بعد أشهر من النوم في إحدى المدارس في مدينة صيدا، قرر محمد وعائلته النازحين من بلدة عيتا الشعب- جنوب لبنان، استئجار منزل يؤويهم، فالحرب قد تتطور وقد تطول، كما يقول محمد.
“الشقق غالية جداً” يروي محمد، الذي خسر عمله في الزراعة بعدما احترق البستان الذي يملكه والذي يعتاش منه، علماً أن محمد مسؤول عن إعالة ثلاثة أطفال وزوجة إضافة إلى أمّه.
لكنّ اتساع موجة النزوح لتشمل الضاحية الجنوبية أيضاً، كشف عن مشكلة أخرى تجاوزت ارتفاع الإيجارات، إذ عبّر عدد من المواطنين عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن رفضهم تأجير شقق سكنية أو استقبال نازحين من الجنوب والضاحية الجنوبية، خوفاً من أن يكون بينهم مسؤولون أو قادة ميدانيون من حزب الله، وهو ما يعرّضهم ويعرّض بلداتهم للخطر.
في المقابل يسأل محمد، “إلى أين أذهب مع عائلتي؟ أمي عمرها تجاوز السبعين وتعاني من أمراض مزمنة، وقد عانت الأمرين حين كنا ننام في إحدى المدارس في صيدا، بعدما تركنا بيتنا بسبب الاشتباكات المستمرة”، يقول محمد واصفاً عجزه عن إيجاد حلّ.
ويتابع: “نحن لا ننتمي لأي حزب ولا لأي مسؤول أو وزير”، يصمت قليلاً ثم يضيف في اتصال مع “درج”: “إلنا الله”.
أدت الاشتباكات المستمرة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بين إسرائيل و”حزب الله” في جنوب لبنان إلى نزوح أكثر من مئة ألف شخص وفق “الدولية للمعلومات”، وهو رقم مرشح للارتفاع في المرحلة المقبلة، مع تصاعد وتيرة التهديدات والتوتر بين الطرفين. وقد أضيفت إلى النازحين من الجنوب، عائلات من الضاحية الجنوبية لبيروت، لا سيما بعد استهداف أحد القادة البارزين في “حزب الله”، فؤاد شكر، في حارة حريك. حركة النزوح المتزايدة، أدت إلى ارتفاع بدلات الشقق والوحدات السكنية المعروضة للإيجار، في المناطق التي تعدّ ملجأ “آمناً” للنازحين مثل عاليه، صوفر، إضافة إلى كسروان وجبيل والمتن، كونها قريبة من بيروت، إنما لا تقع في دائرة الخطر المباشر.
بموازاة ذلك، يروي بعض أصحاب الشقق الذين تواصلنا معهم بعض المخاوف الأمنية من فكرة تأجير عائلات ربما تتستر بغطاء النزوح، فيما تخفي مسؤولاً في “حزب الله” مثلاً، قد يشكّل خطراً أمنياً على المنطقة كلها. وهو ما حصل في بلدة فالوغا، التي أصدر رئيس بلديتها تعميماً للسكان بعدم تأجير المنازل في البلدة إلى أيّ جهة كانت “لبنانيّة أو غير لبنانيّة”، “محليّة أو غير محليّة”، إلا بعض الاطلاع على هويّة المستأجر والتّأكد من سجله وموافقة البلديّة مسبقاً، في خطوة تخرق بشكل مباشر القانون ومبدأ حرية التنقل والاستثمار.
أثارت قصة فالوغا وغيرها من المناطق التي امتنع سكّانها عن تأجير نازحين من الجنوب، جدلاً واسعاً. بدا رفض تأجير نازحين من الحرب لأسباب طائفية موقفاً يزيد الشرخ والتباعد المجتمعي وهو ما عبرت عنه فعلاً سلسلة تعليقات وفيديوهات بدأت تنتشر عبر السوشيال ميديا.
تمسك أصحاب هذا الموقف السلبي من نازحي الجنوب بتحميل حزب الله المسؤولية بسبب فتحه جبهة ما يسمى بالمساندة وعليه مسؤولية كبرى في الاحتقان السائد.
لكن مسؤولية حزب الله لا تعفي أطرافاً سياسية على خصومة مع الحزب في الاستثمار في البعد الطائفي أيضاً من خلال زيادة الاحتقان الأهلي..
“إلى أين أذهب مع عائلتي؟ أمي عمرها تجاوز السبعين وتعاني من أمراض مزمنة، وقد عانت الأمرين حين كنا ننام في إحدى المدارس في صيدا، بعدما تركنا بيتنا بسبب الاشتباكات المستمرة”
“الصيف باب رزقنا”
أحد المطوّرين العقاريين الذين التقيناهم وفضل عدم ذكر اسمه، قال إن “الصيف هو باب رزق لمالكي الشقق، لا سيما بوجود السياح والمغتربين لذلك يرتفع الطلب على الشقق في هذا الموسم وبطبيعة الحال ترتفع الأسعار، فهذه الفرصة الوحيدة لتعويض الخسائر والجمود في فترات أخرى من السنة”. ويتابع: “والآن مع ظروف الحرب، ارتفع الطلب أكثر وأكثر مقابل حجم عرض أقل، ما يعني ارتفاع الأسعار، وهناك من استغل الظرف لتحقيق أرباح إضافية من النازحين المضطرين إلى البحث عن مأوى”.
ألف دولار لأسبوع!
مع توعّد إسرائيل بالرد على استهداف مجدل شمس في الجولان وهي جريمة اتّهمت اسرائيل “حزب الله” بتنفيذها فيما الأخير نفى، كان على هبة أن تترك بيتها في الضاحية الجنوبية، ذلك أنه شديد الخطورة كما تقول “إنه قريب من المطار، كما أنني لا أعرف إن كان في المبنى الذي أسكن فيه أحد القادة أو المسؤولين في حزب الله أو سواه، فتقوم إسرائيل بتفجيرنا”. تتابع: “لم أستطع إيجاد شقة في وقت قصير، لأن معظم الشقق تمّ تأجيرها كما أن بدلاتها تفوق قدرتي، لذلك ساعدتني المؤسسة التي أعمل فيها للخروج من الضاحية نحو أحد بيوت الضيافة، وقد دفعت لأجل أسبوع واحد ألف دولار”، مضيفة: “لولا مساعدة المؤسسة لما كنتُ قادرة على الدفع، لأن المبالغ كبيرة، فماذا عن العائلات المتروكة لمصيرها؟”.
المستشار القانوني لنقابة مالكي العقارات والأبنية المؤجرة المحامي شربل شرفان يرى أن “الأزمة التي نحن بصددها تكونت إزاء انعدام التوازن بين العرض والطلب فأصبح الطلب أكبر بكثير من العرض، ما يؤدي حكماً في العلم الاقتصادي إلى غلاء السلعة أو الخدمة ولنعطي مثالاً على ذلك، وجود شقة واحدة أو شقتين فقط في حي أو شارع معين، مقابل وجود أكثر من شخص يطلبون استئجار إحدى هاتين الشقتين، فإن ذلك يتيح للمؤجر طلب بدلات إيجار خيالية لقاء التأجير (الأمر الذي نحن طبعاً ضده). أما في حال وجود 10 شقق شاغرة في الحي أو الشارع عينه، فذلك لا يعطي فرصة لأحد للاحتكار أو طلب بدلات لا تتناسب مع البدل الرائج لأن السوق في حال وجود توازن في قاعدة العرض والطلب يقوم بتصحيح نفسه بنفسه ما يؤدي حتماً إلى انخفاض سعر أو قيمة السلعة أو الخدمة”.
ويربط شرفان بين “بدلات الإيجار الخيالية التي يطلبها بعض المالكين بقلة وشح الشقق الشاغرة”، مشيراً إلى أن “معظمها مشغول من مستأجرين قدامى منذ أكثر من 70 عاماً سوادهم الأعظم من يملك شققاً ومساكن أخرى في المنطقة عينها أو في منطقة أخرى أو من ترك فعلياً المأجور وانتقل للسكن في مكان آخر، لكنه يرفض تركه وتسليمه للمالك طمعاً بالحصول على مبلغ مالي مقابل الترك ولدينا آلاف الحالات من هذا النوع”.
يدعو شرفان المالكين إلى الالتزام بالبدلات الرائجة وفقاً لكل منطقة واحتضان اخوتهم في الوطن وهذا ما يفعله كثيرون منهم، إلا أن البعض يلجأ إلى التعميم، معتبراً أن “قلة قليلة فقط من الناس تقوم بهذه الممارسات غير الإنسانية التي تبقى ضمن حالات فردية لا تعكس موقف المالكين ونقابتهم”.
تستمر الاشتباكات وتتصاعد منذ تشرين الأول/ أكتوبر وحتى اللحظة لم يتم تأمين ملاجئ كافية أو أماكن بديلة للنازحين، باستثناء بعض المدارس التي تحوّلت إلى ملاجئ، برغم أنها غير مجهّزة بما يكفي. والآن ترتفع لهجة التهديد بتوسّع العمليات، وحتى الآن لم يصدر عن الدولة اللبنانية سوى خطط هزيلة لا تكفي لإيواء جميع العائلات، لا سيما تلك التي لا تنتمي لـ”حزب الله” وبالتالي لا تحصل على مساعدات أو بدلات سكن منه.
في المقابل، تستعد إسرائيل للحرب من خلال فتح ملاجئ بملايين الدولارات في عدد من المدن تحسباً لأي طارئ، إضافة إلى تأمين المساعدات والرعاية لمواطنيها، خصوصاً النازحين من الشمال كونهم مهددين أكثر من سواهم.
إقرأوا أيضاً: