fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

لا عصافير في سجون سوريا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ما حدث خلال الأيام الماضية بشكل متسارع كان فتحاً للسجون وليس للمدن السورية فحسب، بل وشكّل استعادة للإنسان وليس للمدن فقط.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مباركةٌ هذه الحرية لسوريا والسوريين، وهنيئاً لمتابعي المشهد السوري من العرب وغير العرب، الذين صدّقوا رواية الثوار والسوريين المكلومين، وأخيراً بعدما اطلعوا بأنفسهم على مشاهد السجون التي توضح الحالة المزرية اللاإنسانية التي كان يواجهها الإنسان السوري وكل من يواليه أو يعترف بإنسانيته أو لا يتفق مع النظام القمعي السابق وحقوقه حتى وإن كان مجرد عابر من سوريا.

ما حدث خلال الأيام الماضية بشكل متسارع كان فتحاً للسجون وليس للمدن السورية فحسب، بل وشكّل استعادة للإنسان وليس للمدن فقط. وهذا ما يلخّص ببساطة معنى الثورة السورية وطموحاتها بشكل لافت، بعيداً من تنظيرات المحللين التي سئمناها منذ اندلاع الربيع العربي وتقييدهم مفهوم الثورات وأسبابها بناء على التجربة الفرنسية وثورة الخبز، حتى دفع الحكام العرب آنذاك مبالغ للحد من احتمالات الثورة في بلدانهم، وربما استفادت منها الأبواق والمحللون السياسيون قبل الثوار أنفسهم لإخماد الغضب الشعبي بدلاً من تحسين سياستهم تجاه مواطنيهم. 

السجون السورية وفرحة السوريين التي أعادت الأمل الى الإنسان العربي رغم كل الشوائب والمطامع السياسية الدولية التي تحيط بهذا الحدث العظيم، حكاية هذه الأيام بلا منازع، والتي أخرجتنا ولو لبرهة من آلام نعيشها مع غزة لأكثر من عام. وهي الحكاية التي حركت الكثير من شجوني وشجون كل إنسان مرّ ولو بضعة أيام من سجن. مطلع كانون الأول/ ديسمبر، صادف الذكرى العاشرة لسجني في بلدي السعودية على خلفية ملف قيادة المرأة السيارة. وفي هذه الذكرى، قررت أن أنسى هذا الحدث تماماً وأطوي صفحته لأمضي قدماً، بعدما نأيت بنفسي عن الخوض مجدداً في ما يتعلق بالحراك والواقع المحلي كمواطنة وحتى كصحافية، فأنا منذ عام 2006 لا أقيم أساساً في السعودية. وبعد انتهاء سجني ومنع السفر اللذين داما لنحو عام هناك، أكملت طريقي للعيش بعيداً بطريقتي التي أحب لما تبقى لي من حياة. حتى أني بدأت أنسحب من المشهد الإعلامي وهو مهنتي الأساسية، إيماناً مني بأن المقاييس الإعلامية تغيرت ولم تعد هناك مساحات حرة كافية لممارسته، لأنشغل بوسائل التعافي مما مررت به. ورغم رغبتي في تناسي الذكرى العاشرة والحدث ككل، وجدت نفسي أستعيد الحكايا كسجينة سابقة وكصحافية تشعر بألم وخجل من عدم القدرة على إيصال إجابات بسيطة كان بمقدورها أن تمحو تساؤلات المتابعين لواقع السجون ليس السورية فحسب بل والعربية، وصدماتهم من هول المشاهد المفزعة لسجون الأسد المأهولة وأبنيتها التي لا تليق بأي كائن حي، وصور الأطفال واستعادة حكاية رواها قبل نحو عقد من اليوم الكاتب والصحافي السوري الراحل ميشيل كيلو، والذي بكل أسف لم يعش هذه اللحظة التاريخية، عن طفل لم يعرف العصفورة ولا الشجرة نتيجة الظروف التي يعيشها داخل الزنزانة برفقة أمه منذ ولادته. لأجد نفسي أتوه داخل أسئلة عن أسباب إهمال الناس لهذه القصة سابقاً في خضم الأزمة السورية، عن أسباب عدم أخذ حقها آنذاك أو ربما عن احتمالية عدم تصديق البعض الروايات حتى يراها في وثائقيات! 

