روسيا وسوريا.

أفسحت وسائل الإعلام الروسيّة والسوريّة المجالَ لبعض المغفّلين المُفيدين الذين يروِّجون نظريّات المؤامرة تلك على “يوتيوب” و”تويتر” ومواقعهم الشخصيّة الهامشيّة، ومنحتهم تغطية جذّابة. كان جيمس نفسه هدفاً لسلسلة شبه يوميّة من الهجمات الروسيّة التي ترعاها الدولة على التلفزيون الرسميّ ومنصّات التواصل الاجتماعيّ، والتي وُصِف خلالها بافتراءات كثيرة ملفَّقة كالإرهابيّ والجاسوس والمُتحرِّش بالأطفال ومهرِّب الأعضاء. سموه أيضاً “عميل الاستخبارات الغربيّة”، الذي يستخدِم مؤسّسة إغاثيّة وسيلة خفيّة لتغيير النظام. بل إنّ تلك الاتّهامات وصلت إلى مجلس الأمن الدوليّ خلال اجتماع مغلَق دعت إليه موسكو.

 كان الهدف هو إغراق جميع المنافذ الإعلاميّة بالأكاذيب لزعزعة الثقة في أوساط داعمي المنظّمة، بخاصّة الحكومات المانحة. وبالفعل آتَت هذه الاستراتيجيّة ثمارَها في ما يتعلّق بسمعة “الخوذ البيض” وأخلاقيّات المتطوِّعين فيها والداعمين لها ونزاهتهم. في أيلول 2018، عندما التقيتُ جيمس للمرّة الأولى، تحدَّث معي عمّا تسبِّبه له حملة التشويه تلك من إرهاق وإجهاد. ومنذ ذلك الحين أتابع قصّته عن كثب.

 خلال السنوات القليلة الماضية، اتّسمت الطبيعة الجيوسياسيّة للصراع السوريّ، وطبيعة الحرب ذاتها، بتحدّياتٍ كبيرة أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. فقد بات شمال غربيّ سوريا هو المنطقة الأكثر كثافةً سكّانيّة في البلاد بأسرها، والتمس المُهجَّرون المشرَّدون من جميع المناطق ملاذاً آمِناً لهم وسط سكّان المنطقة الأصليّين. وجدت أيضاً جماعات إسلاميّة متشدِّدة طريقَها إلى المنطقة واتّخذتها مقرّاً لها. وعلى نحو متزايد أصبح التساؤل حول مَن يسيطر على إدلب -المحافظة التي كانت “الخوذ البيض” تنتشر فيها أكثر من أيّ منطقة أخرى- يشغل الحكومات المانحة، التي طالبت بتوضيح الجهات التي تذهب مساعداتهم الماليّة إليها.

قال إيثان ويلسون، مدير البرامج السابق في “ميدي”، “أصبح الوضع على الأرض أكثر تعقيداً. فبين عامي 2017 و2019، أدّت عوامل مُجتمعة تتمثّل في النفور العالميّ المتزايد من سوريا، وحملة التضليل الروسيّة، وتزايُد سياسات اليمين المتطرِّف الانعزاليّة والارتيابيّة في الغرب، إلى التدقيق الشديد في أوضاع المؤسّسات الإغاثيّة أكثر ممّا كان الحال عليه في عامي 2015 و2016”.

طيلة عام 2019، كانت “ميدي” تتعرّض لضغوط متزايدة. فقد واجه الديبلوماسيّون الذين يتعاملون معها أسئلة كثيرة للغاية من السياسيّين تتعلّق بكيفيّة إنفاق أموالهم والجهات المستفيدة منها. أصبح من الضروريّ التدقيق في كلّ قرش من أموال المانحين، وأُثيرت مخاوف من أنّ “ميدي” لا تمتلك النظم والهياكل المناسبة لمراقبة حساباتها ومصادر تمويلها الكثيرة. وفي أواخر عام 2018، طالبت وزارة التنمية الدوليّة في بريطانيا -التي كانت وقتها الدائرة الحكوميّة المسؤولة عن إدارة المساعدات الخارجيّة- بإجراء مراجعة للحسابات، سُلّمت في حزيران/ يونيو 2019.

 في الأسبوع الأخير من حياة جيمس، تصاعدت حدّة التوتّر الذي مرّ به لسنوات. ففي السابع من تشرين الثاني، وقبل أربعة أيّام من وفاته، اجتمع مع فريق جديد من المُراجِعين في اجتماعٍ مصيريّ. وكان قد ابتعد خوفاً من أنّه بشكلٍ ما فقدَ السيطرة على “ميدي”. ففي ذهنه كان كلّ ما عمِل من أجله على وشك أنْ يُواجه تحدّيات مفاجئة وصادِمة بأساليب عصيّة على الفهم. الأسوأ من ذلك أنّ سمعةَ منظّمته، إضافةً إلى “الخوذ البيض”، بدَت على المحكّ. وقد خشِي أنْ يحكم عليه التاريخ أنّه كان الرجل الذي دمّر ميراثها، وعرَّضَ المساعدات المقدَّمة إلى السوريّين المُحاصرين للخطر. وعند وفاة جيمس، أو ما يعتقد أصدقاؤه وأسرته والشرطة التركيّة أنّه كان انتحاراً، كانت الضغوط النفسيّة التي تعرّض لها أصبحت لا تُطاق.

مثّلت حياة جيمس لو ميسورييه ووفاته قصّة إنسانٍ أصبح كبشَ الفداء ومحورَ النقد في حرب السرديّات حول الصراع السوريّ؛ فهو إنسان ساهم في بناء إحدى أبرز المجموعات خلال الحرب السورية، وأصبح من حيث لا يدري شخصيّةً محوريّة في حرب المعلومات العالميّة الدائرة على أنقاض النظام العالميّ المنهار. وهي أيضاً قصّة انهيار منظّمة أدارت إحدى أنجح محاولات التدخّل التعاوُنيّة لتقديم الدعم في الآونة الأخيرة، وتحكي أيضاً كيفيّة انهيار جيمس في أيّامه الأخيرة تحت وطأة حِملٍ من المزاعم التي ثبت لاحقاً كذبها.

حين وصل كورنيليس فريسفيك إلى إسطنبول في الأسبوع الثاني من كانون الثاني/ يناير 2020، لم تكن لديه فكرة عمّا عليه توقّعه. كان كورنيليس، المخضرَم في مجال الأعمال في هولندا، قد اشتُهر بإنقاذ الشركات الواقعة في ضوائق ماليّة. وعلى مدار مسار مهنيّ طويل في قطاع الشركات، صار كورنيليس نسخةً لقطاع التمويل من مستر وولف في فيلم “خيال رخيص” Pulp Fiction، وهو شخص يمثّل وجهة مَن يبحثون عن حلٍّ لأكثر المشكلات تعقيداً. بدَت هذه المهمّة ملائمة تماماً لكورنيليس.

استُدعِيَ هذا الهولنديّ البالغ من العمر 62 سنة لمُراجَعة حسابات “ميدي”، المؤسّسة التي لم يكن يعلم عنها شيئاً، والعاملة في مجالٍ لم يكن له اطّلاع عليه. وكما أخبرني كورنيليس، “أيّاً كانت الخلفيّة، كان الأمر ملائماً تماماً لخبراتي. فأنا أعمل في عالمٍ كلّ ما فيه واقع تحت الضغط”.

تمّ تعيين كورنيليس في “ميدي” من قِبَل مديرها الماليّ يوهان إليفيلد بناءً على طلب المانحين. فقد أصابهم الانزعاج إثر رسالة إلكترونيّة أرسلها جيمس قُبَيل وفاته بأيّام، وفيها أثار عدداً من القضايا الماليّة التي تمّ التنبيه منها في اجتماع مع يوهان وشركة تدقيق الحسابات. في 7 كانون الثاني 2020، التقى كلٌّ من كورنيليس ويوهان في مدينة روتردام الهولنديّة، وفي 12 كانون الثاني سافَرَا إلى إسطنبول مع رجل أعمال هولنديّ آخر يُدعَى روب فان إيك. في كلا الاجتماعَين قدِّمت إلى كورنيليس سلسلة من المخاوف المتّصلة بالشؤون الماليّة لـ”ميدي”. وكانت هذه المخاوف نابعةً جزئيّاً من النتائج الأوّليّة لتقييم استشاريّ قدَّمَته إلى جيمس، في تشرين الثاني، شركةُ التدقيق الهولنديّة SMK، في ذلك الاجتماع المصيريّ قبل أربعة أيّام من وفاته، وجرى لاحقاً تلخيص التقييم في مسوَّدة مَحضَر. أثار التقييم أسئلة حول عدد المعامَلات النقديّة، وحدَّد مجالات تثير القلق في سجلّات “ميدي”. ووفقاً لكورنيليس، أثار يوهان مزيداً من الأسئلة الإضافيّة إلى جانب ما قامت شركة SMK بتغطيته. 

مثّلت حياة جيمس لو ميسورييه ووفاته قصّة إنسانٍ أصبح كبشَ الفداء ومحورَ النقد في حرب السرديّات حول الصراع السوريّ

وقال كورنيليس “جلست في ذلك الاجتماع الأوّل، وعليّ القول إنّ انطباعي كان أنّ جيمس وإيمّا شخصَان سيّئان؛ وأنّ جيمس زعيم عصابة. وقد أخبرني يوهان أنّ إيمّا أنفقَت 90 ألف دولار على فستان زفافها، وأنّهما معاً أنفقَا ربع مليون دولار لاقتناء زورق بحريّ سريع، وأنّهما يقضيان شهر عسل يمتدّ عاماً كاملاً مع شراء مجوهرات اللؤلؤ وحقائب اليد؛ وكلّ هذا على حساب “ميدي”. واعتقدت أنّ أمر تدقيق الحسابات سيمثّل تحدّياً”. فيما قال يوهان في تصريح لصحيفة “الغارديان” إنّه لا يرى هذا الوصف للاجتماع معبِّراً عمّا دار فيه، وأصرّ على أنّه لم يذكر أيّ شيءٍ لم يرِد في مَحضَر شركة SMK. 

ترأّس كورنيليس مجلساً للإشراف من ثلاثة أشخاص -إذْ كان معه محامٍ وفان إيك- للوصول إلى جوهر الأمر (كان جيمس في وقت وفاته يحاول نقل مقرّ “ميدي” من إسطنبول إلى أمستردام؛ ومن هنا يتّضح الرابط الهولندي). يقول كورنيليس: “كانت هناك مزاعم بوجود فوائد وأتعاب هائلة، ومزاعم بوجود مدفوعات نقديّة غير مرخَّصة، لأسباب شخصيّة، ومزاعم بوجود فروق بين الأموال التي تستلمها ميدي وتلك التي تصرفها، إضافةً إلى مزاعم حول مستحقّات ضريبيّة”.

إذا ثبتت تلك المزاعم، ستكون لها آثار مدمِّرة على “ميدي”، ومضرّة بالحكومات المانحة، التي واصلت دعمها المؤسّسة -وخصوصاً “الخوذ البيض”- حتّى أواخر 2019، على رغم المعلومات المضلِّلة التي أحاطت بعمل المجموعة.

 وقد أخبر جيمس أصدقاءه قُبَيل وفاته بمدّة قصيرة أنّ تلك المزاعم بدت كأنّها تنبع من العدم. وبَينما أوصت عمليّة تدقيق الحسابات لشهر حزيران/ يونيو 2019 -التي أُجرِيت بطلبٍ من وزارة التنمية الدوليّة في بريطانيا- بإدخال ضوابط محاسبيّة أكثر تشدّداً ونظُم حَوكمة أكثر صرامةً، ليس هناك ما يُشير إلى أنّ مستقبل “ميدي” على المحكّ. أثار اجتماع تشرين الثاني مع شركة SMK لتدقيق الحسابات أسئلة حول عمليّات السحب النقديّ والأوضاع الضريبيّة واتّفاقيّات المنح، ولكنّه لم يُصدِر أيّ نتائج رسميّة. ومع ذلك، فإنّ طبيعة القضايا التي نبّهت إليها كانت صادمة بالنسبة إلى جيمس في الصميم.

معاملة من دون حل…

ظلّت إحدى المعامَلات من دون حلّ منذ عمليّة تدقيق الحسابات لتمّوز/ يوليو، وأثارتها من جديد شركة SMK في تشرين الثاني: إذْ كان جيمس سحَبَ 50 ألف دولار من خزينة “ميدي” في تمّوز 2018، لدعم مهمّة إجلاء حوالي 400 من أعضاء فريق “الخوذ البيض” وعائلاتهم من جنوب سوريا إلى الأردن. وقد أشارت المُراجَعة التي أمرَت بها وزارة التنمية الدوليّة البريطانيّة في وقتٍ سابق من العام إلى أنّ ثمّة حاجة لتحديد ما إذا كانت تلك الأموال قد دُقّقت بشكلٍ صحيح، ويعاد الآن فحصها مرّة أخرى.

 أراد فريقا تدقيق الحسابات رؤيةَ دليلٍ ملموس. في بلدٍ منهَك مزّقته الحرب، كسوريا، حيث كلّ الأمور يحرّكها المال، فإنّ الافتقار إلى تسجيلات إلكترونيّة جعل المدرسة القديمة في ضبط الحسابات أمراً ضروريّاً. ووفقَ ما قالته نادرة السكَّر، رئيسة دائرة الامتثال في “ميدي”، أُعيدَت الأموال التي لم يستخدمها جيمس، ومقدارها 40800 دولار، ولكنْ سُجِّلَت في دفتر حسابات جعل من الصعب العثور عليها في سجلّات “ميدي”. لم يحتفظ جيمس بإيصالات المبالغ الإضافيّة، التي تشمل 9200 دولار أنفقها في الأردن، ولم يتذكّر إعادة المبلغ.

 في أواخر أيار/ مايو 2019، التقى جيمس فريقَه الماليّ لمحاولة حلّ القضيّة، وقرّر أنْ يقوم بتأريخ إيصال بتاريخٍ سابق، لتقديمه إلى مدقّقي الحسابات. أخبرتني نادرة السكَّر أنّ هذا “لم يكن غيرَ قانونيّ، ولكنّه مع ذلك كان مريباً”.

 في 8 تشرين الثاني، وبعد الاطّلاع على مسوّدة مَحضَر الاجتماع مع مدقّقي الحسابات الهولنديّين، اختار جيمس -عند مواجهة ما خشِيَ أنْ يؤدّي إلى تفكّك “ميدي”- معالجة ما بدا له فوزاً عاجلاً؛ وهو شرح الظروف الكامنة وراء سحب مبلغ 50 ألف دولار، مع اتّخاذ قرار بتأريخ إيصال بتاريخ سابق”. كتب جيمس، متجاهلاً تحفظّات زملائه، رسالةً إلكترونيّة طويلة إلى المانحين، أقرّ فيها بأنّ السجلّات المتعلّقة بمبلغ الـ50 ألف دولار تمثّل تزويراً من الناحية التقنيّة. وقد اعتقد جيمس أنّ هذه الشفافيّة -تِجاهَ ما مثّل في نهاية المطاف حالةً من الغموض في ضبط وإدارة الحسابات- قد تطمئن المانحين وتؤمن التمويل في المستقبل.

