لم يعد غريباً عند التجول بين المحال الإلكترونية في محافظة درعا أن تجد كاميرات أو حواسيب أو أجهزة اتصالات أو حتى طائرات تصوير من نوعيات مختلفة وإصدارات حديثة، ولكن الغريب أن عدداً ليس قليلاً من هذه الأجهزة أتى من لبنان عبر طرق التهريب قاطعاً مئات الكيلومترات وعشرات الحواجز الأمنية التابعة لقوات النظام، ما يثير الفضول حول الأسباب التي دفعت التجار إلى اختيار لبنان مصدراً للأجهزة الإلكترونية، عوضاً عن الأردن الذي يبعد بضع أمتار فقط، فما هي الطرق التي تسلكها هذه الأجهزة حتى تصل إلى محافظة درعا؟
في منطقة تشهد حرباً وظروفاً إنسانية استثنائية، تصبح الحاجة إلى استخدام الأجهزة الإلكترونية ملحة أكثر من أي وقت آخر، سواء للاستخدامات العسكرية أو الإعلامية أو لخدمة المنظمات الإنسانية، فضلاً عن الحاجة الفردية لدى الأهالي، فباتت هذه التجهيزات تصل إلى محافظة درعا من الحدود الأردنية- السورية، إما تهريباً أو جنباً إلى جنب مع المنح العسكرية والإنسانية التي كانت تصل إلى المحافظة خلال السنوات الأولى من اندلاع الاحتجاجات في سوريا، قبل أن تفرض السلطات الأردنية قيوداً مشددة على هذه التجهيزات، ليُحصر توريدها بـ “الهيئة السورية للإعلام” فقط، والتي كانت تعمل ناطقاً إعلامياً باسم الجبهة الجنوبية التابعة للجيش الحر، حتى إغلاقها في أواخر عام 2017.
هذا “الاحتكار” في التوريد، أدى إلى انخفاض في عدد الأجهزة المتوافرة ومحدودية في أنواعها، وساهم أيضاً في ارتفاع أسعارها بشكل كبير، ما دفع التجار إلى البحث عن مصادر وطرق توريد أخرى، فكان التوريد من تركيا مروراً بمناطق سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية”، الخيار الأول الذي لم يستمر إلا أشهراً قليلة، قبل أن يخسر التنظيم حدوده مع تركيا ومناطق سيطرة فصائل المعارضة شمالاً، الذي لم يترك أمام التجار طريقاً للتوريد إلا من لبنان، على رغم ما يلف المهمة من مخاطر وصعوبات أمنية.
اقرأ أيضاً: درعا:”جيش خالد” يفرض الجلد وغرامات الذهب
اختيار لبنان مصدراً لتوريد الأجهزة الالكترونية، كان يحتاج إلى شبكة من التجار والمهربين، تبدأ من داخل لبنان وتنتهي في مناطق سيطرة المعارضة في محافظة درعا، وهذه الشبكة كان يدخل فيها عناصر من “حزب الله اللبناني” الذي يتولى الإشراف على النقل عبر الحدود من لبنان إلى سوريا، وهذا ليس سراً بل بات معلوماً للنظام والحزب معاً، بحسب ما يؤكد إياد، أحد مهربي التجهيزات الإلكترونية إلى محافظة درعا في حديثه إلى “درج”، موضحاً أن “سيارات عناصر الحزب لا يتم إيقافها ولا تفتيشها نهائياً عبر الحدود، وتمر وصولاً إلى الديماس ومنها إلى دمشق، ويتقاضون مبالغ مالية مرتفعة قد تصل إلى 30 في المئة من قيمة أي جهاز”، ويتولى طرف آخر داخل دمشق استلام الأجهزة وإخفاءها حتى يتم تحضير طريق لنقلها إلى وجهتها التالية. يضيف إياد: “التهريب يتم إلى درعا وسابقاً كان يتم إلى الغوطة وريف حمص أيضاً، أو تبقى البضاعة داخل دمشق ليتم تصريفها وبيعها هناك”، واصفاً هذه المرحلة من عملية التهريب بأنها الأصعب والأخطر، لأن طريق التهريب التالي قد لا يتأمن بسرعة، ما يعني ضرورة احتفاظ الوسيط في دمشق بالأجهزة لفترة زمنية غير معلومة، “الأمر الذي قد يعرضه للخطر وربما يتم اكتشاف أمره”.
مقطع فيديو نشره النظام لأجهزة الكترونية مهربة
الضباط من عناصر قوات النظام العسكرية أو الأمنية، هم من يتولون نقل الأجهزة إلى وجهتها النهائية باستخدام صلاحياتهم في المرور عبر الحواجز التابعة لقوات النظام من دمشق إلى درعا، ويوضح إياد أن سيارات الضباط تتعرض للتفتيش، لكن “يتم نقل الأجهزة على دفعات والضابط الذي يقوم بالنقل يكون مسؤولاً عن التمرير، وصولاً إلى آخر حاجز يفصل بين مناطق النظام والمناطق المحررة”، وبعدها يتم الاستلام في آخر محطة من عملية التهريب، التي قد تستمر أسابيع، وذلك تبعاً لـ “الظروف الأمنية والعسكرية في المقام الأول، وجهوزية الضابط الذي يتولى النقل في المقام الثاني”، بحسب إياد الذي أشار إلى أن عملية النقل من لبنان إلى دمشق هي الأسهل والأسرع، بينما من دمشق إلى درعا هي الأطول زمناً والأكثر تكلفة.
سبق وأعلن إعلام النظام السوري مراراً عن إلقاء القبض على مهربين أثناء نقلهم أجهزة إلكترونية إلى جنوب سوريا، وتتنوع هذه الحوادث بين ما هو حقيقي فعلاً وبين ما يراه إياد “كاذباً وهدفه الترويج الإعلامي فقط”، وحتى تلك الوقائع الحقيقية، فإن إعلام النظام يعمل على تزويرها وتضخيمها. يشرح إياد: “عندما يتم بث مقاطع لإحباط عمليات تهريب للأجهزة الالكترونية لا يقولون إنها أتت من لبنان بل من تركيا، حتى تتم التغطية على عملية التهريب من الحدود اللبنانية التي يشرف عليها حزب الله”.
اقرأ أيضاً: بلا محاكمات: الجثث تنتشر على طرقات درعا
الطريق الطويل التي تسلكه الأجهزة الإلكترونية وتعدد المهربين الذين يتلقون مبالغ مالية مرتفعة، ساهم في ارتفاع أسعار الأجهزة حتى وصل بعضها إلى الضعف تقريباً مقارنة بسعره داخل لبنان، ويختلف الارتفاع في السعر بين جهاز وآخر، يضيف إياد: “بعض الأجهزة يتم توفيرها من محال الإلكترونيات في دمشق، كحاملات الكاميرات والمعدات الصغيرة وقطع الصيانة، أما كاميرات التصوير المحمولة (go pro) وطائرات التصوير وأجهزة الاتصالات والانترنت فيتم توفيرها من لبنان وهي أكثر التجهيزات التي يتقاضى المهربون مبالغ مرتفعة عليها”.
فرض توريد الأجهزة الإلكترونية من لبنان نفسه كطريق وحيد متاح في الفترة الحالية، ويخشى التجار والمهربون من تطورات مفاجئة تؤدي إلى قطع هذا الطريق، في الوقت الذي لا تتوافر أي خطط بديلة تحسباً لذلك، ويتوقع إياد أن يكون الطريق من تركيا إلى درعا هو البديل في حال انقطاع طريق لبنان، ولكنه سيكون طريقاً “انتحارياً وصعباً للغاية” بحسب وصفه، مضيفاً: “لذلك لا بديل من عودة التجارة مع الأردن بأي شكل، وإلا سنضطر إلى الاعتماد على ما يتوافر في المناطق المحررة فقط من دون أي توريد جديد”.
تظهر هكذا نوعية من عمليات التهريب، حجم الفساد داخل المنظومة الأمنية والعسكرية سواء لقوات النظام أو “حزب الله”، وهو ما استغلته المعارضة بخاصة في المناطق المحاصرة، بداية من تهريب المواد الغذائية وصولاً إلى تهريب الأجهزة الإلكترونية والأسلحة، وربما ليس انتهاءً بتهريب الإنسان نفسه.