يقال أن كل مُعترض على مسار التسوية السياسية في لبنان، هو داعية حرب أهلية أقرّ بذلك أو أنكر.
استقرار بلدنا يهدده من يرى أن التسوية التي يجري التهليل لها في وسائل الإعلام وتصريحات السياسيين، تشكل مقدمةً لتكريس اختلال موازين القوى الداخلية، وتعكس اللحظة الإقليمية الحالية، على نحوٍ، سيجعل من العسير تغيير الاتجاه العام في الأعوام المقبلة.
يجري التسويق للتسوية، التي أفضت إلى انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، وحصول سعد الحريري على رئاسة مجلس الوزراء، باعتبارها إنجازاً قلّ نظيره، جّنب لبنان الانزلاق إلى صراعات المنطقة، خصوصاً، بعد إخفاق الثورة السورية. وأنها، في العمق، كانت خطوةً دفاعية للحفاظ على مواقع السنّة اللبنانيين، وبعض الحلفاء المسيحيين، في مواجهة التمدد الايراني، الذي يغزو المشرق العربي.
يطرح هذا القول سؤالاً عن معنى التشبث بالأمر الواقع الحالي، على مستوى الحياة اليومية للبنانيين. لماذا، على سبيل المثال، تصحّ المقايضة بين كارثة النفايات التي ما زالت مسلطةً كسيف، ديموقليس، على رقاب المواطنين، الذين يراقبون ارتفاع هضاب من جبال النفايات، تكاد في بعض المناطق أن تسدّ الأفق، من دون أن يكون في جعبة السلطة الحالية، أيّ تصور جدي لحلها، فيما يدفع المواطنون من صحتهم ثمن تقاسم غنائم الازمة المصطنعة بين القوى السياسية. (راجع من بين مصادر اخرى، تقرير “هيومان رايتس ووتش” بعنوان “كأنك تتنشق موتك” المنشور في 1/12/2017). القضية هذه ليست سوى عينة على النهج الغنائمي، الذي تتصرف به المجموعة الحاكمة مع القضايا التي تعني اللبنانيين العاديين. ما من مشروع عام واحد، إلا ويقف وراءه سياسي فاسد، ينتظر حصته، حتى بات أي إعلان عن مناقصة او التزام، تجذب نظرات الشك من الناس الذين يسارعون إلى اتهام السياسيين بالفساد، قبل أن يظهر خير المناقصة المذكورة من شرها.
الشبهة وسوء النية المسبقة بالسياسيين التي تطورت الى سينيكية عامة، زرعها السياسيون أنفسهم. إذ أنهم أول من يرشق خصومهم من سياسيي الطرف المقابل، بالفساد وبالتهديد بكشف الملفات غير القانونية، ليتراجعوا عنها عند التوصل الى “تسويات” من الصنف الذي عُمم مع وصول الثنائي عون – الحريري الى الحكم.
عليه، لا يبدو التهويل بالحرب الأهلية بريئاً، وصادراً عن حرص على السلم والاستقرار، بالقدر الذي يريد لنا السياسيون أن نقتنع به، بل إنه يأتي، على الأرجح، من رغبات في تعميق السيطرة على موراد الدولة لطرفٍ مقابل الموافقة على إبقاء سلاح “حزب الله”، إلى ما لا نهاية، والرضوخ لشهية العونيين التي لا يحدّها حدّ إلى السلطة والهيمنة على المجال العام. من هنا تأتي حملات متكررة على ناشطين إعلاميين وسياسيين، لم يكن أحد ليتصور في يوم من الأيام أن يكونوا في حال صدامٍ مع سلطة، كانوا من أعمدتها، وركائز الترويج لها ولسياساتها.
السلم الأهلي، إذاً، مرتبط بهذه التسوية، وبهؤلاء السياسيين وإلا فالاقتتال الطائفي بل والاجتياح الاسرائيلي.
لكن ما حجم الخطر الواقعي لاندلاع حرب أهلية جديدة في لبنان؟ سينتهي أي مسح موضوعي لأحجام القوى السياسية ولأحوالها وتحالفاتها الداخلية والخارجية ولخطابها، إلى حقيقة بسيطة تقول، إن ما من طرف يرى مصلحة له في التوجه إلى ميادين القتال. وباستثناء “حزب الله”، لا تملك أي من القوى السياسية شيئاً يشبه الآلة العسكرية القادرة على شنٌ الحروب. بل أن الحزب ذاته، لا يبدو راغباً في فرض إرادته السياسية بالقوة، على نحو ما فعل في أيار/مايو ٢٠٠٨، ما دامت التنازلات التي يطلبها في المجالات التي تهمه، تأتيه على طبق من فضة تاركاً للآخرين ترتيب صفقاتهم و”تسوياتهم”.
يقوم التهويل بالحرب الأهلية على ذاكرة اللبنانيين القصيرة، التي ترى في تلك الحرب مآسيها والكوارث التي انزلتها بالبلاد، من دون أن تأخذ في نظرتها تلك الأوضاع الداخلية والإقليمية، التي أفضت إلى الحرب. الأوضاع التي لا يشبهها شيء مما نعاين اليوم. واستحضار اسماء شخصيات ثانوية في السياسة اللبنانية، لاتهامها بتفضيل الحرب على التسوية، لا معنى له خارج الدعاية الصريحة لبقاء الوضع القائم، تكريس دولة الغنيمة على خوف غير عقلاني من احتراب الاهل.
[video_player link=””][/video_player]