“الجو العام في المنطقة هو جو تسويات”.
“المسار الذي نراه في المنطقة يجب ألا نعاكسه، وسبق للبنان أن تفاوض مع إسرائيل برعاية كل من الولايات المتحدة والأمم المتحدة، واتفقنا على ترسيم الحدود البحرية”.
“ما الذي يمنع تكرار التفاوض لإيجاد حلول للمشاكل العالقة، لا سيما وأن الحرب لم تؤدّ إلى نتيجة”.
هذا بعض ما قاله الرئيس اللبناني جوزاف عون بالأمس.
كلام رئيس الجمهورية اللبناني تزامن مع كلام للرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومن الكنيست الإسرائيلي، يشيد فيه بعون، وتحديداً في مسألة نزع سلاح “حزب الله”.
يعرف ترامب الكثير من الوقائع اللبنانية بعد الحرب الأخيرة، ويعرف أكثر أن في لبنان، كما في إسرائيل، هناك من يقوم بتأويل القرار 1701 وفق مصالحه، ويعرف المبعوثان توم براك ومورغان أورتاغوس التباين، ليس بين “حزب الله” وعون على ما تشي أقوال الأخير، بل بينه وبين رئيس الحكومة نواف سلام الأكثر تحفظاً في مقاربة القرار 1701، وبند حصر السلاح بيد الدولة.
مدائح ترامب لعون تندرج على الأرجح كمحفز له لملاقاة رئيس الحكومة، والأهم أن مؤتمر شرم الشيخ إذا ما قُدِّر من ملحق له، فالأمر مرتبط غالباً بموقف رئيس الجمهورية اللبناني منه.
لنصدق مقولة ليو تولستوي أن غاية الحرب هي السلام، وقابلية تصديق المقاربة الرائجة للكاتب الروسي تتأتى من حربين أفضيتا إلى مؤتمرين للسلام في الشرق الأوسط، مؤتمر مدريد في العام 1992 وأفضت إليه حرب تحرير الكويت، وراهناً مؤتمر شرم الشيخ الذي تستضيفه مصر كأحد مآلات الحرب على غزة.
أضاع لبنان فرصة تاريخية للسلام على رغم مشاركته في مؤتمر مدريد، ويبدد الآن فرصة أخرى قد تتطلب حرباً أخيرة عليه ليذهب فيها صاغراً إلى سلام قد تتلاشى معه كل مقارباته الراهنة.
تقتضي الموضوعية إبراز دور الوصاية السورية في ضياع ما بدا في مدريد فرصة لبنان لتحرير أرضه من الاحتلال الإسرائيلي، والموضوعية تقتضي أيضاً التأكيد أن التحرير لم يكن يومها “مِنَّة” من إسرائيل بقدر ما كان مآلاً لمقاومة اللبنانيين هذا الاحتلال.
“وحدة المصير والمسار” التي ابتكرها حافظ الأسد كتلازم لمساري التفاوض اللبناني والسوري مع إسرائيل، ثم تعثّر الأخير، جاءت بفعل الوصاية السورية على رقبة المفاوض اللبناني.
سيمون كرم، سفير لبنان في الولايات المتحدة الأميركية آنذاك، ومن موقعه كأحد أعضاء الوفد اللبناني المفاوض، روى في حلقة تلفزيونية مع مسؤول العلاقات الخارجية في الحزب نواف الموسوي، في منتصف تسعينات القرن الماضي، وقائع مهمة عن المفاوضات اللبنانية – الإسرائيلية في مدريد، وأحال مناظره إلى الاطلاع على محاضر عنها حصل عليها مركز الدراسات والاستشارات في الحزب.
