حملت نُهى ابنتها (3 سنوات) بيد، وجرّت طاولة الطعام الخشبية باليد الأخرى قرب (عضادة) الحائط، لا تعلم من أين جاءتها هذه القوّة لجرّ الطاولة الكبيرة بيدٍ واحدة. وضعت أطفالها الثلاثة تحتها وطلبت منهم أن يتلوا القرآن. لم تعلم إن كانت هذه الحركة ستنقذهم بالفعل، كان هذا كل ما خطر لها في تلك اللحظة. فتحت باب المنزل لتجد الناس يصرخون ويركضون مذعورين، تقول: “ما قدرت أعمل شي، ما قدرت أهرب متلهم لأنو عندي حماتي كبيرة وبرا برد كتير”.
نُهى واحدة من سكان مدينة حلب الذين عاشوا ليلة قاسية، تحت رحمة كارثة لم يتوقعوها، أو على الأقل لم يتخيلوا أن تكون بهذه القسوة. أما الآن، فنُهى تنتظر ككل الناجين في حلب، إذ جهّزت حقيبة صغيرة للفرار، خوفاً من تكرار الهزة. تقول نهى إن الوضع في حلب سيئ للغاية، الجميع مذعورون ويترقبون القادم بحذر: “وقعت بنايتان بسبب هزتين ارتداديتين، بس كانوا فاضيين لحسن الحظ، بس المأساة هي بالأبنية الي وقعت ع روس أصحابها وما أجا حدا للمساعدة بسبب عدد الأبنية الكبير الي وقع”. ما سبق يجعل تحديد عدد الضحايا والمصابين مستحيلاً في الوقت الحاضر، ولا ملجأ للناس إلا “فيسبوك”، حيث يستغيثون ويطلبون المساعدة، لكن عدد فرق الإنقاذ والآليات لن يكفي لكارثة بهذه الحجم، إذ انهارت بالفعل، ستة مبانٍ سكنية في المدينة، بعد انتهاء الزلزال وتتالي الهزات الارتدادية.
خصّصت محافظة حلب مراكز إيواء مؤقتة في محاولة لاستيعاب العائلات الهاربة، هناك 150 شقة في حي مساكن هنانو شرق حلب، و25 شقة في حي الشيخ طه، و17 مدرسة لعشرات العائلات الحائرة.
سوريا، البلد المنكوب في الأصل، والتي عانت من القصف والموت والبراميل طوال سنوات، استقبلت منذ ساعات كارثتها الجديدة، أما حلب المدينة المتعبة، فالمصائب تتساقط عليها، أتت الحرب على أحياء وأسواق بكاملها فيها، أما ما بقي صامداً من أبنية مزعزعة، فأتى الزلزال ودمّرها.
“مثل يوم القيامة”، هكذا يصف الناس الكارثة، التي لم تعد تقتصر على الزلزال، بل امتدت الى استحالة انتشال الضحايا والعالقين أمام عجز الحكومة السورية، التي تستنجد بكل من يستطيع تقديم المساعدة والآليات من فعالياتٍ خاصةٍ وعامة.
قصص النجاة لا يمكن حصرها، سواء تلك التي يحدثنا عنها من نجا، أو من انتشل لحسن حظه من تحت الركام. في مدينة إدلب، رمى محمد (اسم مستعار)، والذي خضع لجراحة في معدته منذ بضعة أيام، فراش نوم على زوجته وطفلته ذات الستة أشهر، لعله يحميهما. دفعت مفاجأة الكارثة الناس إلى التصرف بتلقائية دون التفكير في ما إذا كان ما يفعلونه صحيحاً أم لا.
الحال في إدلب ليس أقل كارثية، وتحديداً في المناطق المحاذية لتركيا، مثل حارم وسرمدا وترمانين والأتارب في ريف حلب، والتي سجلت أعلى نسبة ضحايا حتى الآن، القصص التي تصلنا من هناك أكبر من أن تُروى، فحجم المأساة أكبر من المتوقع.
الكارثة اليوم أكبر من قدرة السوريين على التحمّل، فوسط انهيارٍ اقتصاديّ ودمار في البنى التحتية والخدمات، أتي الزلزال ليقضي على الخيط الأخير الذي يتعلقون به. لا آليات كافية لرفع الأنقاض، الأيدي وحدها تغوص في الإسمنت والتراب والرمل، أمهات يصرخن فوق الركام، رجل يجري بطفلة انتشلها من تحت الركام ويصرخ “عايشة… عايشة”.
تقول سارة (اسم مستعار): “هو البلد مو متحمل الوضع اليومي العادي، ليتحمل طوارئ!”، نعم البلد أضعف اليوم من أي حدث عادي، فكيف بكارثة كهذه!، قررت عائلات كثيرة البقاء في منازلها لأن أحد أفرادها مسنّ ولا يقدر على التنقل، هذه العائلات اتخذت خيار الموت مع أحبائها.
النجاة ليست كاملة، السوريون اليوم مصدومون، لم يستوعبوا الكارثة التي لم يمضِ على وقوعها سوى ساعات. بقيت راما وأختها ووالدتها في المنزل مع والدها المريض، تسمع الأخبار الآتية من الخارج عن سقوط البنايات، تصلهم أصوات سيارات الإسعاف وصراخ النساء وبكاء الأطفال: “شي مرعب كتير، ما بيشبه الحرب أبداً”.
تلاحق المأساة اللاجئين السوريين في تركيا، الذين لم ينجوا لا من الحرب ولا من الزلازل ولا من الأمراض. في أحد مستشفيات هاتاي التركية، وأثناء الزلزال، كان مجد (اسم مستعار) يرافق أخته المصابة بالسرطان، حين اهتز المستشفى ووقع السقف عليها، فما كان منه إلا أن حملها ونزل بها طبقات عدة، ليستقرا أمام باب المستشفى، هي الآن بحاجة ماسة إلى الأوكسجين، لكن الفوضى والمأساة جعلتا ذلك مستحيلاً، يجلس مجد وأخته أمام المستشفى بانتظار معجزة.
تسبب الزلزال أيضاً بسقوط أجزاء من طاحونة قلعة حلب، وتشقّق وتصدع أجزاء منها، وسقوط أجزاء من الأسوار الدفاعية الشمالية الشرقية، وفق المديرية العامة للآثار والمتاحف. وتضررت بعض القطع الأثرية داخل خزائن العرض في المتحف الوطني في حلب، وأجزاء من قبة منارة الجامع الأيوبي، ومداخل القلعة، كمدخل البرج الدفاعي المملوكي، وواجهة التكية العثمانية.
مأساة اليوم تغلبت على مأساة الحرب البارحة، هكذا يعتقد السوريون، فالثواني الأربعون التي استغرقها الزلزال علّمتهم درساً جديداً في المأساة، الطبيعة نفسها لن ترحمهم إن غضبت!
إقرأوا أيضاً: