التحويلات المالية أو الأموال التي يرسلها المهاجرون الى مجتمعاتهم وعائلاتهم في بلادهم الأمّ هي عامل يسهم في دفع عجلة التنمية في الدول النامية والفقيرة. هذه أصبحت حقيقية راسخة منذ فترة طويلة، ونستذكرها اليوم عند حديثنا في لبنان عن فرص النهوض المتضائلة أمامنا نتيجة العجز السياسي والهيمنة الإيرانية وغيرها من الأزمات المستفحلة. فعندما يهاجر العمال من الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل الى الدول المتقدمة ذات الدخل المرتفع، يُرسل كثيرون منهم جزءاً من مدخولهم وأرباحهم إلى أفراد أسرهم. وهذا يدلنا إلى واحدة من فوائد الهجرة. ولا تقتصر الفوائد على الإقتصاد فحسب، بل تنسحب إلى تأثيرات “ديموقراطية” في بلدانهم الأصلية. فالمهاجرون الذين يعودون يجلبون معهم القيم التي اكتسبوها، وحتى أولئك الذين يبقون في الخارج ينقلون آراءهم ومواقفهم السياسية إلى العائلة والأصدقاء عبر الاتصال بهم عن بعد. تعزز هذه “التحويلات الإجتماعية”، – وهو المفهوم الذي سنته الباحثة بيغي ليفيت – القيم الديمقراطية والمشاركة السياسية حتى بين المواطنين الذين لا يغادرون بلدهم الأم أبداً.
كما ان التحويلات المالية للمهاجرين الى البلد الأم لها تأثير ديموقراطي في الدول ذات الانظمة التسلطية أو الاستبدادية. أحد آخر الأبحاث في هذا المجال، وهو كتاب بعنوان “الهجرة والديموقراطية”، يسلّط الضوء على تأثير تحويلات العمال على العمل السياسي في “دول الجنوب” النامية. يخلص الكتاب الى أن هذه التحويلات المالية ليست أكبر مصدر للدخل الأجنبي في الدول القمعية فحسب، بل أنها أيضاً – على عكس المساعدات والاستثمارات الأجنبية التي يمر معظمها عبر الحكومات وغالباً ما تستعملها هذه الأخيرة لتعزيز سيطرتها – تصل مباشرة الى المواطنين. ونتيجة لذلك، فإنها توفر الموارد التي تجعل المعارضة السياسية ممكنة، وتجعل المواطنين أقل إعتماداً على الجكومات التسلطية، وأكثر قابلية للمطالبة بالاصلاح. أي أنها، بكلام آخر، تفتح الباب أمام التغيير الديموقراطي.
وعليه، ما هو تأثير التحويلات المالية على المشهد السياسي اللبناني؟ وما هو دور الهجرة و”الدياسبورا” اللبنانية في عملية التغيير الديموقراطي في لبنان؟
إقرأوا أيضاً:
اذا كانت علاقة التحويلات المالية للمهاجرين اللبنانيين بالتنمية في البلد الأم واضحة ومثبتة من خلال الأشخاص والجمعيات الذين احتفظوا بروابط مع بلدات وقرى مسقط رأسهم واسهموا في تنميتها من خلال المساعدات الخيرية، فإن علاقة هذه التحويلات بالتغيير الديموقراطي في لبنان هي أكثر التباساً وتطرح اشكالية كبرى.
النظام السياسي الطائفي اللبناني ليس تسلطياً أو استبدادياً لكنه ليس ديموقراطياً بالمعني الفعلي (تجري فيه انتخابات نيابية لكن لا مساءلة ومحاسبة فعلية للنخب السياسية). تعتبر الباحثة ويندي بيرلمان، أستاذة العلوم السياسية في جامعة نورث وسترن الأمريكية، في هذا السياق أن الهجرة هي بمثابة آلية غير رسمية تسهم في إستمرار البنى والممارسات السياسية السائدة في لبنان. فهي تساعد في الحفاظ على الطابع الزبائني والطائفي لهذه الممارسات من خلال ثلاث آليات أساسية.
أولاً، الهجرة باعتبارها “صمّام أمان” لهذه الممارسات. ففي لبنان وغيره من البلدان، تُخفف الهجرة وما تولده من تحويلات للمهاجرين من الاستياء الاجتماعي والسياسي الذي قد يشكل تحدياً للنخب السياسية. وساعدت تاريخياً في الحد من البطالة في لبنان وفي منع ظهور عدد كبير من العاطلين من العمل من النوع الذي لعب دوراً اساسياً في الحركات الاحتجاجية في تونس ومصر عام 2011. وهذا يخفف من عدد الذين قد يضغطون بشكل أكبر على الحكومة لخلق فرص عمل أو لمحاسبتها سياسياً. كما تلعب تحويلات المهاجرين دوراً في تبديد النقمة الاجتماعية. كما ان زيادة القوة الشرائية لمئات آلاف اللبنانين من خلال هذه التحويلات تحد من مساءلتهم للنخب السياسية ومطالبتها بالاصلاح.
آلية ثانية متصلة تربط الهجرة باستمرار الممارسات السياسية عينها هي وظيفة الهجرة في توفير خيار “الخروج” من الوضع السياسي القائم دون السعي لتغييره، ما يُقلل من حاجة وإحتمالية أن يكون للشخص المعني “صوت سياسي” يدعم حملات الاصلاح السياسي في لبنان. بهذا المعنى، السعي الى “الخروج” من لبنان يأتي على حساب السعي لإصلاحه.
الآلية الثالثة، ولعلها الأكثر تاثيراً، ترتبط بالموارد المالية التي يضخها المهاجرون في النظام السياسي اللبناني. فعلى الرغم من عدم توفر بيانات ومعلومات دقيقة حول مساهمات “الدياسبورا” في الدعم المالي للأحزاب السياسية اللبنانية، الا أن هذه الأموال ذات دلالة مهمة. وهذا ما يُفسر سعي الأحزاب اللبنانية الرئيسية للحصول على هذه المساهمات من خلال انشائها فروعاً تنظيمية وشبكات ومحطات إخبارية في الخارج، من أميركا الجنوبية الى أستراليا وصولاً الى غرب أفريقيا. وهذا ما يُفسر أيضاً الزيارات المتكررة التي يقوم بها السياسيون اللبنانيون لمناصريهم حول العالم، حيث يشاركون في الاجتماعات والمؤتمرات وحفلات العشاء وفعاليات جمع التبرعات.
وهناك طريقة مختلفة يُعزز من خلالها المال الاغترابي البنى والممارسات السياسة السائدة في لبنان. ينجح المهاجرون في جمع الثروات في الخارج، ومن ثم يعودون الى لبنان حيث يسعون الى تكريس وحماية هذه الثروات من خلال الحصول على منصب سياسي. وفي سعيهم وراء السلطة السياسية أو النفوذ المحلي، ينخرط العديد من المهاجرين العائدين في الممارسة السياسية التقليدية، وبالتالي يُصبحون جزءاً من إدامة وإعادة إنتاج النظام السياسي اللبناني، وذلك من خلال حجزهم مقاعد على اللوائح الانتخابية التي يترأسها زعيم أو قطب سياسي مقابل الدعم المالي (نعمة طعمة وياسين جابر كأمثلة بارزة). ومنهم من كان حجم ثرواتهم كافياً ليصبحوا هم أنفسهم سياسيين مستقلين (عصام فارس ومحمد الصفدي ومؤخراً فؤاد مخزومي)، وأحيانا أقطاباً سياسيين جدد (رفيق الحريري).
التحول السياسي الكبيرالذي أحدثته انتفاضة 17 تشرين أول 2019 في الداخل كان أيضاً له صداه اللافت والمعبر في الانتشار اللبناني حيث شهدنا تظاهرات للبنانيين في أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا دعماً للمطالب الاصلاحية التي رفعتها الانتفاضة. لكننا في ظل الانهيار المالي والاقتصادي الحالي، نقف أمام الأسئلة الصعبة: ماذا سيكون تأثير تحويلات المهاجرين على الواقع السياسي اللبناني؟ وهل يبقى التنافس على اجتذاب الاصوات الانتخابية والتبرعات المالية في “الدياسبورا” حكراً على الأحزاب السياسية اللبنانية التقليدية؟
إقرأوا أيضاً:
.