عن الأطفال وحكايات السجن، كتبت روايتي “ميموزا” ونشرتها عام 2017، وسردت بعض التفاصيل في مقاطع فيديو، ومع ذلك في كل مرة أذكر قصة عابرة أجد دوائري القريبة تسمعها وكأنها للمرة الأولى! عن طفلة دخلت السجن مع والديها أثناء عملية تهريب مخدرات وهي في الأشهر الأولى لألتقي بها وهي في الرابعة من عمرها. وعن أخرى كانت أمها حاملاً بها “حمل سفاح”، أي خارج إطار الزواج، فتم إيقافها ووالد الجنين في المطار أثناء مغادرتهما لتولد الطفلة في السجن. وفي وجودي حيث كانت لم تكمل الرابعة من عمرها بعد، ذهبت يوماً مع أمها للقاء والدها وهو من الجنسية الآسيوية ذاتها، فعادت مذعورة تبكي لأنها رأت قطة على الطريق، وكان ذلك أمراً عظيماً بالنسبة الى الطفلة التي رأت كائناً لا يشبه البشر فجأة. الطفلة التي تعيش بعيداً من أشعة الشمس تماماً مثلنا، وعن ابن الخمس سنوات الذي انتقل مع أمه لسجن آخر، فرفض الخروج من السيارة عند تجربتها للمرة الأولى في حياته من شدة انبهاره بهذا الاختراع الممتع. وعن الطفلة التي ولدت في السجن، عن تلك الليلة التي خرجت  السجينات فيها عن صمتهن لإنقاذ إمرأة حامل إثر اغتصاب حان مخاضها في منتصف الليل، وعن المتسولة العربية إبنة العشرة أعوام وأخرى تبلغ الـ12 عاماً واكتشافهم في السجن لما يسمى بالحمام “دورات المياه” للمرة الأولى، فحياتهم في الجبال لا تعرف مثل هذه التفاصيل المرفهة. جميع هؤلاء الأطفال كانوا يمكثون معنا تحت سقف واحد، وكانوا الدافع الأقوى لشجاعتي هناك، وأنا أقبع بين قضايا القتل والسرقة والمخدرات. كانت أمهاتهم تبتكرن لهم الألعاب بتشكيل المناشف على هيئة دمى، ونحن بدورنا نحتفظ لهم بعلب اللبن التي كنت من خلالها أعد أيام الأسبوع، ونشتري البسكويت لخلطهما وصنع حلوة الآيس كريم لهم. 

هذه بعض حكايا الأطفال في السجون، أما النساء فلديهن الكثير من القصص، ولعل أبرزها أن دورتهن الشهرية تنقلب، فتصبح أيام الشهر كلها دورة، والنادر من الشهر هو الخالي منها، أي بعكس طبيعة أجسادنا. وكنا نحصل على الفوط الصحية المجانية ونتقاتل عليها. وكان لدينا تلفاز بقوانين صارمة، كانت السجينات وغالبيتهن من الجنسيات الآسيوية، يملن الى متابعة أفلام بوليوود التي تعرضها بعض القنوات الخليجية. لكني لمحت يوماً مسلسل “سجن النساء”، فاقترحت عليهن مشاهدته لأني لم أكن قد شاهدته آنذاك، وبالفعل تابعناه ولا أنسى مشهد إعدام روبي الذي أثر عليهن كثيراً، نامت يومها السجينات وسط كم من الكوابيس بسبب فعلتي. 