ووفقَ مصادر متعدّدة، جعل يوهان مسألة الإقرار بالخطأ حيالَ ما بدا فقدان مبلغ 50 ألف دولار أمراً محوريّاً في نقاشاته مع كورنيليس وآخرين. تمّ الإبقاء على شركة المحاسبة الجنائيّة “غرانت ثورنتون” خلال الأسبوع الذي تلا وفاة جيمس. وفي الأشهر الأربعة التالية، طالَع مراجِعُوها الرسائل الإلكترونيّة وسجلّات المحادثات الهاتفيّة، وعقدوا مقابلات مع موظّفي “ميدي”، ومنهم يوهان. 

قبل “كريسماس”…

في الأسبوع الذي سبق عيد الميلاد، تلقّت إيمّا خطاباً من محاميّ “ميدي”، يتّهمونها فيه بـ”الإثراء غير المشروع مع آخرين، على حساب المؤسّسة”، مع توقيفها من منصبها في المؤسّسة كمديرة تنفيذيّة للتأثير. بدأ الخطاب بالقول إنّ “مؤسّسة ميدي للإنقاذ، ممثّلةً بعضو مجلس إدارتها، السيّد يوهان إليفيلد، قد طلبَت منّي إبلاغكم بما يلي…” كان يوهان حينها هو عضو مجلس الإدارة الوحيد. وواصَل الخطاب مشيراً إلى أنّه “في أعقاب عمليّة تحقيق أخيرة، تصاعدت شكوك خطيرة” بأنّ إيمّا سحبَت مبلغ 55 ألف دولار على ثلاث دفعات في حزيران وتمّوز 2018، ولم تقم بإعادتها.

لذا، في منتصف كانون الثاني الماضي، بدأ كورنيليس الدور الأشدّ حساسيّة من الناحية السياسيّة في حياته -وهو رئاسة المجلس الاستشاريّ لمؤسّسة ميدي للإنقاذ- غافلاً إلى حدّ كبير عن التدقيق السياسيّ الذي كان يمثّل قرعاً متواصلاً للطبول في عمل “ميدي”. فقد كانت المؤسّسة التي تموّلها حكومات، وجميعها مسؤولة أمام سياسيّيها، مؤسّسةً معقّدةً بما فيه الكفاية. أضِف إلى ذلك سلسلة من المعامَلات التي قد تكون غير منتظمة، وربّما يكون لذلك آثار على مستقبل تقديم الدعم في سوريا.

في 21 كانون الثاني، وفي وسط التحقيقات التي قادها كورنيليس وشركة “غرانت ثورنتون”، انهارت قلاع “ميدي”. وقال كورنيليس “أخبرني المانحون بشكلٍ جماعيّ أنّ أحداً منهم لن يدعم ميدي بعد ذلك. من تلك اللحظة، صار الأمر كلّه يتعلّق بخطّة إغلاق المؤسّسة”.

من أوائل الأشياء التي نظر فيها كورنيليس هو مبلغ الـ50 ألف دولار المفقود والمزاعم حول عمليّات سحب أخرى لاستخدامات شخصيّة. وقال كورنيليس “احتفظتُ بآرائي لنفسي إلى منتصف آذار/ مارس تقريباً. ثمّ بدأت التفاعل مع المانحين بصورة فرديّة”.

من حينها بدأت رؤى كورنيليس في التحوّل.

إيمّا وينبيرغ

مذ بدأت إيمّا وينبيرغ الجلوس مع جيمس تغيّرت حياتهما. ففي آذار 2016 سعت إيمّا إلى اللقاء في إسطنبول برجلٍ تعرّفت إليه مرّتين بشكلٍ وجيز في حفلات مفتوحة، ورأته إنساناً جذّاباً ذا حضور قويّ. وصلت إيّما -وهي ديبلوماسيّة بريطانيّة سابقة- إلى مكاتب “ميدي” في إسطنبول، وفي نيّتها العمل. في ذلك الحين كانت تعمل في شركة اتّصالات شمال العراق، حيث تقوم بتصميم استراتيجيّات شعبيّة لتعطيل تنظيم “داعش”، الذي كانت ينتشر في المنطقة آنذاك. كانت إيمّا تأمل بإقناع جيمس بالمساعدة في مشروع يحشد فرقاً محلّيّة لحماية المجتمعات السكنيّة المحيطة بسدّ الموصل الذي كان المهندسون يخشون انهياره. 

لم تتحرّك الخطّة قيد أنملة، ولكنّ اللقاء استمرّ إلى الليل. وعن هذا اللقاء قال جيمس في أواخر 2018، “بحلول لحظة انتهائنا من احتساء زجاجة النبيذ الرابعة، أدركت أنّنا سنستمرّ معاً. كانت إيمّا الشريكة التي حلمت بها”.

انتهت زِيجَتا جيمس السابقتان بالطلاق، وصارت “ميدي” هي همه الأول. قال لي في تشرين الثاني 2018 “لقد فقدت الأمل بالحبّ”. وكان هذا شعور إيمّا أيضاً حينها؛ إذ قالت لي بعد ذلك بشهور “كنت باختصار يئستُ من “الحياة”، قُبِيل لقائي جيمس. كنا اخترنا أولوليّة الهدف على الإنجازات الشخصيّة. ثمّ كان لقاؤنا، وتغيّر كلّ شيء. عاد إلينا الأمل”.

تزوّج جيمس وإيمّا صيف 2018 في أفخم فندق في “بيوك أضه” (الجزيرة الكبيرة، إحدى جزر بحر مرمرة)، التي تبعد من إسطنبول نحو ساعتين بالعَبّارة. وقد كان رائد الصالح، رئيس منظّمة “الخوذ البيض” أحد أَشابنة جيمس. في حين سافر ممثّلون من البلدان المانحة من جميع أنحاء العالم إلى هناك لحضور حفل الزفاف؛ إضافةً إلى أصدقاء الزوجين القدامَى، ومن بينهم زملاء جيمس الضباط في الصفّ الدراسيّ عام 1993 في أكاديميّة ساندهيرست العسكريّة الملكيّة، حيث فاز بـ”وسام الملكة في الزعامة”. حُمِل العريس في أرجاء حفل الزفاف على أكتاف أصدقائه بينما كان يمسك سيفاً احتفاليّاً خاصّاً بالمراسم. وخلافاً للادّعاءات الأخيرة، ارتدت إيمّا ثوبَ زفاف بلغت قيمتُه 1795 جنيهاً إسترلينيّاً، وهو هديّة من والدتها، اشترته من متجر لبيع الملابس المستعمَلة في غرب لندن. وبعد انتهاء مراسم الزواج، استمرّ الحفل أمام المُروج المطلّة على الشاطئ في منزل العروسين القريب، حيث احتفل الأصدقاء والزملاء والعائلة حتّى ساعات الفجر الأولى.

كان الترابط والودّ بين الزوجين واضحاً لكلِّ مَن زار منزلهما المستأجَر في “بيوك أضه”، الذي جدّدته إيمّا بعناية فائقة وملأته بالأثاث والمفروشات وزيَّنته بالتحف والمنحوتات الصغيرة، التي شُحِن بعضها من لندن والبعض الآخر تمّ شراؤه من أسواق إسطنبول. فقد أصبحت حياتُهما مندمجة ومتكاملة في جميع الجوانب تقريباً، بما في ذلك إدارة المؤسّسة. فقد شغلت إيمّا مقعداً في مجلس إدارة “ميدي” في شباط/ فبراير 2018، قبل أنْ تتنحّى عن المنصب في أيار عام 2019. ومنذ ذلك الحين، أصبحت واحدة من المسؤولين التنفيذيّين في المؤسّسة.

على مدى سنوات، وحتّى في ظلّ الهجمات القاسية التي لا هوادةَ فيها من قِبَل أصحاب المصالح الخاصّة، بدا أنّ جيمس وإيمّا ومنظّمة “الخوذ البيض” كانوا قادرين على الصمود، على رغم حملات التضليل المستمرّة. يقول إليوت هيغنز، مؤسّس منظّمة “بيلينغكات” ورئيسها، وهي منظّمة صحافيّة تدير موقعاً استقصائيّاً وتُركّز في تحقيقاتها على النفوذ الروسيّ في سوريا وأماكن أخرى من العالم، “دائماً ما كانت هناك حملات تضليل، فقد أيقظ جيمس –من دون أنْ يعلم- جيشاً من الأعداء. أساس المحرِّضين كانت جماعة متطرّفة مناهضة للإمبرياليّة، كانت موجودة لفترة بمفردها، إلى أنْ دعمت روسيا هؤلاء الأشخاص، واستخدمتهم لرحلة الكذب وترويج الشائعات حول منظّمة الخوذ البيض”. وأوضح هيغنز أنّ “التعامل مع هؤلاء المنتقِدين كان صعباً، فكلّما تفاعلت معهم، زاد عدد الناس الذين يسمعون ما يقولونه”.

 قال صالح، “بالنسبة إليّ، شخصيّاً، لا أستطيع أنْ أتجاهل وطأة حملات التضليل وتأثيرها فينا جميعاً في منظّمة الخوذ البيض. لقد كرّسنا طاقاتنا لإنقاذ الأرواح وتحسين الأوضاع المعيشيّة في سوريا. إلّا أنّ هذه الأعمال الإنسانيّة تُشكِّل تهديداً على السرد الذي تتبنّاه روسيا والنظام السوريّ لما يحدث بالفعل على أرض الواقع. وُصِفنا بأنّنا إرهابيون مموَّلون من الغرب. وهذا عبء يؤثّر بنا عاطفيّاً ونفسيّاً، ويتطلّب بذلَ جهدٍ هائلٍ للتعامل معه”.

في حين بَدَا ممكناً احتواءُ حملات التضليل، إلّا أنّ المسائل المتعلّقة بالإدارة في “ميدي” بدأت تتفاقم. فقد نمت المؤسّسة بسرعة، وكانت تتعامل مع ملايين التبرعات المُقدَّمة من المانحين شهريّاً. وبحلول منتصف عام 2018، عندما بلغ التمويل من المانحين أقصاه، كان واضحاً أنّ “ميدي” تحتاج إلى إشراف ماليّ أكثر إحكاماً وصرامةً، وأنّ فريقها التنفيذيّ يحتاج إلى التوسّع. ولذا وظّف جيمس في آب/ أغسطس 2018 يوهان للمساعدة في تحقيق تلك الغاية. 

بَيْدَ أنّ المشكلات ظلّت قائمة. فقد حدث تأخير في تقديم تقارير المنح، وكانت هناك صعوبات بشأن توريد المعدّات إلى منظّمة “الخوذ البيض” وسداد المدفوعات للمورِّدين. إضافةً إلى ذلك، كانت رواتب المسؤولين التنفيذيّين في “ميدي” أعلى من المعايير المهنيّة المعمول بها في هذا المجال. غير أنّ مصدراً مطّلعاً على تفاصيل تقرير المحاسبة الجنائيّة الذي صدر عن شركة “غرانت ثورنتون” بعد وفاة جيمس، قال “لم تكن الرواتب مرتفعة أكثر من المعدَّل الطبيعيّ. فقد كانت الأرقام مقبولة، ولكنّها مع ذلك زادت الطين بلّة. فقد كانوا يستخدمون برنامج “مايكروسوفت إكسل” لإدارة الشؤون الماليّة لمنظّمة غير حكوميّة تتجاوز قيمة تعاملاتها ملايين الدولارات”. وأضاف: “لم يسبق لهم قطّ أنْ أجروا عمليّات ختاميّة دوريّة للحسابات، أي التحقّق من الأصول والاستحقاقات والالتزامات الماليّة شهريّاً، حتى نهاية عام 2018”.

“وُصِفنا بأنّنا إرهابيون مموَّلون من الغرب. وهذا عبء يؤثّر بنا عاطفيّاً ونفسيّاً، ويتطلّب بذلَ جهدٍ هائلٍ للتعامل معه”

تراكمت أيضاً ضغوط أخرى. فقد بات العمل في تركيا محفوفاً بالمخاطر ومشحوناً بالتوتّر، لا سيَّما بعدما أصبحت حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان أقلَّ تساهلاً مع المنظّمات الأجنبيّة غير الحكوميّة، فاضطَرَّ بعضَها إلى الإغلاق. ومع أنّ أنقرة أيَّدَت المعارضة المناهِضة للأسد، فإنّ تعاطفها صار على المحكّ بعد فشل تلك المعارضة في تنظيم صفوفها، وتضاؤل قدرتها على تحمّل نحو 3 ملايين لاجئ سوريّ على أراضيها؛ الأمر الذي صاحب تضاؤل الآمال في انتهاء الحرب.

 بحلول تشرين الثاني 2019، كان جيمس منهَكاً ومتعباً عاطفيّاً ونفسيّاً. فقد أصبح الاجتماع مع مُدقّقي الحسابات الهولنديّين دافعاً للانهيار. وأخبرني في ذلك الوقت قائلاً، “لقد كانت أيّاماً عصيبة للغاية، يبدو أنّها نهايتنا، بل وربما نهاية ميدي أيضاً”. 

وقفت إيمّا مكتوفة الأيدي بلا حول ولا قوّة، ترقُب زوجها وهو ينهار. عبّرت عن تلك الفترة قائلةً، “لقد تعرّض كلانا لضغوط شديدة لفترة طويلة. فقد كانت المخاطر جسيمة للغاية، وازدادت بيئة العمل خطورةً يوماً بعد يوم. وشعرنا وكأنّنا نحاول حماية أنفسنا وتفادي وابل من الرصاص مصوّب نحونا، ولكننا كنّا قلقين دوماً من تلك الرصاصة التي قد تصيبنا في نهاية المطاف”.

في اليوم التالي، التقت نادرة السكَّر، رئيسة دائرة الامتثال في “ميدي”، جيمس. وقالت، “بَدَا شديد التوتّر. وفي يوم الجمعة 8 تشرين الثاني 2019، عقدنا كلّنا اجتماعاً، وفي نهايته عانقني، وقال لي: لقد استمتعت حقّاً بالعمل معك. لقد شعرت بقشعريرة حينها، وينتابني الشعور ذاته الآن عندما أفكّر في ما حدث”.

في الأسابيع التي تلت وفاة زوجها عزلت إيمّا -التي كانت قيد الإقامة الجبريّة آنذاك- نفسَها في بيتهما. كانت صور جيمس معلَّقة في كلّ مكان. وصارت الأرضيّات الخشبيّة التي كانت أصوات صريرُها تعلو تحت أقدام الأصدقاء والضيوف صامتة. وظلّت مائدة العشاء الطويلة خاوية، وتمدّد كلبُ الزوجين المسِنّ من سلالة “جيرمن شيبرد” على سجّادة عتيقة. وعلَت في المنزل أصداءُ ما ألَمَّ بالزوجين من خسارة فادحة.

ومع أنّ إيمّا لا تزال رسميّاً واحدةً من المشتبه بهم في وفاة جيمس، فقد سُمِح لها بمغادرة تركيا لحضور جنازته التي أقيمت في كنيسة صغيرة في مقاطعة سَري الإنكليزيّة بالقرب من منزل العائلة في 27 كانون الأول/ ديسمبر 2019. وقد أُحرقت جثّته، وتحتفظ برفاته معها. وفي أواخر كانون الثاني 2020، بعد عودتها إلى تركيا، تلقّت إيمّا مكالمة من محاميها التركيّ، الذي أبلغها بأنّها لم تعد قيد التحقيقات بتهمة القتل، وأنّ لديها مطلق الحرّيّة بالمغادرة نهائيّاً. جمعت إيمّا أغراضَ المنزل وحزمت أمتعتها وانتقلت إلى أمستردام، حيث تعيش هناك محاوِلةً استجماعَ قواها والتأقلم على الوضع الجديد. 

تحدّثت إيمّا خلال مقابلة من منزلها الجديد، بينما تحيط بها ذكريات الحياة التي بَنَياها سويّاً، وقالت: “لقد وجدت في جيمس كلَّ ما كنت أتوق إليه دوماً. ألهمني، وجعلني أقهْقِه من الضحك من كلِّ قلبي، وجعلني أؤمن بأنّه ليس هناك مستحيل، وجعلني أشعر بأنّني محبوبة للغاية، لدرجة شعرت حينها بأنّني لن أكون وحيدة مرّة أخرى أبداً. فقد تركت نزاهته وحماسته وإيمانه العميق بقوّة شجاعة الإنسان وهذا المجال، بصمةً فريدة في كلِّ الذين عرفهم. والآثار المترتّبة على وفاته لا يُمكن قياسها ولا حتّى الحديث عنها”.

وأردفت، “العالم يعاني من أزمة أمل، إذ تتعرّض دوماً آمالنا بأنْ يقوم الشخص العاديّ بأعمال بطوليّة باسلة، وأنْ يتمكّن من إحداث فارق عميق، للهجوم من قِبَل قوى مظلِمة وقويّة. إلّا أنّ جيمس واجَه هذه القوى من دون وَجَل مراراً وتكراراً في سبيل ما كان يؤمن بأنّه الصواب”. 

بينما كانت إيمّا تحاول أنْ تبدأ حياتها من جديد، حقّق كورنيليس تقدُّماً في التحقيقات حول الشؤون الماليّة الخاصّة بمؤسّسة “ميدي”، وبحلول منتصف شهر آذار، بدأ يشكّك في قصص الاحتيال والتربّح والاِغتناء التي سمعها عندما وصل إلى إسطنبول أوَّل مرّة. وقال، “لقد بات من الواضح تدريجاً أنّ هذه الادّعاءات لا يُمكن أنْ تكون صحيحة”.

من أوائل الأشياء التي نظر فيها كورنيليس هو مبلغ الـ50 ألف دولار المفقود والمزاعم حول عمليّات سحب أخرى لاستخدامات شخصيّة.

 وأضاف، “لم يكن بوسعنا أنْ نجد قرشاً واحداً صُرِف لم يكن له ما يبرِّره أو لا يُمكن تفسيره. لقد تغيَّر انطباعي عن جيمس وإيمّا تغيُّراً جذريّاً. وفي نهاية المطاف، كان من الواضح عدم تورّط إيمّا أو جيمس أو أيٍّ من الموظفين في اختلاس المال. بدأت أنظر إلى الوضع بصورة مختلفة تماماً. ففي البداية كنت أظنّ أنّه زعيم عصابة يسعى إلى الإثراء بأساليب مشينة، ولكن اتّضح لي أنّه شخص أُكِنُّ له التقدير والاحترام حقّاً”.

تقرير المحاسبة الجنائية

تأكّدت وجهة نظر كورنيليس من خلال النتائج التي توصّل إليها تقرير المحاسبة الجنائيّة الذي قدَّمته شركة “غرانت ثورنتون” في أيار 2020، والذي لم يجِد أيَّ دليل على اختلاس الأموال. ووفقاً لما جاء في ملخّص التقرير، فإنّ “الاستنتاج الرئيسيّ الذي توصّلنا إليه من خلال تحقيقنا بشأن المعاملات المُشار إليها يجعلنا نعتقد أنّه لا يوجد دليل على تبديد الأموال أو اختلاسها. لقد تمكّنا في معظم الأحيان من دحض المخالفات المزعومة. وعلى وجه التحديد، كانت عمليات السحب النقديّ التي قام بها جيمس لي ميسورييه وإيمّا وينبرغ مُبرَّرة ومصادر إنفاقها معلومة. ويبدو أنّ الأحداث التي اكتنفت سحب 50 ألف دولار من صندوق الطوارئ كانت نتيجة لسوء فهم واضح”. 

بيد أنّ التقرير أشار أيضاً إلى وجود “ثغرات كبيرة في التنظيم الإداريّ وبيئة الرقابة الداخليّة في ميدي”، وحدّد “معاملات نقديّة كبيرة لم تُسجَّل (بالكامل) في السجلّات النقديّة و/أو دفتر الحسابات العام”. وأضاف التقرير أنّه نظراً إلى أنّ بيئة العمل في “ميدي” كانت “غير رسميّة”، وكانت ناقشات عدة تُجرَى أحياناً “شفهيّاً وعبر تطبيق واتساب”، فإنّ مدقّقي الحسابات “اضطُرّوا إلى إعادة تنظيم عدد من الأحداث الماليّة وتعذّر عليهم التأكّد في مثل هذه الحالات”. وإجمالاً، من المؤكّد أنّ إدارة الحسابات في “ميدي” كانت رديئة وغير مطابقة للمواصفات، إلّا أنّ مدقّقي الحسابات لم يجدوا شيئاً يدعم أيّاً من الادّعاءات الخطيرة التي تقدَّم ذكرها. وقال يوهان إنّ تقرير “غرانت ثورنتون” أثبت عدم وجود أدلّة كافية للوصول إلى استنتاجات قاطعة.

حين طُلب من وزارة الخارجيّة وشؤون الكومنولث البريطانيّة في آب الردّ على نتائج تقرير “غرانت ثورنتون”، بعد أسابيع من التأخير، قدَّمت البيان التالي: “لقد أوقفت حكومة المملكة المتّحدة اتّفاقات التمويل المُبرَمة مع “ميدي”، ولم يجد تحقيقٌ مستقلّ أيَّ دليل على الاحتيال أو تبديد أموال المملكة المتّحدة. وتفخر المملكة المتّحدة بدعمها منظّمة “الخوذ البيض” وأنشطتها في مجال البحث والإنقاذ في سوريا التي أسفرت عن إنقاذ مئات آلاف الأرواح”. منذ بداية الشراكة مع “ميدي”، تولّى الكثير من وزراء الخارجيّة هذا المنصب. إلّا أنّ أولئك الذين شغلوا المنصب في السنوات الأخيرة كانوا أقلَّ استعداداً للاستثمار في مهمات بريطانيا في سوريا مقارنةً بأسلافهم، وهو الواقع الذي انعكس في هذا البيان المهدّئ والوقت الذي لزم لإعداده.

 بحلول آب، انتهى عقد يوهان مع “ميدي”. لكنّه أشار إلى أنّه مُقيَّد باتفاقيّة الالتزام بالسرّيّة وعدم إفشاء المعلومات، ورفض التعليق على ما قال إنّها آراء شخصيّة وسرد للأحداث من منظور الأشخاص الذين تمت مقابلتهم. وقال إنّه رفضَ تقديم المزيد من التعليقات لأنّ صحيفة “الغارديان” لم تسمح له بقراءة المقالة كاملةً قبل نشرها.

في الشهر نفسه، أعلنت “ميدي” إفلاسَها وحُلّت رسميّاً. ومن ناحية أخرى، تمكّنت منظّمة “الخوذ البيض” من الحصول على تمويل مباشر من الولايات المتّحدة وكندا والكثير من الحكومات الأوروبّيّة، ولا تزال تواصل عملها. قال صالح، “نحن ممتنّون للدعم والتدريب اللذين قدَّمتهما لنا ميدي وشركاؤنا على مرّ السنين. لقد ساعدونا في النموّ والتطوّر لنصبح منظّمة قويّة ومُستدامة، وهذا يعني أنّنا الآن في وضع يُمكّننا من الشراكة مع الجهات المانحة الدوليّة”.

في سوريا، أصبح الصراع خامداً، بعدما قدَّمت روسيا وإيران الدعم للأسد ليتمكّن من تحقيق الانتصار في ساحات القتال، وسمحت له بأنْ يدَّعي لنفسه نصراً فادحَ الثمن. ولكن لا تزال إدلب خارج سيطرته، وسكّانُها ما زالوا محاصرين داخل منطقة مستهدَفة من جميع الجهات، وتتعرّض للقصف بواسطة الطائرات الحربيّة، ومهدَّدة من المجموعات المسلّحة المتنافسة على الأرض. وما زال أكثر من نصف عدد سكّان البلاد قبل الحرب مشرَّدين داخليّاً، أو يعيشون في مخيمات عبر حدود الدول المجاورة.

قال المصدر المطّلع على تقرير “غرانت ثورنتون”، “لم أرَ أبداً في حياتي حدثاً تعرّض فيه كثر من الذين حاولوا فعل الخير إلى مثل هذا الدمار. فقد انتهى الأمر بكلِّ شيء يمسّ هذا الصراع إلى الهلاك”.

  • هذا المقال مترجم عن الرابط التالي