مع إعلان نظام الأسد انتصاره في درعا، يجد السوريون الهاربون من قواته أنفسهم محاصرين.
على تلة تطل على إحدى القرى في شمال الأردن، يجتمع السكان المحليون يومياً لمشاهدة السوريين اليائسين المحتشدين على الحدود. مع تصاعد الدخان الأسود في الأفق خلفهم، يقومون بنصب خيم موقتة في منطقة خالية يطلق عليها السكان المحليون “المنطقة الحرة”، والتي كانت سابقاً منطقة تجارية معفاة من الرسوم الجمركية عندما كان السوريون والأردنيون يتبادلون تجارياً. الآن هي مخيم موقت للمشردين، يستضيف آلاف السوريين الذين لاذوا بالفرار خلال الأسبوعين الماضيين، بعد هجوم الطائرات الروسية وقوات برية سورية على منازلهم في درعا، وهي محافظة في جنوب سوريا.
جاء هجوم الجيش السوري بعد عام من الهدوء النسبي في درعا والمحافظات المحيطة بها، التي أُعلِنت “منطقة تهدئة” بموجب وقف إطلاق النار الذي تفاوضت عليه الأردن، وروسيا، والأمم المتحدة في تموز/ يوليو الماضي. وقف إطلاق النار ساهم في خفض القتال، إنما لم يوقفه نهائياً. في الوقت الذي استمرّت فيه الحكومة السورية باستعادة السيطرة، كان الجنوب السوري غارقاً في وهم الهدوء، إذ أنشأت المدن التي تسيطر عليها المعارضة مراكز للشرطة المحلية وعيادات صحية. في هذه الأثناء، خفّضت الولايات المتحدة دعمها لميليشيات المعارضين المسلحين في الجنوب وقام الأردن بترحيل آلاف اللاجئين المسجّلين. (بعض السوريين أيضاً عادوا إلى موطنهم طواعية، كثيرون منهم لم يتمكنوا من النجاة اقتصادياً في الأردن، بينما اعتقد آخرون أن موطنهم أصبح آمناً).
تحطّم هذا الوهم في 19 حزيران/ يونيو تحت قصف الضربات الجوية، والهجمات البرية التي مزقت درعا، دمرت المستشفيات، استهدفت المدنيين، وأيضاً شردت أكثر من 330 ألف سوري- وهو أكبر نزوح منذ بدء الحرب السورية..
السوريون الهاربون تهافتوا إلى الحدود السورية والإسرائيلية، وكلاهما كان مغلقاً. وزير الخارجية الأردني قال في تغريدة إن الأردن “وصل إلى سعته القصوى”، مشيراً إلى تقديرات الحكومة بأن 1.3 مليون سوري موجودون بالفعل داخل البلاد، وأضاف “لا يمكننا استضافة المزيد”. في هذه الأثناء كان مئات الآلاف ينهارون على الحدود، و ينامون في الصحراء تحت سماء مفتوحة من دون ما يكفي من طعام أو مياه أو رعاية طبية. ازداد ذعرهم مع القصف الجوي المستمر والخسائر المتزايدة.
يوم الجمعة، وبعد أسابيع من التصعيد في “منطقة التهدئة”، توصلت قوات النظام السوري ومقاتلو المعارضة إلى اتفاق. المعارضون، الذين يسيطرون على معبر نسيب الحدودي منذ عام 2015، وافقوا على التخلي عنه، وتسليم بعض أسلحتهم الثقيلة، والسماح للشرطة العسكرية الروسية بالانتشار على طول الحدود الأردنية. المسلحون الذين يعارضون هذه الاتفاقية سيتم إخلاؤهم إلى مناطق تسيطر عليها المعارضة في شمال سوريا، وفقاً لشروط الصفقة، بينما ستنسحب القوات الحكومية السورية من مناطق في الجنوب، تاركة مسؤولية الأمن للشرطة العسكرية الروسية نيابة عنهم، ومن المرجح أن يسمح استيلاء النظام السوري على المعبر الحدودي بتدفق التجارة مرة أخرى، ما يعزز الاقتصاد الأردني. في غضون ساعات من إعلان الصفقة، وصلت قوات النظام السوري إلى المعبر الحدودي، وللمرة الأولى منذ أعوام، حلق العلم السوري الوطني فوق المعبر.
العالقون على الحدود السورية- الأردنية شاهدوا هذا المسلسل من قبل: خروقات لوقف إطلاق النار، مفاوضات فاشلة، نفور ديبلوماسي، تعطيل المساعدات، إغلاق الحدود، خطابة غير مجدية، ثم تتويج ذلك بانتصار آخر للحكومة السورية وحلفائها المدعومين من روسيا وإيران. مع احتفال النظام السوري تتنفس الأردن الصعداء، ويهنئ الأردنيون أنفسهم بهروبهم من أزمة لاجئين أخرى، وتوفير كمية رمزية من المساعدات والإغاثة في المنطقة الحدودية. يمكن مواطني درعا الآن تقييم الجحيم الذي نجوا منه بالكاد، والتأمل في المصير المجهول الذي ينتظر العائدين إلى الحكومة أو الحكم الروسي.
تحدثت منذ أسابيع مع امرأة سورية تبلغ من العمر 35 سنة، من بلدة نسيب الحدودية، بمساعدة شخص أردني يعمل في تنسيق تبرعات الإغاثة. في عام 2012، فرت عائلتها أولاً من الحرب في سوريا إلى الأردن، حيث كانوا يعيشون كلاجئين في مدينة إربد الشمالية. لكن الحياة هناك كانت باهظة الثمن، ولم يكن يُسمح للاجئين بالعمل في ذلك الوقت، وكانت هناك أخبار عن أن درعا، حيث بدأت الانتفاضة السورية عام 2011، كانت أكثر أماناً من بقية سوريا. لذا عام 2014 عادت إلى درعا مع أطفالها الخمسة وزوجها. وبعد أشهر، قُتل زوجها في غارة جوية. عام 2015، استولى المعارضون السوريون على معبر نسيب الحدودي، وأغلقت الحكومة الأردنية المعبر، رافضة التعامل مع سلطة غير تابعة للدولة على الحدود. عام 2016، بعد هجوم مميت بسيارة ملغومة على موقع عسكري على الحدود، أغلقت الأردن الحدود بالكامل.
أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن عدم السماح للنازحين السوريين بالدخول إلى الأراضي المحتلة
منذ يوم الثلاثاء، كانت هذه المرأة و27 شخصاً من عائلتها يختبئون في خيمة مصنوعة من الحصائر الأرضية خارج المنطقة الحرة على الحدود الأردنية، كما أخبرتني عبر الهاتف، وقالت إن أحد أبناء شقيقها قُتل في غارات جوية، وقد فر أفراد الأسرة جميعهم، إلى هنا على أمل الحماية، “نحن خائفون. الاستسلام ليس بعيداً منا. نحن خائفون مما سيحدث”. في الأيام الأخيرة، انتقلوا إلى ما هو أبعد من المنطقة الحرة لأنهم كانوا خائفين من أن تكون محاصرة، كما فعلت الحكومة السورية مع جيوب المسلحين الأخرى. أكدت المرأة “نحن نعيش في حال رعب”.
لم تتمكن القوافل التي تديرها الأمم المتحدة والوكالات الإنسانية من عبور الحدود لأنها قد تتعرض لضربات جوية. وفقاً لبيان لمنظمة Human Rights Watch، وقعت ثماني غارات جوية على المستشفيات على مدى ثمانية أيام، ما أسفر عن مقتل طبيب واحد على الأقل، وأغلقت معظم المرافق الطبية في جنوب سوريا. شاحنات المساعدات اصطفت عاجزة على الجانب الأردني وخائفة من العبور، وشجب المتحدثون الرسميون عدم إمكان وصولهم. جان إيغلاند، الأمين العام لمجلس اللاجئين النرويجي، قال في بيان: “هذه كارثة في الطريق، ولكن يمكن إيقافها في أي لحظة، ويجب وقفها”.
وتعتبر هذه الكارثة ضخمة، إذ يستخدم النازحون السوريون على طول الحدود حفراً في الأرض لقضاء حاجتهم، ويعيشون في خيم موقتة مثبتة على عِصِيّ من الخشب، إذ إن أعداد المصابين والوفيات بين الأطفال في تزايد نتيجة للسعات العقارب المنتشرة بالصحراء والجفاف وشرب المياه الملوثة.
ووفقاً للأمم المتحدة، فإن نصف عدد النازحين من الأطفال. ويتضمن بيان المجلس النرويجي للاجئين تقارير تشير إلى نساء حوامل ولدن أطفالهنّ في الصحراء.
كشف السيد صلاح ضراغمة، المسؤول في منظمة أطباء بلا حدود، خلال حديث سابق مطلع الأسبوع الجاري عن مخاوف منظمته من تفاقم أوضاع النازحين وتحدث قائلاً: “الناس تموت بالفعل نتيجة للحرب والصراع ولكن نحن في خطر زيادة أعداد الوفيات بسبب الظروف التي يمكن السيطرة عليها ووقفها مثل توصيل المياه والوقاية من حرارة الشمس”.
ويختتم ضراغمة حديثه قائلاً “عدم توفير حماية للناس وتركهم من دون مأوى يعني الجحيم”. واحتشد عدد من الأردنيين للتبرع بالأغطية والأطعمة والمياه لأولئك العالقين عند الحدود، وقال السيد عوض سرحان، البالغ 60 سنة، والذى كان يقيم في المسجد لتنظيم التبرعات في قريته الحدودية، خلال حديثه معي: “هؤلاء النازحون لا يمتلكون شيئاً، فهم أطفال ونساء ومسنون وهم بالطبع إخوة لنا”.
واستطرد الأردني المسن “جميع المساعدات التي جمعناها جاءت من طريق تبرعات الشعب الأردني”، مشدداً على أنه ليس للحكومة الأردنية دخل بهذه المساعدات.
وأكمل “بالتأكيد سوف نكون سعداء في حال فتح الحدود لهم، وسوف نقيم لهم مخيماً ولكن نحتاج إلى دعم من الخارج لفعل ذلك”.
وتحدث إلى أحد الشباب الموجودين بأعلى التل الذي يطل على الحدود “نحن أيضاً نعاني”، في إشارة إلى أزمة البطالة وسوء الأحوال الاقتصادية بالأردن.
وعلى مدار الأسبوعين الماضيين، حققت القوات السورية وحلفاؤها تقدماً واضحاً في الأراضي التي يسيطر عليها المتمردون بمدينة درعا من خلال قصف مواقع المعارضة من دون النظر إلى الخسائر في صفوف المدنيين، ومع رفض مسلحي المعارضة الاستسلام تزداد حدة الهجوم في كل عملية جديدة، في تجاهل تام لدعوات الأمم المتحدة والمنظمات المدنية المساعدة بضرورة حماية المدنيين والعاملين في مجال حقوق الإنسان.
وبعد أن رفعت الولايات المتحدة الأميركية يدها عن تسليح المعارضين في الآونة الأخيرة، أصبح المشهد واضحاً أمامهم بضعف تأثيرهم خلال أي محادثات مقبلة.
ولم تصل الحكومة السورية بعد إلى محافظة القنيطرة، إحدى المحافظات المحيطة بدرعا، إذ لا يزال حوالى 189 ألف نازح سوري من درعا عالقين هناك، على أمل إيجاد مأوى بالقرب من الحدود المشتركة مع إسرائيل على مرتفعات الجولان المحتلة.
يخطط النازحون العالقون هنا للعودة إلى بلادهم في حال استقرار الأوضاع
سبق أن أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن عدم السماح للنازحين السوريين بالدخول إلى الأراضي المحتلة، وفي موقف مشابه للأردن، وفرت اسرائيل بعض المساعدات الطبية ومواد الإغاثة للعالقين على الحدود.
يعيش الشاب محمد البالغ 35 سنة، في خيمة بمدينة القنيطرة مع عائلته منذ يوم الجمعة السابق، وهو في الأصل من مدينة طفس التابعة لمحافظة درعا، وفر محمد من درعا عام 2012 وطلب اللجوء إلى الأردن تحت حماية الأمم المتحدة التي كانت من المفترض أن تمنع عودة اللاجئين إلى الخطر المستمر في بلدانهم.
وبعد خمسة أعوام، قررت السلطات الأردنية بشكل مفاجئ طرد محمد وعائلته إلى مدينة درعا من دون توضيح الأسباب، ويتحدث محمد عن الموقف قائلاً: “أحاول النوم فقط، ففي كل مرة أستيقظ أجد كل شيء أصبح أسوأ، لذا أنا أنام لأحلم بأنني في سوريا وأتمنى ألا أستيقظ”.
ومنذ ليلة الجمعة السابقة، لم يتحرك نازح سوري من العالقين على الحدود الأردنية، وتكشف سيدة سورية من قرية نصيب تسكن الصحراء برفقة عائلتها عن المعاناة بقولها “نحن نعتمد على الله فقط”، وأضافت: “يخطط النازحون العالقون هنا للعودة إلى بلادهم في حال استقرار الأوضاع وانتهاء القتال بالفعل خلال الأيام المقبلة”.
ويتوقع المحللون أن تكون القنيطرة الهدف المقبل للحكومة السورية، ويؤكد محمد أنه لن يكون في حالة دهشة إذا قرر النازحون العودة إلى ديارهم تحت الظروف ذاتها التي تؤدي إلى قصفهم وقتلهم، ويقول: “الناس متعبون من الظروف البرية القاسية والجوع والنوم على الأرض والولادة تحت الأشجار، الناس في مرحلة لا يمكنهم فيها فعل أي شيء، لا يوجد بديل”.
المقال مترجم عن موقع the atlantic ولقراءة المقال الاصلي زوروا الرابط التالي