لم أبالغ في الترويج لروايتي “ميموزا”، وقد كتبتها بصيغة خيالية لأن المكان والزمان ليسا الحكاية وحدها، ولم أرد أن ينشغل القارئ ببلد محدد بل بالحالة المتشابهة في هذا العالم. فالسجون العربية وغير العربية متشابهة جداً، وقد رأيت يوماً في تقرير وصلنا من ليبيا أثناء عملي في التلفزيون، مشاهد لسجون تشبه تماماً ما كنت فيه.  

 لقد أوقفت طباعة “ميموزا” بعد الطبعة الثانية ونشرتها بنسخة إلكترونية في موقعي الشخصي، لاعتقادي بعد متابعة ردود الأفعال العامة بأننا عربياً نبحث عن حكايا مسلّية بلغة إبداعية أكثر من تلك البسيطة الطامحة لإيصال الفكرة. لكن الحالة السورية اليوم والتفاعل معها أعاداني الى التفكير في طرق إيصال أصواتنا العربية، ولا أخشى سوى أن الإنسان بطبعه لا يُصدق حتى يرى… أو ربما يُفضل أن يُصدق الطرف الأقوى فقط.

ميموزا

حكايا الأطفال قصة بحد ذاتها، فمعظمهم قد ولد هناك فيما دخل البقية منهم في أول أشهر لهم من هذه الحياة الى ذاك المكان المنعزل، لذا فهم لا يعرفون شيئاً عن ألوان الحياة الخارجية.

أولئك الأطفال يخشون رؤية الشارع، فما أن يرافق الطفل والدته الى المستشفى و،هو المشوار الوحيد تقريباً المسموح به، حتى ترينه خائفاً مذعوراً من ذلك الطريق ومن تلك القطط في الشارع وأصوات السيارات ورؤية الموظفين الرجال. لكن، أذكر أن أحدهم قد خرج يوماً مع أمه لينتقل من مبنى الى آخر بعيد في نخل الراغوا، فما كان يقبل أن يغادر السيارة التي أعجبته رغم أنها من نوع الحافلة المتهالكة، وبقي لدقائق متشبثاً داخلها.

لقد كان هؤلاء الأطفال، وهم الحلقة الأضعف في ذلك المكان، يتحملون غضب أمهاتهم في أحيان كثيرة وتوتراتهم واضطراباتهم وغير ذلك…

فتوقفي عن استخدام ذلك الحمام بعد شهر من مكوثي في ذلك المكان، يعود الى سيدة ضخمة تدعى حواء وهي من بلاد عمق الأدغال حاولت الانتحار حينها داخل ذلك الحمام. كان موقفاً صعباً على الجميع، وكانت لها طفلة لم تتجاوز الرابعة من عمرها. إذ دخلت السيدة المكان كمتاجرة بالمخدرات عندما كانت طفلتها السمراء النحيلة بشعرها الغزير القصير الأجعد لا تتجاوز الستة أشهر، وكبرت في هذا المكان الذي لا يرى الشمس.

وفي يوم خرجت حواء عن صمتها عندما تجاهلت الموظفات حالة طفلتها التي تعاني من حساسية في الصدر وصعوبات في التنفس، لقد استيقظت يومها على صوت بكاء السيدة العالي، ويبدو أنه كان نتيجة نقاش حاد مع الموظفات حول الأمر. جلست في مكاني حيث أستيقظ كل يوم، وهو عبارة عن مخدة اسفنجية وغطاء ناعم و قطعة “مَرتبة” مفردة للنوم تفصل بيني وبين البلاط البارد الذي كان لي نصيب من النوم عليه لأيام في البدايات. جلست لدقائق ثم استيقظت المقيمة الملاصقة لي وأبدت لي تعجّبها بإشارات أومأتها لي بوجهها ثم قامت صوب السيدة الباكية.

ميسا العمودي - كاتبة وصحافية سعودية
المملكة العربية السعودية
10.12.2024
زمن القراءة: 6 minutes

ما حدث خلال الأيام الماضية بشكل متسارع كان فتحاً للسجون وليس للمدن السورية فحسب، بل وشكّل استعادة للإنسان وليس للمدن فقط.

مباركةٌ هذه الحرية لسوريا والسوريين، وهنيئاً لمتابعي المشهد السوري من العرب وغير العرب، الذين صدّقوا رواية الثوار والسوريين المكلومين، وأخيراً بعدما اطلعوا بأنفسهم على مشاهد السجون التي توضح الحالة المزرية اللاإنسانية التي كان يواجهها الإنسان السوري وكل من يواليه أو يعترف بإنسانيته أو لا يتفق مع النظام القمعي السابق وحقوقه حتى وإن كان مجرد عابر من سوريا.

ما حدث خلال الأيام الماضية بشكل متسارع كان فتحاً للسجون وليس للمدن السورية فحسب، بل وشكّل استعادة للإنسان وليس للمدن فقط. وهذا ما يلخّص ببساطة معنى الثورة السورية وطموحاتها بشكل لافت، بعيداً من تنظيرات المحللين التي سئمناها منذ اندلاع الربيع العربي وتقييدهم مفهوم الثورات وأسبابها بناء على التجربة الفرنسية وثورة الخبز، حتى دفع الحكام العرب آنذاك مبالغ للحد من احتمالات الثورة في بلدانهم، وربما استفادت منها الأبواق والمحللون السياسيون قبل الثوار أنفسهم لإخماد الغضب الشعبي بدلاً من تحسين سياستهم تجاه مواطنيهم. 

السجون السورية وفرحة السوريين التي أعادت الأمل الى الإنسان العربي رغم كل الشوائب والمطامع السياسية الدولية التي تحيط بهذا الحدث العظيم، حكاية هذه الأيام بلا منازع، والتي أخرجتنا ولو لبرهة من آلام نعيشها مع غزة لأكثر من عام. وهي الحكاية التي حركت الكثير من شجوني وشجون كل إنسان مرّ ولو بضعة أيام من سجن. مطلع كانون الأول/ ديسمبر، صادف الذكرى العاشرة لسجني في بلدي السعودية على خلفية ملف قيادة المرأة السيارة. وفي هذه الذكرى، قررت أن أنسى هذا الحدث تماماً وأطوي صفحته لأمضي قدماً، بعدما نأيت بنفسي عن الخوض مجدداً في ما يتعلق بالحراك والواقع المحلي كمواطنة وحتى كصحافية، فأنا منذ عام 2006 لا أقيم أساساً في السعودية. وبعد انتهاء سجني ومنع السفر اللذين داما لنحو عام هناك، أكملت طريقي للعيش بعيداً بطريقتي التي أحب لما تبقى لي من حياة. حتى أني بدأت أنسحب من المشهد الإعلامي وهو مهنتي الأساسية، إيماناً مني بأن المقاييس الإعلامية تغيرت ولم تعد هناك مساحات حرة كافية لممارسته، لأنشغل بوسائل التعافي مما مررت به. ورغم رغبتي في تناسي الذكرى العاشرة والحدث ككل، وجدت نفسي أستعيد الحكايا كسجينة سابقة وكصحافية تشعر بألم وخجل من عدم القدرة على إيصال إجابات بسيطة كان بمقدورها أن تمحو تساؤلات المتابعين لواقع السجون ليس السورية فحسب بل والعربية، وصدماتهم من هول المشاهد المفزعة لسجون الأسد المأهولة وأبنيتها التي لا تليق بأي كائن حي، وصور الأطفال واستعادة حكاية رواها قبل نحو عقد من اليوم الكاتب والصحافي السوري الراحل ميشيل كيلو، والذي بكل أسف لم يعش هذه اللحظة التاريخية، عن طفل لم يعرف العصفورة ولا الشجرة نتيجة الظروف التي يعيشها داخل الزنزانة برفقة أمه منذ ولادته. لأجد نفسي أتوه داخل أسئلة عن أسباب إهمال الناس لهذه القصة سابقاً في خضم الأزمة السورية، عن أسباب عدم أخذ حقها آنذاك أو ربما عن احتمالية عدم تصديق البعض الروايات حتى يراها في وثائقيات! 

عن الأطفال وحكايات السجن، كتبت روايتي “ميموزا” ونشرتها عام 2017، وسردت بعض التفاصيل في مقاطع فيديو، ومع ذلك في كل مرة أذكر قصة عابرة أجد دوائري القريبة تسمعها وكأنها للمرة الأولى! عن طفلة دخلت السجن مع والديها أثناء عملية تهريب مخدرات وهي في الأشهر الأولى لألتقي بها وهي في الرابعة من عمرها. وعن أخرى كانت أمها حاملاً بها “حمل سفاح”، أي خارج إطار الزواج، فتم إيقافها ووالد الجنين في المطار أثناء مغادرتهما لتولد الطفلة في السجن. وفي وجودي حيث كانت لم تكمل الرابعة من عمرها بعد، ذهبت يوماً مع أمها للقاء والدها وهو من الجنسية الآسيوية ذاتها، فعادت مذعورة تبكي لأنها رأت قطة على الطريق، وكان ذلك أمراً عظيماً بالنسبة الى الطفلة التي رأت كائناً لا يشبه البشر فجأة. الطفلة التي تعيش بعيداً من أشعة الشمس تماماً مثلنا، وعن ابن الخمس سنوات الذي انتقل مع أمه لسجن آخر، فرفض الخروج من السيارة عند تجربتها للمرة الأولى في حياته من شدة انبهاره بهذا الاختراع الممتع. وعن الطفلة التي ولدت في السجن، عن تلك الليلة التي خرجت  السجينات فيها عن صمتهن لإنقاذ إمرأة حامل إثر اغتصاب حان مخاضها في منتصف الليل، وعن المتسولة العربية إبنة العشرة أعوام وأخرى تبلغ الـ12 عاماً واكتشافهم في السجن لما يسمى بالحمام “دورات المياه” للمرة الأولى، فحياتهم في الجبال لا تعرف مثل هذه التفاصيل المرفهة. جميع هؤلاء الأطفال كانوا يمكثون معنا تحت سقف واحد، وكانوا الدافع الأقوى لشجاعتي هناك، وأنا أقبع بين قضايا القتل والسرقة والمخدرات. كانت أمهاتهم تبتكرن لهم الألعاب بتشكيل المناشف على هيئة دمى، ونحن بدورنا نحتفظ لهم بعلب اللبن التي كنت من خلالها أعد أيام الأسبوع، ونشتري البسكويت لخلطهما وصنع حلوة الآيس كريم لهم. 

هذه بعض حكايا الأطفال في السجون، أما النساء فلديهن الكثير من القصص، ولعل أبرزها أن دورتهن الشهرية تنقلب، فتصبح أيام الشهر كلها دورة، والنادر من الشهر هو الخالي منها، أي بعكس طبيعة أجسادنا. وكنا نحصل على الفوط الصحية المجانية ونتقاتل عليها. وكان لدينا تلفاز بقوانين صارمة، كانت السجينات وغالبيتهن من الجنسيات الآسيوية، يملن الى متابعة أفلام بوليوود التي تعرضها بعض القنوات الخليجية. لكني لمحت يوماً مسلسل “سجن النساء”، فاقترحت عليهن مشاهدته لأني لم أكن قد شاهدته آنذاك، وبالفعل تابعناه ولا أنسى مشهد إعدام روبي الذي أثر عليهن كثيراً، نامت يومها السجينات وسط كم من الكوابيس بسبب فعلتي. 