إقرأوا أيضاً:
كان مسار التفاوض اللبناني – الإسرائيلي أسرع وأسهل من المسارات الأخرى، وكان موقف المفاوض اللبناني قوياً، في ظل مناخ كانت إسرائيل تستجدي فيه السلم والأمن على حدودها الشمالية مع لبنان. لكن ما بدت حتميته انسحاباً إسرائيلياً من الجنوب، وبشروط لبنانية متوازنة مع الشروط الإسرائيلية، وتُجنِّب لبنان معاهدة سلام كانت له قدرة الادعاء أنه آخر من يوقعها بين الدول العربية، كان تفاوضاً اصطدم “بالفيتو” السوري الذي كانت كلفته على لبنان ثماني سنوات احتلال إضافية، وتكثيفاً للوصاية السورية عليه. بدا لنظام حافظ الأسد حينها أن لبناناً يملك هامشاً من قراره هو بالضرورة ثقلاً على وصاية كان باشرها بعد حرب تحرير الكويت، وبكفالة أممية.
لكن ما بدّدته وصاية سورية ناجزة حينها، تبدده راهناً سلطة لبنانية يُفترض أن موقعها وأحوالها لا يتقاطعان مع ارتهان السلطة حينها لتلك الوصاية الغابرة. نحن الآن أمام سلطة تبدو كمن لا يريد الخروج من زمن الوصايات، وآخرها وصاية ورثها “حزب الله” من نظام بشار الأسد، وبددت الحرب الأخيرة الكثير من عوامل قوتها.
لا يكفي أن يقول رئيس الجمهورية جوزاف عون ما قاله أمام جمعية الإعلاميين الاقتصاديين كمؤشر عن دولة تملك قرارها. تقصّي مواقف عون منذ انتخابه رئيساً للجمهورية في مقاربة موضوع سلاح الحزب، يتقاطع عموماً مع مقاربته الراهنة، والمتزامنة مع مؤتمر شرم الشيخ. جوزاف عون يشخّص الحالة اللبنانية، وأثر الحزب وسلاحه عليها، لكنه يتفادى العلاج، وإن باشر الأخير فبالمسكنات التي يندرج كلامه الأخير من ضمنها.
لا يملك أحد ترفاً يفترض مثلاً مواجهة عسكرية بين “حزب الله” والجيش اللبناني. لكن التباين المفتعل، والمتعمد أحياناً، من عون مع رئيس الحكومة، هو ما يمنح الحزب هامشاً يسيل حيناً كاستعصاء في السياسة، وغالباً في مشهديات عبثية تكثف سردية واقعية عن دولتين، دولة” حزب الله”، والدولة التي يريد رئيس الجمهورية أن يستعيد مفهومها.
يستهول لبنانيون كثر وسماً لا يكلّ “حزب الله” عن رفعه في وجه خصومه، أو من لا يتماهى معه، الوسم هو “صهيوني”. نواف سلام هو آخر المدرجين على لوائح المتصهينين عند الحزب وبيئته ربطاً بموقفه من سلاح الأخير، وعلى تهافت التهمة عموماً يبدو رئيس الجمهورية كما لو أنه آخر المستهولين.
عودٌ على بدء إلى آخر مقاربات الرئيس جوزاف عون للحرب والسلم والتسويات، عودة تفترض أن يكون رئيس الجمهورية أحد المشاركين في مؤتمر شرم الشيخ، مشاركة تفترض بالضرورة أن عدم دعوة لبنان إليها يندرج كموقف سلبي منه، ويستدعي إلى الذاكرة مقاربة توم براك لسلطة تقول كثيراً ولا تفعل شيئاً.
والحال، وقبل أن يذهب لبنان إلى سلام تستدعيه حرب أخيرة عليه، لا تزال أمام رئيس الجمهورية فرصة تاريخية لترجمة أقواله إلى أفعال، ولتبديد موقع ملتبس وضعه فيه نبيه بري حين قال:”لقد ربح الشيعة ورقة يانصيب بانتخاب جوزاف عون رئيساً للجمهورية”، وهو قول لا يقتضي الكثير من الفطنة لمعرفة الشيعة الذين قصدهم رئيس مجلس النواب.
إقرأوا أيضاً:













