ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

لبنان بين حرّية التعبير و”هيبة الدولة”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تحوّل اسم علي برّو إلى قضيّة رأي عامّ بعدما استدعاه القضاء بسبب مقطع فيديو استهدف فيه رئيس الحكومة نوّاف سلام، على خلفيّة إشكاليّة إضاءة صخرة الروشة،المشكلة ليست في وجود خطاب بذيء فهذا أمر يمكن تجاهله، بل المشكلة في تحويل هذا الخطاب إلى قضيّة دولة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في لبنان، البلد المنهك بفعل الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية، يجد الرأي العامّ نفسه فجأة أمام نقاش عقيم: هل يجب توقيف صحافي أو أيّ شخص بسبب تعليقات بذيئة ومسيئة على السوشيال ميديا؟ صحيح أن كثيراً من هذه التعليقات هو في سياق حملة سياسية ربما، لكن هل هذا يستدعي قبضة أمنية؟

مخطئ كثيراً من قرّر في الدولة استهداف أشخاص بسبب تعليقات مهما بدت استفزازية على السوشيل ميديا. ففي زمن الصعود الكوني للشعبوية لم يعد الإسفاف والبذاءة يعنيان الكثير، فكثرة عرض التفاهة تخفض الطلب عليها مع الوقت، لكنّ المشكلة هي حين تتحوّل هذه التفاهة الى هدف للملاحقة الأمنية، ما يُعلي من شأنها بدل تركها تذوي وحدها.

في الأسابيع الأخيرة، شهد اللبنانيون قضيّة إضاءة صخرة الروشة بصور زعيمي “حزب الله”، رغم صدور قرار رسمي يمنع استخدام المعالم العامّة سياسياً. بدل أن تُدار القضيّة برويّة وبآليات واضحة وشفّافة تحافظ على حياد الفضاء العامّ، تحوّلت إلى جدل استفزازي داخلي، عمّق الانقسام عوض أن يثبت هيبة القانون، وتحوّلت القضيّة إلى مطاردة للجمعيّة التي أضاءت الصخرة، ولأشخاص استخدموا “السلاح”  الأمضى في هذه الحالة وهو السخرية والشتيمة، وهو سلاح لطالما كان سهلاً أن تقع في فخّه السلطة، أيّ سلطة.

تحوّل اسم علي برّو إلى قضيّة رأي عامّ بعدما استدعاه القضاء بسبب مقطع فيديو استهدف فيه رئيس الحكومة نوّاف سلام، على خلفيّة إشكاليّة إضاءة صخرة الروشة.

هذه المفارقة تختصر مأزق حرّية التعبير في لبنان: كيف يُستدرج المجتمع للدفاع عن حرّية أشخاص لا يضيفون شيئاً إلى النقاش العامّ سوى الضجيج؟ وكيف يتحوّلون، بفضل الملاحقات، إلى “أبطال حرّيات”؟

في النهاية، المشكلة ليست في وجود خطاب بذيء فهذا أمر يمكن تجاهله، بل المشكلة في تحويل هذا الخطاب إلى قضيّة دولة. والنتيجة أن الرسائل التي تصل إلى الناس تصبح متناقضة ومشوّشة: حرّية التعبير تُختزل في الدفاع عن أفراد يعمدون إلى تشويش الرأي العامّ، فيما القضايا الحقوقية الأعمق تبقى بلا حماية.

استدعاء برّو قضائياً على خلفيّة ما قاله، يفتح نقاشاً خطيراً حول حرّية التعبير وحدودها في لبنان، فالدستور اللبناني ينصّ على أن حرّية التعبير “مكفولة ضمن حدود القانون”. لكنّ هذه “الحدود” فضفاضة، لأن قانون العقوبات ما زال يجرّم القدح والذم وإهانة المسؤولين. أيّ عبارة قد تفسَّر كـ”تطاول”، قد تُعرّض صاحبها للاستدعاء أو الملاحقة، وأحياناً التوقيف.

في المقابل، المعايير الدولية واضحة: حتى الكلام المسيء والمستفزّ محميّ متى كان موجّهاً إلى مسؤولين عامّين، شرط ألا يتضمّن تحريضاً مباشراً على العنف. الحلّ في هذه الحالات يكون مدنياً (تعويض، حقّ ردّ) لا جزائياً (سجن، ملاحقة).

نوّاف سلام ليس مجرّد رئيس حكومة؛ هو قاضٍ دولي سابق ورجل قانون يُفترض أن يكون أكثر تمسّكاً بالمعايير الدولية لحرّية التعبير، حتى لو كان هو المستهدَف بالإساءة.

فمع تجاوب القضاء مع الملاحقة بحجّة “القدح والإهانة”، فإن الرسالة التي تصل إلى الرأي العامّ هي أن القانون يُستَخدم لحماية هيبة الأشخاص، لا لحماية حرّية الناس. وهذا تناقض خطير مع صورة لبنان كبلد يتباهى بتعدّد الأصوات.

في خلفيّة هذا المشهد، يطلّ “حزب الله” وكأنه يستعيض عن خسائره العسكرية في المواجهة مع إسرائيل، وعن الضغط المتعاظم لنزع سلاحه، باختراع أعداء داخليين ومعارك دونكيشوتية حول التعبير. فبدل أن يواجه الأسئلة الوجودية عن جدوى سلاحه وموقعه في الدولة، يلجأ إلى استهداف رئيس الحكومة نوّاف سلام، وتحويله إلى “خصم” وعدو داخلي عبر حملات شرسة يقودها مؤثّروه وإعلاميوه.

هذه الحملات تقوم على ترسانة من الإسفاف والبذاءة، لا لتفنيد سياسات أو نقد مواقف، بل لتفريغ غضب القاعدة وتثبيت سردية أن أيّ نقد للحزب أو اعتراض على سلوكه هو اعتداء على “المقاومة”. 

النتيجة أن النقاش العامّ يختزل في مهاجمة شخصية وإهانات مبتذلة، فيما تتوارى الأسئلة الجوهرية التي تتعلّق بمستقبل لبنان وعلاقته بالعالم وببنية دولته.

المشكلة هي حين تقع الدولة أو رئيس الحكومة أو  رئيس الجمهورية في الفخّ، ويتمّ السماح بتحويل هذا الهجوم إلى معركة حرّيات.

ما يزيد القلق في هذه المرحلة على وضع الحرّيات، ما قاله رئيس الجمهورية جوزاف عون في أحد اللقاءات بشأن الحرّية المضبوطة، حيث اعتبر أن الحرّية مصانة شرط “ألا تُستخدَم للإساءة”، مضيفاً أنه “لا يجوز أن تتحوّل وسائل الإعلام إلى أداة للتحريض على رموز الدولة أو الإساءة لدول شقيقة وصديقة”.

هذه عبارات فضفاضة عادة ما تستخدمها السلطات لتبرير تضييق هامش النقد والمسارعة لاستخدام الأمن والقضاء ضدّ الخصوم.
بعد هذا التصريح بأيّام قليلة، جرى استدعاء شابّ بسبب تعليق ساخر تناول زوجة الرئيس، نعمت عون. هذه الحادثة لا تعكس فقط حساسية مفرطة من النقد، بل تكشف عبثية المحاولة في زمن السوشيل ميديا: فكلما حاولت السلطة ضبط الكلام، زاد الكلام انتشاراً وتضخيماً. كلّ محاولة قمع تتحوّل إلى مادّة للفت الأنظار أكثر، وإلى منصّة مضاعفة لمن لا يكترث أحد لرأيه أصلاً.

في عصر الشبكات المفتوحة، تصبح ملاحقة أفراد بسبب تعليقات أو منشورات ضرباً من العبث. فالمجتمع لم يعد يتلقّى المعلومة أكانت صائبة أم مخادعة من قناة رسمية واحدة، بل من آلاف الصفحات والحسابات، بحيث يستحيل ضبطها أو إخمادها.

 الإصرار على تحويل منشور أو تعليق إلى قضيّة دولة لا يُفضي إلا إلى المزيد من إضعاف صورة الدولة نفسها.

القضيّة أبعد من علي برّو أو أسلوبه هو وغيره. السؤال الأهم: كيف نرسم حدود حرّية التعبير ونضمن أن الدولة لا تفرض رقابة انتقائية؟
بين بذاءة خطاب وخرق حزبٍ نافذ لقرار حكومي، يقف لبنان أمام المرآة: هل يريد دولةً تحمي حرّية الكلمة حتى عندما تزعجها، أم سلطةً تردّ على العجز بمزيد من التضييق؟

في النهاية، السؤال ليس: هل علي برّو وأمثاله مزعجون؟ بل: هل نستحقّ كمجتمع أن نُحمى من تعسّف السلطة حتى وهي تُستفَز؟

ابراهيم الغريب - صحافي لبناني | 15.11.2025

على خطّ طرابلس – حمص: حدود سائبة ودولة غائبة و”كزدورة” بأقلّ من 200 دولار

الفساد يعمّق اقتصاد التهريبفي ظلّ الانهيارين الماليين في لبنان وسوريا، تحوّل التهريب إلى شريان اقتصادي رئيسي. مهرّبون، ضبّاط، وسماسرة يعيشون من هذه التجارة التي تدرّ ملايين الدولارات شهرياً. وبحسب مصادر أمنية لبنانية سابقة، فإن بعض المعابر "يُفتح ويُغلق بتنسيق سياسي محلّي مقابل رشى شهرية". النتيجة: حدود سائبة تموّلها الفوضى وتغطّيها المصالح.

تحوّل اسم علي برّو إلى قضيّة رأي عامّ بعدما استدعاه القضاء بسبب مقطع فيديو استهدف فيه رئيس الحكومة نوّاف سلام، على خلفيّة إشكاليّة إضاءة صخرة الروشة،المشكلة ليست في وجود خطاب بذيء فهذا أمر يمكن تجاهله، بل المشكلة في تحويل هذا الخطاب إلى قضيّة دولة.

في لبنان، البلد المنهك بفعل الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية، يجد الرأي العامّ نفسه فجأة أمام نقاش عقيم: هل يجب توقيف صحافي أو أيّ شخص بسبب تعليقات بذيئة ومسيئة على السوشيال ميديا؟ صحيح أن كثيراً من هذه التعليقات هو في سياق حملة سياسية ربما، لكن هل هذا يستدعي قبضة أمنية؟

مخطئ كثيراً من قرّر في الدولة استهداف أشخاص بسبب تعليقات مهما بدت استفزازية على السوشيل ميديا. ففي زمن الصعود الكوني للشعبوية لم يعد الإسفاف والبذاءة يعنيان الكثير، فكثرة عرض التفاهة تخفض الطلب عليها مع الوقت، لكنّ المشكلة هي حين تتحوّل هذه التفاهة الى هدف للملاحقة الأمنية، ما يُعلي من شأنها بدل تركها تذوي وحدها.

في الأسابيع الأخيرة، شهد اللبنانيون قضيّة إضاءة صخرة الروشة بصور زعيمي “حزب الله”، رغم صدور قرار رسمي يمنع استخدام المعالم العامّة سياسياً. بدل أن تُدار القضيّة برويّة وبآليات واضحة وشفّافة تحافظ على حياد الفضاء العامّ، تحوّلت إلى جدل استفزازي داخلي، عمّق الانقسام عوض أن يثبت هيبة القانون، وتحوّلت القضيّة إلى مطاردة للجمعيّة التي أضاءت الصخرة، ولأشخاص استخدموا “السلاح”  الأمضى في هذه الحالة وهو السخرية والشتيمة، وهو سلاح لطالما كان سهلاً أن تقع في فخّه السلطة، أيّ سلطة.

تحوّل اسم علي برّو إلى قضيّة رأي عامّ بعدما استدعاه القضاء بسبب مقطع فيديو استهدف فيه رئيس الحكومة نوّاف سلام، على خلفيّة إشكاليّة إضاءة صخرة الروشة.

هذه المفارقة تختصر مأزق حرّية التعبير في لبنان: كيف يُستدرج المجتمع للدفاع عن حرّية أشخاص لا يضيفون شيئاً إلى النقاش العامّ سوى الضجيج؟ وكيف يتحوّلون، بفضل الملاحقات، إلى “أبطال حرّيات”؟

في النهاية، المشكلة ليست في وجود خطاب بذيء فهذا أمر يمكن تجاهله، بل المشكلة في تحويل هذا الخطاب إلى قضيّة دولة. والنتيجة أن الرسائل التي تصل إلى الناس تصبح متناقضة ومشوّشة: حرّية التعبير تُختزل في الدفاع عن أفراد يعمدون إلى تشويش الرأي العامّ، فيما القضايا الحقوقية الأعمق تبقى بلا حماية.

استدعاء برّو قضائياً على خلفيّة ما قاله، يفتح نقاشاً خطيراً حول حرّية التعبير وحدودها في لبنان، فالدستور اللبناني ينصّ على أن حرّية التعبير “مكفولة ضمن حدود القانون”. لكنّ هذه “الحدود” فضفاضة، لأن قانون العقوبات ما زال يجرّم القدح والذم وإهانة المسؤولين. أيّ عبارة قد تفسَّر كـ”تطاول”، قد تُعرّض صاحبها للاستدعاء أو الملاحقة، وأحياناً التوقيف.

في المقابل، المعايير الدولية واضحة: حتى الكلام المسيء والمستفزّ محميّ متى كان موجّهاً إلى مسؤولين عامّين، شرط ألا يتضمّن تحريضاً مباشراً على العنف. الحلّ في هذه الحالات يكون مدنياً (تعويض، حقّ ردّ) لا جزائياً (سجن، ملاحقة).

نوّاف سلام ليس مجرّد رئيس حكومة؛ هو قاضٍ دولي سابق ورجل قانون يُفترض أن يكون أكثر تمسّكاً بالمعايير الدولية لحرّية التعبير، حتى لو كان هو المستهدَف بالإساءة.

فمع تجاوب القضاء مع الملاحقة بحجّة “القدح والإهانة”، فإن الرسالة التي تصل إلى الرأي العامّ هي أن القانون يُستَخدم لحماية هيبة الأشخاص، لا لحماية حرّية الناس. وهذا تناقض خطير مع صورة لبنان كبلد يتباهى بتعدّد الأصوات.

في خلفيّة هذا المشهد، يطلّ “حزب الله” وكأنه يستعيض عن خسائره العسكرية في المواجهة مع إسرائيل، وعن الضغط المتعاظم لنزع سلاحه، باختراع أعداء داخليين ومعارك دونكيشوتية حول التعبير. فبدل أن يواجه الأسئلة الوجودية عن جدوى سلاحه وموقعه في الدولة، يلجأ إلى استهداف رئيس الحكومة نوّاف سلام، وتحويله إلى “خصم” وعدو داخلي عبر حملات شرسة يقودها مؤثّروه وإعلاميوه.

هذه الحملات تقوم على ترسانة من الإسفاف والبذاءة، لا لتفنيد سياسات أو نقد مواقف، بل لتفريغ غضب القاعدة وتثبيت سردية أن أيّ نقد للحزب أو اعتراض على سلوكه هو اعتداء على “المقاومة”. 

النتيجة أن النقاش العامّ يختزل في مهاجمة شخصية وإهانات مبتذلة، فيما تتوارى الأسئلة الجوهرية التي تتعلّق بمستقبل لبنان وعلاقته بالعالم وببنية دولته.

المشكلة هي حين تقع الدولة أو رئيس الحكومة أو  رئيس الجمهورية في الفخّ، ويتمّ السماح بتحويل هذا الهجوم إلى معركة حرّيات.

ما يزيد القلق في هذه المرحلة على وضع الحرّيات، ما قاله رئيس الجمهورية جوزاف عون في أحد اللقاءات بشأن الحرّية المضبوطة، حيث اعتبر أن الحرّية مصانة شرط “ألا تُستخدَم للإساءة”، مضيفاً أنه “لا يجوز أن تتحوّل وسائل الإعلام إلى أداة للتحريض على رموز الدولة أو الإساءة لدول شقيقة وصديقة”.

هذه عبارات فضفاضة عادة ما تستخدمها السلطات لتبرير تضييق هامش النقد والمسارعة لاستخدام الأمن والقضاء ضدّ الخصوم.
بعد هذا التصريح بأيّام قليلة، جرى استدعاء شابّ بسبب تعليق ساخر تناول زوجة الرئيس، نعمت عون. هذه الحادثة لا تعكس فقط حساسية مفرطة من النقد، بل تكشف عبثية المحاولة في زمن السوشيل ميديا: فكلما حاولت السلطة ضبط الكلام، زاد الكلام انتشاراً وتضخيماً. كلّ محاولة قمع تتحوّل إلى مادّة للفت الأنظار أكثر، وإلى منصّة مضاعفة لمن لا يكترث أحد لرأيه أصلاً.

في عصر الشبكات المفتوحة، تصبح ملاحقة أفراد بسبب تعليقات أو منشورات ضرباً من العبث. فالمجتمع لم يعد يتلقّى المعلومة أكانت صائبة أم مخادعة من قناة رسمية واحدة، بل من آلاف الصفحات والحسابات، بحيث يستحيل ضبطها أو إخمادها.

 الإصرار على تحويل منشور أو تعليق إلى قضيّة دولة لا يُفضي إلا إلى المزيد من إضعاف صورة الدولة نفسها.

القضيّة أبعد من علي برّو أو أسلوبه هو وغيره. السؤال الأهم: كيف نرسم حدود حرّية التعبير ونضمن أن الدولة لا تفرض رقابة انتقائية؟
بين بذاءة خطاب وخرق حزبٍ نافذ لقرار حكومي، يقف لبنان أمام المرآة: هل يريد دولةً تحمي حرّية الكلمة حتى عندما تزعجها، أم سلطةً تردّ على العجز بمزيد من التضييق؟

في النهاية، السؤال ليس: هل علي برّو وأمثاله مزعجون؟ بل: هل نستحقّ كمجتمع أن نُحمى من تعسّف السلطة حتى وهي تُستفَز؟