لم أبالغ في الترويج لروايتي “ميموزا”، وقد كتبتها بصيغة خيالية لأن المكان والزمان ليسا الحكاية وحدها، ولم أرد أن ينشغل القارئ ببلد محدد بل بالحالة المتشابهة في هذا العالم. فالسجون العربية وغير العربية متشابهة جداً، وقد رأيت يوماً في تقرير وصلنا من ليبيا أثناء عملي في التلفزيون، مشاهد لسجون تشبه تماماً ما كنت فيه.  

 لقد أوقفت طباعة “ميموزا” بعد الطبعة الثانية ونشرتها بنسخة إلكترونية في موقعي الشخصي، لاعتقادي بعد متابعة ردود الأفعال العامة بأننا عربياً نبحث عن حكايا مسلّية بلغة إبداعية أكثر من تلك البسيطة الطامحة لإيصال الفكرة. لكن الحالة السورية اليوم والتفاعل معها أعاداني الى التفكير في طرق إيصال أصواتنا العربية، ولا أخشى سوى أن الإنسان بطبعه لا يُصدق حتى يرى… أو ربما يُفضل أن يُصدق الطرف الأقوى فقط.

ميموزا

حكايا الأطفال قصة بحد ذاتها، فمعظمهم قد ولد هناك فيما دخل البقية منهم في أول أشهر لهم من هذه الحياة الى ذاك المكان المنعزل، لذا فهم لا يعرفون شيئاً عن ألوان الحياة الخارجية.

أولئك الأطفال يخشون رؤية الشارع، فما أن يرافق الطفل والدته الى المستشفى و،هو المشوار الوحيد تقريباً المسموح به، حتى ترينه خائفاً مذعوراً من ذلك الطريق ومن تلك القطط في الشارع وأصوات السيارات ورؤية الموظفين الرجال. لكن، أذكر أن أحدهم قد خرج يوماً مع أمه لينتقل من مبنى الى آخر بعيد في نخل الراغوا، فما كان يقبل أن يغادر السيارة التي أعجبته رغم أنها من نوع الحافلة المتهالكة، وبقي لدقائق متشبثاً داخلها.

لقد كان هؤلاء الأطفال، وهم الحلقة الأضعف في ذلك المكان، يتحملون غضب أمهاتهم في أحيان كثيرة وتوتراتهم واضطراباتهم وغير ذلك…

فتوقفي عن استخدام ذلك الحمام بعد شهر من مكوثي في ذلك المكان، يعود الى سيدة ضخمة تدعى حواء وهي من بلاد عمق الأدغال حاولت الانتحار حينها داخل ذلك الحمام. كان موقفاً صعباً على الجميع، وكانت لها طفلة لم تتجاوز الرابعة من عمرها. إذ دخلت السيدة المكان كمتاجرة بالمخدرات عندما كانت طفلتها السمراء النحيلة بشعرها الغزير القصير الأجعد لا تتجاوز الستة أشهر، وكبرت في هذا المكان الذي لا يرى الشمس.

وفي يوم خرجت حواء عن صمتها عندما تجاهلت الموظفات حالة طفلتها التي تعاني من حساسية في الصدر وصعوبات في التنفس، لقد استيقظت يومها على صوت بكاء السيدة العالي، ويبدو أنه كان نتيجة نقاش حاد مع الموظفات حول الأمر. جلست في مكاني حيث أستيقظ كل يوم، وهو عبارة عن مخدة اسفنجية وغطاء ناعم و قطعة “مَرتبة” مفردة للنوم تفصل بيني وبين البلاط البارد الذي كان لي نصيب من النوم عليه لأيام في البدايات. جلست لدقائق ثم استيقظت المقيمة الملاصقة لي وأبدت لي تعجّبها بإشارات أومأتها لي بوجهها ثم قامت صوب السيدة الباكية.

ميسا العمودي - كاتبة وصحافية سعودية
المملكة العربية السعودية
10.12.2024
زمن القراءة: 6 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية