لا تشكل استقالة حكومة حسان دياب أي خطوة في طريق محاسبة من يقف وراء الجريمة في بيروت. الاستقالة ليست “أضعف الإيمان”، لا بل أنها قد تشكل حائط صدٍ في وجه أي رغبة حقيقية في المحاسبة، ويبدو أن السلطة العميقة راغبة في تحويل دياب إلى كبش فداء تستعيض فيه عن تقديم المسؤولين الحقيقيين عن الجريمة. وكما كان دياب واجهة للنظام حين اختاره الأخير رئيساً، سيمضي في المهمة عينها ليتحول إلى واجهته في لحظة محاسبته. وبدأت ملامح “طبخة البحص” تلوح من عين التينة (نبيه بري) ومن كليمنصو (وليد جنبلاط).
المشهد شائك من دون شك، والدمار الهائل الذي خلفه الانفجار جاء تتويجاً لانهيارات سبقته بأشهر، المسؤول عنها هذه السلطة التي تولى “حزب الله” هندستها على نحو يتيح له أداء وظائفه في الداخل والخارج، والاختباء خلفها لتفادي العقوبات الدولية عليه وعلى الأنظمة التي يعمل معها في دمشق وطهران.
وهنا على المرء أن يتوجس من دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى حكومة وحدة وطنية تتولى إدارة الكارثة. حكومة الوحدة الوطنية هي تماماً ما يريده “حزب الله”. ففي ظل موازين القوى الحالية سواء في المجلس النيابي أم لجهة السلاح غير الشرعي، الأمرة للحزب، وحكومة الوحدة الوطنية ستكون محكومة بهذه المعادلة، و”حزب الله” يحتاج إلى غطاء “وطني” يدفع عنه حُزم العقوبات، ويتولى تسويق الوظيفة التي اختارها الحزب للبنان. ناهيك بأن “حكومة الوحدة الوطنية” تعني إعادة القوى السياسية الفاشلة والمتورطة بالفساد حتى أذنيها. وأول اسم يلوح لرئاسة هذه الحكومة هو سعد الحريري مع ما يمثله من قصص فشل وفساد وارتهان اختبرها اللبنانيون أكثر من مرة. وطبعاً لن تخلو هذه الحكومة من “ثلث ضامن” سيكون بيد صهر رئيس الجمهورية جبران باسيل، أي الرجل الذي هتفت الساحات ضده، والذي كان يحمي المتهم الأول بالتسبب بالجريمة، مدير عام الجمارك بدري ضاهر.
كما أن الاستقالات من مجلس النواب ستكون بلا معنى وعديمة التأثير طالما أن النظام نفسه سيتولى إجراء الانتخابات النيابية المبكرة، إذا ما حدد موعداً مبكراً لها. فأحزاب السلطة ستشرع قانون انتخابات على مقاساتها، وستجري التسويات الوقحة تحت أنظارنا. سيراعى وليد جنبلاط ويأتي لنا بابنه، وابن سليمان فرنجية سيكون الثابتة الثانية وغيرهم وغيرهم من غلمان النظام ممن تسببوا لنا بالكارثة.
يبدو أن السلطة العميقة راغبة في تحويل دياب إلى كبش فداء تستعيض فيه عن تقديم المسؤولين الحقيقيين عن الجريمة.
الضغط الكبير يجب أن ينصب على حكومة حيادية تتولى إعداد مشروع قانون للانتخابات على أن تشرف عليها، وفي هذا الوقت يجب الإسراع في بلورة تحالف مدني عريض يستثمر بحالة الانفكاك الكبيرة عن أحزاب السلطة ويسعى، وبسرعة، إلى بناء خريطة ترشيحات في مختلف المناطق اللبنانية لمنافسة أحزاب السلطة التي سطت على أموال اللبنانيين، وتسببت بالكارثة التي حلت بعاصمتهم.
حكومة حيادية قادرة على إقناع المجتمع الدولي بأن ثمة ما يؤمل به في لبنان، وأنه يحاول أن يكف عن كونه “دولة حزب الله”، وأن سلطته يمكن تقويمها بما ينسجم مع الحد الأدنى الذي يفترضه الضمير العالمي بدولة مثل لبنان. حكومة حيادية ومستقلة فعلاً، وليس على نحو ما سعت السلطة على نحو مضحك بأن تقنعنا بأن حكومة دياب حيادية، بينما كانت هي أكثر حكومة منحازة شهدها لبنان منذ مرحلة ما بعد الطائف.
وهنا لا بد من التفكير بـ”حزب الله” بوصفه المحدد الأكبر للخيارات العامة في لبنان. أصاب الانفجار دولة الحزب بمقتل، بعدما كانت تترنح بفعل الانهيار المالي وبفعل العقوبات التي راحت تقترب من المؤسسات الرسمية ومن شخصيات في محيط الحزب، ولا تقتصر على مؤسساته وعلى مسؤوليه. الحكمة تقتضي أن ينحني الحزب للعاصفة، وهي عاصفة بقوة الانفجار الذي خلفه فساد دولته وفشلها.
لا خيار أمام أحد سوى بحكومة حيادية ومستقلة، وعلى سعد الحريري ألا يعرقل وصول سني مستقل فعلاً وحيادي فعلاً، وإلا فإن مسؤوليته لن تكون أقل من مسؤولية “حزب الله” عن “نهاية لبنان الكبير”.