fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

لا جدوى أن تكون آمناً في لبنان

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يحضر الموت بأشكال مُربِكة في أزمنة الحرب، لكنْ هناك نوع معين من الموت يعيدنا إلى جوهر إنسانيتنا، بكل هشاشتها وتواضعها، هذا الأسبوع، وأمام خسارة شخصية، أصبحت أطياف الموت كلها ملكي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“أنا بخير”، هكذا أُجيب من يسألني عن حالي، خصوصاً حين يصبح الخوف أو الاكتئاب ترفاً لا يمكن تحمّله. لذا عليك أن تكون بخير، وبطريقة ما،  ينجح الأمر. 

أمزح بشأن أمان شقتي، في حيي الودود الذي يحظى بحراسة مشدّدة، ويحميه زعيم حرب سابق من اختياري! فريق العمل حولي بأمان، مدرسة بناتي انتقلت إلى مكان آخر. يعيش والداي بعيداً عن التهديدات. غادر أبناء إخوتي وأصدقائي وأحبائي البلاد أو انتقلوا إلى السواحل والجبال المحميّة.

قدرتي على التمييز بين دوي الانفجار الصوتي وصوت الطائرة المقاتلة أمر مقلق، ولكنها تمنحني نوعاً من الراحة الغريبة، تتعكر باستمرار إثر طنين الطائرات من دون طيار التي تحلّق فوق رأسي ليل نهار.

أعلم  الآن أنه في أوقات الحرب، تصبح الأصوات صداعاً، ويتحول الصداع إلى هوس غريب بإصلاح مقبض الباب، أو تغيير ستارة الحمام.

عالمي الخاص آمن، أعلم أنه لا يزال هناك خطر من الوجود في الطريق الخاطئ في اللحظة الخاطئة، ولكن هذا شيء يمكنني تجاهله.

الموت شيء يُذكِّرني بنفسه كل دقيقة من اليوم، لكنه ليس “ملكي” لأتعامل معه. الموت الآن تعبير أراه على وجوه الرجال والنساء والأطفال الذين نجوا منه، أولئك الذي جعلوا من  صفوف المدارس الأربع في حيي بيوتاً لهم.

أسمع أصوات الانفجارات من بعيد، وأتساءل عن عدد القتلى في منازلهم في الضواحي الجنوبية، التي لا تبعد كثيراً عن منزلي.

أمام هذا النوع من الموت، الذي يتصدّر العناوين حتى يتلاشى، أُبحر في طوفان المشاعر المتباينة بحذر قدر المستطاع، أضبط الموت بـ”الأرقام” لأحافظ على سلامتي العقلية.

أحاول ألا أفكر كثيراً في الوجوه والأسماء و قصص الناس الممكنة، عندما أسمع عن استهداف حي في الضاحية الجنوبية، أقول لنفسي يجب أن يكون الجميع قد غادروا، وهي مجرد مبانٍ تُقصف. أحاول ألا أفكر في الأشياء غير المهمة التي يمكن أن يمحوها صاروخ في ثوانٍ. القصص، الذكريات، الصور، لعبة طفل، أو كرسي مفضل لشخص مسن… الأمتعة التي ليست لها فرصة للنجاة أمام الموت، والندم الذي أعلم أنه سيأتي بعد ذلك.

أحياناً أجد نفسي ألوم أولئك الذين بقوا، على فشلهم في حماية أنفسهم وأحبائهم. ألوم “حزب الله” على جرّنا إلى حرب لم نكن نريدها، ثم أذكّر نفسي، بغض النظر عن أن ما فعله “حزب الله” لا يرحم، وبغض النظر عن مدى خبث إيران ورغبتها في القتال حتى آخر قطرة من دماء اللبنانيين، فإن إسرائيل هي التي تقوم بالقتل.

أضحك من سذاجة الذين يهتفون لإسرائيل كما لو أن التاريخ لم يكن. كما لو أن الخلاص يمكن أن يتبع مذبحة. كما لو لم نشهد كل ذلك من قبل.

كيف بإمكان هزيمة إسرائيل لـ”حزب الله” أن تكون نصراً للبنان، فكرة أجد صعوبة في قبولها.

ليس فقط لأسباب أخلاقية أو حتى وطنية، بل لأسباب منطقية وتاريخية. هزمت إسرائيل “منظمة التحرير الفلسطينية” في 1982، وبعد عام وُلِد “حزب الله”. اغتالت إسرائيل مؤسسي “حزب الله”، وتولى آخرون أكثر تطرفاً. كل من يعرف شيئاً ما عن تاريخ لبنان يعرف أنه من الجنون أن نعتقد أن حلاً سياسياً يفرضه انتصار عسكري إسرائيلي في لبنان، يمكن أن يؤدي إلى نهاية سعيدة وإعادة بناء لبنان الذي نحلم به، ونناضل من أجله.

يمكن الدفاع عن مثل هذه النظرية، إن افترضنا أن “حزب الله” هو المشكلة الوحيدة، وأن إيران هي الدولة الوحيدة التي تستخدم لبنان في حروبها بالوكالة. لكن الحقيقة الأولى لا تنفي الثانية، الأمر أبعد من هاتين القوتين. فكون إيران دولة هيمنة لا يمحو حقيقة أن إسرائيل أيضاً دولة احتلال لأكثر من عقدين. والسيطرة الحالية لإيران لا تنفي اعتداءات إسرائيل وحروبها السابقة أو تهديداتها المستقبلية.

في بلدي، “حزب الله” هو خصمي، لكن لا يعني أني أتمنى هزيمته على يد إسرائيل. عدو عدوي ليس بصديقي! عدو عدوي قتل أكثر من 43 ألف شخص في غزة وأكثر من 2500 من مواطنيّ.

أختزلُ الموت إلى أرقام لأحافظ على سلامتي العقلية، ولكن للحفاظ على إنسانيتي عليّ أن أذكّر نفسي بما تقوله هذه الأرقام حقاً، مع محاولتي استيعاب الأعداد المتزايدة، يتحول الموت إلى معضلة لا نهاية لها والى أفكار أتداولها في ذهني.

أُبقي على مسافة، وأحوّل الأمر إلى مسألة سياسية تحتاج إلى معالجة. ليس هذا وقت الانفعال الزائد. لن يفيد أحداً على أي حال. لا أعرف كيف ومتى حدث ذلك، لكنني أعلم أنني أجد نفسي الآن أتبنى نهجاً براغماتياً في مواجهة الواقع مع إنكار كامل لمدى قرب الموت حقاً.

لا يعني ذلك أنني لا أشعر بالذنب بشأنه. لكن الذنب أيضاً، شيء تتعلم كيف تتعايش معه. إذا لم تتمكن من هزيمته، عش معه. إذا لم تستطع التحكم فيه، تجاهله.

آلية دفاعية ذاتية في مواجهة العجز التام؟ ربما. يبدو أنها تعمل، وحين يصبح الموت شخصياً، تتوقف عن العمل.

“أنا بخير”، هكذا أُجيب من يسألني عن حالي، خصوصاً حين يصبح الخوف أو الاكتئاب ترفاً لا يمكن تحمّله. لذا عليك أن تكون بخير، وبطريقة ما،  ينجح الأمر.

الموت شأن شخصي 

إنه يوم السبت. أقود سيارتي لمقابلة أصدقائي في “بول”، بعدما تحوّل “سوق الطيب”، حيث اعتدنا اللقاء، إلى مطبخ لإعداد الطعام للنازحين.

اتصلت بي على الطريق صديقتي زينة، لم أقلق كثيراً ؛ لكن من غير المعتاد أن تتصل في هذا الوقت، فعادةً تكون مشغولة. لم أفكر كثيراً في الأمر، إذ كنت أرغب في أن أُخبرها عن عشاء الليلة الماضية الممتع مع الأصدقاء، واحد من هذه اللقاءات التي تبعث فينا الأمل بمستقبل هذا البلد والعزيمة للدفاع عنه.

كان العشاء مساء الجمعة، وفي حديقة جميلة في منطقة المتن المطلة على بحر من الأضواء، كان باستطاعتنا أن نرى الضاحية تُقصف. ثماني غارات ومصير المكان غير معروف. 

في الداخل، تجمّعنا حول طاولة واسعة بما يكفي لتضم أحفاداً وأبناء لأحفاد من مثّلوا يوماً كل تناقضات هذا البلد: مشايخ مارونيون، وسادة شيعة، شيوعيون سابقون، طيف كامل من البرجوازيين، وحتى لاجئين. قد أكون جزءاً منهم، إذ إن جدتي كانت لاجئة شركسية من القوقاز، أحبت لبنان لكنها لم تتوقف عن الحديث عن موطنها الأصلي.

“بابا”، هكذا قالت زينة وهي تبكي. فهمت أن صديقتي فقدت والدها.

ما زلت مذهولة من السرعة التي انتقلت بها من “آسفة لخسارتك” إلى “دعينا نجد طريقة لإحضارك إلى هنا”.

عرفت أنه سواء كان هناك حرب أم لا، لم تكن هناك طريقة لأقنعها بعدم المجيء. بالنسبة الى المرضى الميؤوس من شفائهم وعائلاتهم وأحبائهم، بخاصة أولئك الذين يعيشون في الخارج، كان التوقيت غير المناسب للموت أكبر مخاوفهم. ماذا لو كانت القنابل أثقل؟ ماذا لو لم يتمكنوا من توديع أحبائهم؟ 

نحن الذين نعيش في البلد، فقد نكون أقرب إلى الخطر الجسدي، لكن أولئك الذين يشاهدون تدمير بلدهم من بعيد لا يقلّون عنا في مشاعرهم أو صدماتهم.

أعرف أن ركوب طائرة إلى بيروت هذه الأيام ليس بالشيء السهل، فقط طيران الشرق الأوسط يعمل ضمن مسارات محددة، وكل تفصيل صغير يمكن أن يتحوّل إلى كابوس. 

الرحلة الوحيدة المتاحة اليوم موعدها الساعة العاشرة مساءً، في الوقت نفسه تقريباً الذي تشتد فيه الغارات. طريق المطار آمن نسبياً، لكن لدينا الآن قاعدة لتقليل المخاطر وتجنّب الرحلات “غير الضرورية”، لذا نستدعي جورج، مستشار الأمن وسائقنا لرحلات المطار.

نحن الذين نعيش في بيروت، تكيّفنا تقريباً مع متاهة الموت هذه. بغض النظر عن مدى ديستوبية الأجواء في المطار هذه الأيام، يمكننا دائماً التركيز على الجانب المشرق: عبور أمن المطار والجمارك يتم بشكل أسرع والجميع يُظهرون قدراً من اللطف.

الأمر مذهل، لو نستطيع أن نكون لطيفين مع بعضنا بعضاً في أوقات السلام أيضاً. في أوقات الحرب، يبدو أننا نصبح أكثر تعاطفاً وأقل استعجالاً، حتى أننا نصطف في طوابير.

الرحلة إلى صيدا ليلاً ليست واردة. صديقتي أتت من بلد آخر، وخاطرَت بالصعود إلى طائرة قد تهبط ليس بعيداً عن الصواريخ التي “تصيب أهدافاً دقيقة” مرئية من المطار، لكنها في مدينة أخرى، حيث يجب أن تمضي الليلة الأخيرة مع والدها.

عاد الموت ليصبح ما هو عليه،

الشعور بالخسارة حقيقي، إنه شخصي، مؤلم.

لكن بطريقة ما، يجلب العزاء.

في لبنان، كما في معظم البلدان العربية، للموت طقوسه، طقوس نقول إننا نكرهها، حتى نُحرم منها، عندها ندرك أننا عميقاً في الداخل نعتز بتلك الطقوس، ليس بما يكفي للاحتفاظ بها فقط، بل لنشعر بفقدان كبير عندما لا نكون جزءاً منها.

الكثير من تلك الطقوس مزعج، بخاصة عندما نكون أصغر سناً، لكنها تجعل تعاملنا مع الموت أقل حدة، ربما بسبب الضجيج الذي تصنعه حوله.

بالنسبة إلى زينة، كان عدم تمكّن شقيقها من حضور الجنازة بسبب عدم وجود طائرات إلى لبنان مؤلماً. حاولنا مواساتها. على الأقل هي تمكّنت من الحضور. على الأقل أُقيمت جنازة، صغيرة وحميمية، ودافئة بما يكفي لإغلاق فصل في حياة عائلتها.

أمام موت خاص، تجاوزت حذري. في اليوم الذي كنت فيه في حداد على وفاة والد صديقتي، أردت أيضاً أن أحزن على موت أولئك الأبرياء الذين لا أعرفهم، والذين قتلتهم إسرائيل.

جلست على شرفة منزل زينة، أنظر إلى المدينة وأتساءل كم ستكون آمنة وإلى متى. صيدا بعيدة عن الحدود، لكننا في الجنوب.

جاءت الإجابة أسرع مما كنت أعتقد.

كنا في الطريق إلى المقبرة، ولم يكن قد مر أكثر من دقيقتين على مغادرتنا المنزل عندما هزّ انفجار ضخم السيارة. لم يكن ذلك صوت اختراق جدار الصوت، وشعرت بيد زينة تضغط على يدي، في الخلف، ديانا وريم تحاولان تحديد مكان الصوت.

دخلت في منعطف، وبين المباني رأينا الدخان الكثيف من المنطقة التي غادرناها للتو. توقّف ابن عم زينة الذي كان يقود السيارة أمامنا وجاء ليعلن أن حياً في حارة صيدا قد استُهدف، وأن جميع أفراد العائلة الذين بقوا في الشقة آمنون.

في الساعة التالية، في المقبرة، أخذت لوحة الحياة والموت بُعداً سريالياً جديداً.

المركز الديني الملحق بالمقبرة يستضيف عائلات نازحة، وبين القبور يلعب أطفال صغار ويحكون قصصاً عن كيفية مغادرتهم منازلهم، يتسابقون حول من كان منزله أكثر تضرراً ومن كان أقرب إلى الموت قبل أن يهرب.

على مقربة، بعض النساء يشربن القهوة وأخريات ينظفن الأرضيات والجدران لما أصبح منازلهن المؤقتة.

الطائرة المسيّرة تحلق فوق رؤوسنا، تذكّرنا بأنه مهما حاولنا تجاهلها، فالحرب هنا، وبالطريقة نفسها التي لا تهتم بالضحايا الذين تعتبرهم “أضراراً جانبية”، لم تكن لتتوقف احتراماً لموت طبيعي، حتى تتمكن صديقتي من قول وداعها بسلام.

كنا أمام مزيج غريب من الحزن والتحدي.

حرب أم لا، كنا هناك. دفنت صديقتي والدها، بجانب شقيقه المحبوب، في مقبرة جميلة ملأى بأشجار التين والغار، تُطل على بحر أكتوبر الأزرق.

اليوم هناك صلوات وغداً أيضاً، وكلما أمكنها من الآن فصاعداً، ستأتي زينة وستعزف لوالدها أغنيته المفضلة: “من غير ليه” لعبد الوهاب.

حرب أم لا. ندفن أجزاءً من أنفسنا في هذه الأرض التي تخصنا، وبغض النظر عن بُعدنا، ستبقى تجذبنا للعودة.

أثناء عودتنا إلى المنزل، بدأت الأخبار تتدفق. كان الهدف من القصف عنصراً في “حزب الله”. إنها لعبة الأرقام مجدداً. قتيلان، ثم أربعة، ثم ثمانية، وبحلول الوقت الذي غادرنا فيه، كانت الحصيلة النهائية 29 قتيلاً، بينهم طفلة رضيعة تبلغ تسعة أشهر.

رجل في “حزب الله” لم يسمع به أحد، أو هكذا ظننا. الرجل، المسؤول في حزب الله بحسب إسرائيل، كانت لديه أخت تعرفها كل صيدا. سعاد، الممرضة التي كانت تقدم المساعدة للعائلات في رعاية مرضاهم، والتي فقدت في ذلك اليوم تسعة من أفراد عائلتها، بينهم الطفلة الرضيعة، وفقدت أيضاً ما تبقى من إحساسها بالأمان.

موت ثانٍ للموتى

نغادر صيدا قبل حلول الليل. في السيارة، تشغّل ديانا أغنية “الأفضل لم يأت بعد” لفرانك سيناترا. أقول ضاحكةً “آمل ذلك”، مع استمرار تدفّق الأخبار. تتلقى ديانا مكالمة من جمانة، التي تخبرها أن منزل عائلتها قد قُصف. 

والد جمانة، الرسام المعروف عبد الحميد بعلبكي، بنى المنزل على مر السنين، وفي داخله نشأ الإخوة في هذه الأسرة الفنية ليصبحوا ما هم عليه اليوم.

ما جرح جمانة أكثر هو معرفتها أن قبرَي والديها المدفونين في حديقة منزلهم، قد تضرّرا. شاهدت اللقطات في فيديو من عديسة وتعرفت على المنزل والمقبرة، ولا يمكنهم الذهاب لرؤية ما حدث.

تشعر وكأنه موت ثانٍ، يتطلب جنازة ثانية ودفناً ثانياً، أستمع إلى الأغنية وأفكر في ديانا أيضاً.

منزل ديانا في تبنين والمقبرة المجاورة حيث دُفن والدها قد استُهدفا، ومثل جمانة  عليها الانتظار  حتى تنتهي الحرب قبل أن تتمكّن من زيارة منزل طفولتها وقبور أحبائها.

لا داعي لأن تقول ذلك، لكنني أعلم أنه بغض النظر عن مدى الألم الذي قد تجده، فإنها ستعيد بناءه. ستضع زهرة على قبر والدها وتهمس بكلمات العزاء.

موت الأماكن والأشياء

الحرب هي الحرب، ولكن حتى الحرب لها قواعد، وما تدمرّه إسرائيل يتجاوز “حزب الله” وبنيته التحتية العسكرية.

 نية العقاب الجماعي واضحة ولا يوجد دليل يمكن أن يبرر هذا المستوى من الوحشية العشوائية.

مثل كثيرين غيره، كان علي مراد مضطراً إلى مشاهدة تدمير منزل عائلته على الهواء مباشرة.

يُعرف علي، وهو ابن عائلة شيوعية وأستاذ في العلوم السياسية، بمعارضته لـ”حزب الله” وباعتباره واحداً من الشخصيات الشيعية الرئيسية التي خاضت الانتخابات ضد الحزب بتحدّ خالص، مع العلم أنه لم يكن يمتلك أي فرصة للفوز في منطقته. لا شيء من هذا يهم. لم يُصب منزل علي بصاروخ. كان  منزله واحداً من فيلات كثيرة تم تفجيرها عن بُعد بعد تفخيخها.

دمر الجيش الإسرائيلي هذه البيوت وهو يعرف جيداً ألا علاقة لها بـ”حزب الله” أو قواعده العسكرية.

صور مستهدفة، والبلدة القديمة فيها، مثل البلدة القديمة في النبطية، يتم محو أجزاء من ذاكرتنا وتاريخنا وثقافتنا معها. العيون تتجه نحو بعلبك، إحدى أقدم مدن العالم، ومعبدها الذي يتعرض للتهديد. من حولي، الأصدقاء آمنون ولكنهم يواجهون خسائر لا يمكن تصوّرها.

النكات التي يطلقها حازم حول شقرا، التي يصفها دائماً بأنها “أجمل من برلين”، حلّت محلها الآن صور الدمار وما تبقى من بلدته، محاولاته إلقاء النكات لا يمكنها إخفاء الألم العميق والغضب.

منذ أكثر من عام بقليل، كانت إسرائيل تنتقم من الهجوم الذي نفذته “حماس” في السابع من أكتوبر. الإبادة الجماعية في غزة وتدمير لبنان يؤكدان تفوقها العسكري ويضعان حداً لأسطورة جيشها الأخلاقي. ولكن هل جعلت حياة أي إسرائيلي أكثر أماناً؟

الإجابة البسيطة، لا، فقط الحل العادل للشعب الفلسطيني هو الذي سيضع حداً لدورات العنف. حتى ذلك الحين، سيكون هناك المزيد من ظلال الموت، وأكبر قدر ممكن من الأمل وأكبر قدر ممكن من الحب.

محمد أبو شحمة- صحفي فلسطيني | 17.06.2025

من العمولة إلى العجز: المواطن الغزّي ضحيّة التضخّم وغياب الحلول

ينشط عدد من تجار العمولة في قطاع غزة عبر حسابات وهمية على مواقع التواصل الاجتماعي، في الترويج لخدمات مالية توفر سيولة نقدية مقابل استخدام التطبيقات البنكية، مع فرض نسب عمولة مرتفعة وصلت خلال الحرب إلى 30 في المئة من قيمة المبلغ المطلوب.

يحضر الموت بأشكال مُربِكة في أزمنة الحرب، لكنْ هناك نوع معين من الموت يعيدنا إلى جوهر إنسانيتنا، بكل هشاشتها وتواضعها، هذا الأسبوع، وأمام خسارة شخصية، أصبحت أطياف الموت كلها ملكي.

“أنا بخير”، هكذا أُجيب من يسألني عن حالي، خصوصاً حين يصبح الخوف أو الاكتئاب ترفاً لا يمكن تحمّله. لذا عليك أن تكون بخير، وبطريقة ما،  ينجح الأمر. 

أمزح بشأن أمان شقتي، في حيي الودود الذي يحظى بحراسة مشدّدة، ويحميه زعيم حرب سابق من اختياري! فريق العمل حولي بأمان، مدرسة بناتي انتقلت إلى مكان آخر. يعيش والداي بعيداً عن التهديدات. غادر أبناء إخوتي وأصدقائي وأحبائي البلاد أو انتقلوا إلى السواحل والجبال المحميّة.

قدرتي على التمييز بين دوي الانفجار الصوتي وصوت الطائرة المقاتلة أمر مقلق، ولكنها تمنحني نوعاً من الراحة الغريبة، تتعكر باستمرار إثر طنين الطائرات من دون طيار التي تحلّق فوق رأسي ليل نهار.

أعلم  الآن أنه في أوقات الحرب، تصبح الأصوات صداعاً، ويتحول الصداع إلى هوس غريب بإصلاح مقبض الباب، أو تغيير ستارة الحمام.

عالمي الخاص آمن، أعلم أنه لا يزال هناك خطر من الوجود في الطريق الخاطئ في اللحظة الخاطئة، ولكن هذا شيء يمكنني تجاهله.

الموت شيء يُذكِّرني بنفسه كل دقيقة من اليوم، لكنه ليس “ملكي” لأتعامل معه. الموت الآن تعبير أراه على وجوه الرجال والنساء والأطفال الذين نجوا منه، أولئك الذي جعلوا من  صفوف المدارس الأربع في حيي بيوتاً لهم.

أسمع أصوات الانفجارات من بعيد، وأتساءل عن عدد القتلى في منازلهم في الضواحي الجنوبية، التي لا تبعد كثيراً عن منزلي.

أمام هذا النوع من الموت، الذي يتصدّر العناوين حتى يتلاشى، أُبحر في طوفان المشاعر المتباينة بحذر قدر المستطاع، أضبط الموت بـ”الأرقام” لأحافظ على سلامتي العقلية.

أحاول ألا أفكر كثيراً في الوجوه والأسماء و قصص الناس الممكنة، عندما أسمع عن استهداف حي في الضاحية الجنوبية، أقول لنفسي يجب أن يكون الجميع قد غادروا، وهي مجرد مبانٍ تُقصف. أحاول ألا أفكر في الأشياء غير المهمة التي يمكن أن يمحوها صاروخ في ثوانٍ. القصص، الذكريات، الصور، لعبة طفل، أو كرسي مفضل لشخص مسن… الأمتعة التي ليست لها فرصة للنجاة أمام الموت، والندم الذي أعلم أنه سيأتي بعد ذلك.

أحياناً أجد نفسي ألوم أولئك الذين بقوا، على فشلهم في حماية أنفسهم وأحبائهم. ألوم “حزب الله” على جرّنا إلى حرب لم نكن نريدها، ثم أذكّر نفسي، بغض النظر عن أن ما فعله “حزب الله” لا يرحم، وبغض النظر عن مدى خبث إيران ورغبتها في القتال حتى آخر قطرة من دماء اللبنانيين، فإن إسرائيل هي التي تقوم بالقتل.

أضحك من سذاجة الذين يهتفون لإسرائيل كما لو أن التاريخ لم يكن. كما لو أن الخلاص يمكن أن يتبع مذبحة. كما لو لم نشهد كل ذلك من قبل.

كيف بإمكان هزيمة إسرائيل لـ”حزب الله” أن تكون نصراً للبنان، فكرة أجد صعوبة في قبولها.

ليس فقط لأسباب أخلاقية أو حتى وطنية، بل لأسباب منطقية وتاريخية. هزمت إسرائيل “منظمة التحرير الفلسطينية” في 1982، وبعد عام وُلِد “حزب الله”. اغتالت إسرائيل مؤسسي “حزب الله”، وتولى آخرون أكثر تطرفاً. كل من يعرف شيئاً ما عن تاريخ لبنان يعرف أنه من الجنون أن نعتقد أن حلاً سياسياً يفرضه انتصار عسكري إسرائيلي في لبنان، يمكن أن يؤدي إلى نهاية سعيدة وإعادة بناء لبنان الذي نحلم به، ونناضل من أجله.

يمكن الدفاع عن مثل هذه النظرية، إن افترضنا أن “حزب الله” هو المشكلة الوحيدة، وأن إيران هي الدولة الوحيدة التي تستخدم لبنان في حروبها بالوكالة. لكن الحقيقة الأولى لا تنفي الثانية، الأمر أبعد من هاتين القوتين. فكون إيران دولة هيمنة لا يمحو حقيقة أن إسرائيل أيضاً دولة احتلال لأكثر من عقدين. والسيطرة الحالية لإيران لا تنفي اعتداءات إسرائيل وحروبها السابقة أو تهديداتها المستقبلية.

في بلدي، “حزب الله” هو خصمي، لكن لا يعني أني أتمنى هزيمته على يد إسرائيل. عدو عدوي ليس بصديقي! عدو عدوي قتل أكثر من 43 ألف شخص في غزة وأكثر من 2500 من مواطنيّ.

أختزلُ الموت إلى أرقام لأحافظ على سلامتي العقلية، ولكن للحفاظ على إنسانيتي عليّ أن أذكّر نفسي بما تقوله هذه الأرقام حقاً، مع محاولتي استيعاب الأعداد المتزايدة، يتحول الموت إلى معضلة لا نهاية لها والى أفكار أتداولها في ذهني.

أُبقي على مسافة، وأحوّل الأمر إلى مسألة سياسية تحتاج إلى معالجة. ليس هذا وقت الانفعال الزائد. لن يفيد أحداً على أي حال. لا أعرف كيف ومتى حدث ذلك، لكنني أعلم أنني أجد نفسي الآن أتبنى نهجاً براغماتياً في مواجهة الواقع مع إنكار كامل لمدى قرب الموت حقاً.

لا يعني ذلك أنني لا أشعر بالذنب بشأنه. لكن الذنب أيضاً، شيء تتعلم كيف تتعايش معه. إذا لم تتمكن من هزيمته، عش معه. إذا لم تستطع التحكم فيه، تجاهله.

آلية دفاعية ذاتية في مواجهة العجز التام؟ ربما. يبدو أنها تعمل، وحين يصبح الموت شخصياً، تتوقف عن العمل.

“أنا بخير”، هكذا أُجيب من يسألني عن حالي، خصوصاً حين يصبح الخوف أو الاكتئاب ترفاً لا يمكن تحمّله. لذا عليك أن تكون بخير، وبطريقة ما،  ينجح الأمر.

الموت شأن شخصي 

إنه يوم السبت. أقود سيارتي لمقابلة أصدقائي في “بول”، بعدما تحوّل “سوق الطيب”، حيث اعتدنا اللقاء، إلى مطبخ لإعداد الطعام للنازحين.

اتصلت بي على الطريق صديقتي زينة، لم أقلق كثيراً ؛ لكن من غير المعتاد أن تتصل في هذا الوقت، فعادةً تكون مشغولة. لم أفكر كثيراً في الأمر، إذ كنت أرغب في أن أُخبرها عن عشاء الليلة الماضية الممتع مع الأصدقاء، واحد من هذه اللقاءات التي تبعث فينا الأمل بمستقبل هذا البلد والعزيمة للدفاع عنه.

كان العشاء مساء الجمعة، وفي حديقة جميلة في منطقة المتن المطلة على بحر من الأضواء، كان باستطاعتنا أن نرى الضاحية تُقصف. ثماني غارات ومصير المكان غير معروف. 

في الداخل، تجمّعنا حول طاولة واسعة بما يكفي لتضم أحفاداً وأبناء لأحفاد من مثّلوا يوماً كل تناقضات هذا البلد: مشايخ مارونيون، وسادة شيعة، شيوعيون سابقون، طيف كامل من البرجوازيين، وحتى لاجئين. قد أكون جزءاً منهم، إذ إن جدتي كانت لاجئة شركسية من القوقاز، أحبت لبنان لكنها لم تتوقف عن الحديث عن موطنها الأصلي.

“بابا”، هكذا قالت زينة وهي تبكي. فهمت أن صديقتي فقدت والدها.

ما زلت مذهولة من السرعة التي انتقلت بها من “آسفة لخسارتك” إلى “دعينا نجد طريقة لإحضارك إلى هنا”.

عرفت أنه سواء كان هناك حرب أم لا، لم تكن هناك طريقة لأقنعها بعدم المجيء. بالنسبة الى المرضى الميؤوس من شفائهم وعائلاتهم وأحبائهم، بخاصة أولئك الذين يعيشون في الخارج، كان التوقيت غير المناسب للموت أكبر مخاوفهم. ماذا لو كانت القنابل أثقل؟ ماذا لو لم يتمكنوا من توديع أحبائهم؟ 

نحن الذين نعيش في البلد، فقد نكون أقرب إلى الخطر الجسدي، لكن أولئك الذين يشاهدون تدمير بلدهم من بعيد لا يقلّون عنا في مشاعرهم أو صدماتهم.

أعرف أن ركوب طائرة إلى بيروت هذه الأيام ليس بالشيء السهل، فقط طيران الشرق الأوسط يعمل ضمن مسارات محددة، وكل تفصيل صغير يمكن أن يتحوّل إلى كابوس. 

الرحلة الوحيدة المتاحة اليوم موعدها الساعة العاشرة مساءً، في الوقت نفسه تقريباً الذي تشتد فيه الغارات. طريق المطار آمن نسبياً، لكن لدينا الآن قاعدة لتقليل المخاطر وتجنّب الرحلات “غير الضرورية”، لذا نستدعي جورج، مستشار الأمن وسائقنا لرحلات المطار.

نحن الذين نعيش في بيروت، تكيّفنا تقريباً مع متاهة الموت هذه. بغض النظر عن مدى ديستوبية الأجواء في المطار هذه الأيام، يمكننا دائماً التركيز على الجانب المشرق: عبور أمن المطار والجمارك يتم بشكل أسرع والجميع يُظهرون قدراً من اللطف.

الأمر مذهل، لو نستطيع أن نكون لطيفين مع بعضنا بعضاً في أوقات السلام أيضاً. في أوقات الحرب، يبدو أننا نصبح أكثر تعاطفاً وأقل استعجالاً، حتى أننا نصطف في طوابير.

الرحلة إلى صيدا ليلاً ليست واردة. صديقتي أتت من بلد آخر، وخاطرَت بالصعود إلى طائرة قد تهبط ليس بعيداً عن الصواريخ التي “تصيب أهدافاً دقيقة” مرئية من المطار، لكنها في مدينة أخرى، حيث يجب أن تمضي الليلة الأخيرة مع والدها.

عاد الموت ليصبح ما هو عليه،

الشعور بالخسارة حقيقي، إنه شخصي، مؤلم.

لكن بطريقة ما، يجلب العزاء.

في لبنان، كما في معظم البلدان العربية، للموت طقوسه، طقوس نقول إننا نكرهها، حتى نُحرم منها، عندها ندرك أننا عميقاً في الداخل نعتز بتلك الطقوس، ليس بما يكفي للاحتفاظ بها فقط، بل لنشعر بفقدان كبير عندما لا نكون جزءاً منها.

الكثير من تلك الطقوس مزعج، بخاصة عندما نكون أصغر سناً، لكنها تجعل تعاملنا مع الموت أقل حدة، ربما بسبب الضجيج الذي تصنعه حوله.

بالنسبة إلى زينة، كان عدم تمكّن شقيقها من حضور الجنازة بسبب عدم وجود طائرات إلى لبنان مؤلماً. حاولنا مواساتها. على الأقل هي تمكّنت من الحضور. على الأقل أُقيمت جنازة، صغيرة وحميمية، ودافئة بما يكفي لإغلاق فصل في حياة عائلتها.

أمام موت خاص، تجاوزت حذري. في اليوم الذي كنت فيه في حداد على وفاة والد صديقتي، أردت أيضاً أن أحزن على موت أولئك الأبرياء الذين لا أعرفهم، والذين قتلتهم إسرائيل.

جلست على شرفة منزل زينة، أنظر إلى المدينة وأتساءل كم ستكون آمنة وإلى متى. صيدا بعيدة عن الحدود، لكننا في الجنوب.

جاءت الإجابة أسرع مما كنت أعتقد.

كنا في الطريق إلى المقبرة، ولم يكن قد مر أكثر من دقيقتين على مغادرتنا المنزل عندما هزّ انفجار ضخم السيارة. لم يكن ذلك صوت اختراق جدار الصوت، وشعرت بيد زينة تضغط على يدي، في الخلف، ديانا وريم تحاولان تحديد مكان الصوت.

دخلت في منعطف، وبين المباني رأينا الدخان الكثيف من المنطقة التي غادرناها للتو. توقّف ابن عم زينة الذي كان يقود السيارة أمامنا وجاء ليعلن أن حياً في حارة صيدا قد استُهدف، وأن جميع أفراد العائلة الذين بقوا في الشقة آمنون.

في الساعة التالية، في المقبرة، أخذت لوحة الحياة والموت بُعداً سريالياً جديداً.

المركز الديني الملحق بالمقبرة يستضيف عائلات نازحة، وبين القبور يلعب أطفال صغار ويحكون قصصاً عن كيفية مغادرتهم منازلهم، يتسابقون حول من كان منزله أكثر تضرراً ومن كان أقرب إلى الموت قبل أن يهرب.

على مقربة، بعض النساء يشربن القهوة وأخريات ينظفن الأرضيات والجدران لما أصبح منازلهن المؤقتة.

الطائرة المسيّرة تحلق فوق رؤوسنا، تذكّرنا بأنه مهما حاولنا تجاهلها، فالحرب هنا، وبالطريقة نفسها التي لا تهتم بالضحايا الذين تعتبرهم “أضراراً جانبية”، لم تكن لتتوقف احتراماً لموت طبيعي، حتى تتمكن صديقتي من قول وداعها بسلام.

كنا أمام مزيج غريب من الحزن والتحدي.

حرب أم لا، كنا هناك. دفنت صديقتي والدها، بجانب شقيقه المحبوب، في مقبرة جميلة ملأى بأشجار التين والغار، تُطل على بحر أكتوبر الأزرق.

اليوم هناك صلوات وغداً أيضاً، وكلما أمكنها من الآن فصاعداً، ستأتي زينة وستعزف لوالدها أغنيته المفضلة: “من غير ليه” لعبد الوهاب.

حرب أم لا. ندفن أجزاءً من أنفسنا في هذه الأرض التي تخصنا، وبغض النظر عن بُعدنا، ستبقى تجذبنا للعودة.

أثناء عودتنا إلى المنزل، بدأت الأخبار تتدفق. كان الهدف من القصف عنصراً في “حزب الله”. إنها لعبة الأرقام مجدداً. قتيلان، ثم أربعة، ثم ثمانية، وبحلول الوقت الذي غادرنا فيه، كانت الحصيلة النهائية 29 قتيلاً، بينهم طفلة رضيعة تبلغ تسعة أشهر.

رجل في “حزب الله” لم يسمع به أحد، أو هكذا ظننا. الرجل، المسؤول في حزب الله بحسب إسرائيل، كانت لديه أخت تعرفها كل صيدا. سعاد، الممرضة التي كانت تقدم المساعدة للعائلات في رعاية مرضاهم، والتي فقدت في ذلك اليوم تسعة من أفراد عائلتها، بينهم الطفلة الرضيعة، وفقدت أيضاً ما تبقى من إحساسها بالأمان.

موت ثانٍ للموتى

نغادر صيدا قبل حلول الليل. في السيارة، تشغّل ديانا أغنية “الأفضل لم يأت بعد” لفرانك سيناترا. أقول ضاحكةً “آمل ذلك”، مع استمرار تدفّق الأخبار. تتلقى ديانا مكالمة من جمانة، التي تخبرها أن منزل عائلتها قد قُصف. 

والد جمانة، الرسام المعروف عبد الحميد بعلبكي، بنى المنزل على مر السنين، وفي داخله نشأ الإخوة في هذه الأسرة الفنية ليصبحوا ما هم عليه اليوم.

ما جرح جمانة أكثر هو معرفتها أن قبرَي والديها المدفونين في حديقة منزلهم، قد تضرّرا. شاهدت اللقطات في فيديو من عديسة وتعرفت على المنزل والمقبرة، ولا يمكنهم الذهاب لرؤية ما حدث.

تشعر وكأنه موت ثانٍ، يتطلب جنازة ثانية ودفناً ثانياً، أستمع إلى الأغنية وأفكر في ديانا أيضاً.

منزل ديانا في تبنين والمقبرة المجاورة حيث دُفن والدها قد استُهدفا، ومثل جمانة  عليها الانتظار  حتى تنتهي الحرب قبل أن تتمكّن من زيارة منزل طفولتها وقبور أحبائها.

لا داعي لأن تقول ذلك، لكنني أعلم أنه بغض النظر عن مدى الألم الذي قد تجده، فإنها ستعيد بناءه. ستضع زهرة على قبر والدها وتهمس بكلمات العزاء.

موت الأماكن والأشياء

الحرب هي الحرب، ولكن حتى الحرب لها قواعد، وما تدمرّه إسرائيل يتجاوز “حزب الله” وبنيته التحتية العسكرية.

 نية العقاب الجماعي واضحة ولا يوجد دليل يمكن أن يبرر هذا المستوى من الوحشية العشوائية.

مثل كثيرين غيره، كان علي مراد مضطراً إلى مشاهدة تدمير منزل عائلته على الهواء مباشرة.

يُعرف علي، وهو ابن عائلة شيوعية وأستاذ في العلوم السياسية، بمعارضته لـ”حزب الله” وباعتباره واحداً من الشخصيات الشيعية الرئيسية التي خاضت الانتخابات ضد الحزب بتحدّ خالص، مع العلم أنه لم يكن يمتلك أي فرصة للفوز في منطقته. لا شيء من هذا يهم. لم يُصب منزل علي بصاروخ. كان  منزله واحداً من فيلات كثيرة تم تفجيرها عن بُعد بعد تفخيخها.

دمر الجيش الإسرائيلي هذه البيوت وهو يعرف جيداً ألا علاقة لها بـ”حزب الله” أو قواعده العسكرية.

صور مستهدفة، والبلدة القديمة فيها، مثل البلدة القديمة في النبطية، يتم محو أجزاء من ذاكرتنا وتاريخنا وثقافتنا معها. العيون تتجه نحو بعلبك، إحدى أقدم مدن العالم، ومعبدها الذي يتعرض للتهديد. من حولي، الأصدقاء آمنون ولكنهم يواجهون خسائر لا يمكن تصوّرها.

النكات التي يطلقها حازم حول شقرا، التي يصفها دائماً بأنها “أجمل من برلين”، حلّت محلها الآن صور الدمار وما تبقى من بلدته، محاولاته إلقاء النكات لا يمكنها إخفاء الألم العميق والغضب.

منذ أكثر من عام بقليل، كانت إسرائيل تنتقم من الهجوم الذي نفذته “حماس” في السابع من أكتوبر. الإبادة الجماعية في غزة وتدمير لبنان يؤكدان تفوقها العسكري ويضعان حداً لأسطورة جيشها الأخلاقي. ولكن هل جعلت حياة أي إسرائيلي أكثر أماناً؟

الإجابة البسيطة، لا، فقط الحل العادل للشعب الفلسطيني هو الذي سيضع حداً لدورات العنف. حتى ذلك الحين، سيكون هناك المزيد من ظلال الموت، وأكبر قدر ممكن من الأمل وأكبر قدر ممكن من الحب.

|

اشترك بنشرتنا البريدية