وفي سياق هذا الجهاد الزراعي، من المفيد ملاحظة ارتفاع نسبة زيادة كلفة أي استثمار زراعي جديد في جنوب لبنان على أساس سعر الصرف المدعوم من مصرف لبنان للمدخلات الزراعية (3950 ليرة للدولار)، بشكل جنوني. الموز مثلاً وصلت الزيادة فيه إلى 133 في المئة، التبغ 121 في المئة، البندورة (داخل الخيم الزراعية) 191 في المئة، البطيخ (في حقل مفتوح) 179 في المئة.
هذه الأرقام نشرها أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية كنج حمادة على صفحته في “فايسبوك”، وهي تأتي الآن في ظل الدعوات إلى الرجوع إلى الأرض، والبحث في زراعة البلاكين وحدائق المنازل عن حلول للميزان التجاري المنهار، والدولة المفلسة. هذه الدعوة، أي مجابهة الانهيار المالي بالزراعة، تشبه التكليف الشرعي الديني الذي يعتمده حزب الله في قضاياه الكبرى مع مناصريه.
“الجهاد الزراعي” الذي أطلقه نصرالله، يحاكي ما قاله قبله مسؤولون كثيرون، وهو تعبير واضح عن انتفاء الحلول بيد هذه السلطة، التي يوم وعدت بضبط سعر الصرف، ناهز الدولار الـ10 آلاف ليرة. والآن تريد تبديد الضباب الذي صنعته، بوردة في حديقة، أو باقة جرجير في أحسن الأحوال.
تأتي تلك الدعوات كمن نسي أو تناسى أن نهر الليطاني الذي ينبع من العليق غرب مدينة بعلبك (خزّان المقاومة) البقاعية وينتهي في القاسمية في صور، يمتد تلوّثه على طول هذه الروافد، إذ تبلغ مساحة حوض الليطاني نحو 2110 كيلومترات مربعة (خمس مساحة لبنان). وحوض الليطاني هذا، يضمّ أكبر مساحات زراعية في لبنان، وبالتالي هذه المزروعات التي علينا الآن التعويل عليها لتنتشلنا من الأزمة، تُروى غالباً بمياه ملوّثة ومسرطنة!
أما مزارعو التّفاح في مختلف المناطق، فصورتهم لا تغيب عن بالنا وهم يرمون محاصيلهم في الأرض كل عام، لعجزهم عن تصديرها، وغياب الدولة عنهم. وهي الدولة التي يريد الآن مسؤولون فيها، تمييع النكبات التي أوصلونا إليها، قائلين لنا: “اذهبوا وازرعوا”، أو “لنتوجّه شرقاً أو غرباً” لناحية التصدير والاستيراد. فتصبح الزراعة أمراً حسناً حين يقرر مسؤول ذلك ذات مرّة لأنه محشور في الزاوية ولا يملك حلاً، فيما صراخ المزارعين وخسائرهم على مدى سنوات لم تكن مهمّة، ولم تكن جديرة بأن يسمعها أحد. ووزارة الزراعة يتولاها “حزب الله” منذ سنوات طوال، وطيلة تلك السنوات وحتى اليوم، لم تتوقف معاناة المزارعين يوماً واحداً.
المزارع العكّاري علي طه، يختصر الحكاية قائلاً لـ”درج”: “المشكلة الآن لم تعد التصدير، بل هي أبعد من ذلك، المشكلة في كيف سيؤمن المزارع البذور والأدوية والمبيدات”، مضيفاً: “إذا بقي وضع الدولار هيك، سنة الجاي ما حدا رح يزرع”.
روح الأرياف
يتوقف حمادة عند الدعوات إلى الزراعة التي تتكاثر في الفترة الأخيرة، وترمى يميناً وشمالاً بتلك الخفّة الغريبة، يقول: “الزراعة ليست هواية، بل عمل جديّ، يحتاج إلى جهد ومثابرة”.
ويوضح حمادة لـ”درج” أن “القطاع الزراعي يعاني من مشكلات كثيرة تحتاج إلى حلول حقيقية حتى تتمكّن الزراعة من التطوّر وتأمين الأمن الغذائي وزيادة الأرباح. تبدأ المشكلات بملكية الأراضي مروراً بمشكلة التعاونيات وسياساتها الخاطئة، وصولاً إلى صعوبات التصريف وسواها. وإضافة إلى ذلك كله، المدخلات ارتفعت أسعارها كثيراً الآن مع ارتفاع سعر الصرف، مثل أنظمة الري ومعدّاتها، المبيدات، الأسمدة الكيماوية، الأدوية التي تُستورد من الخارج. كلفة الاستثمار زادت كثيراً ولا يمكن تعويضها إلا عبر التصدير، ما يخلق مشكلة كبيرة في الحاجة المحلية التي لن تستطيع الزراعة تلبيتها. ثلث كلفة الإنتاج الزراعي مرتبط بالدولار لأنه من المدخلات الخارجية، وبالتالي ارتفع مع ارتفاع الدولار، و70 في المئة من الكلفة، مثل أجرة العمال مثلاً، زادت أيضاً وإن بنسب أقل (15 في المئة)”.
ويتابع حمادة: “كلفة الاستثمار ارتفعت كثيراً لأنّ جزءاً كبيراً منها مرتبط بسعر الدولار، كالبيوت البلاستيكية أو أنظمة الريّ (التنقيط) وفي حال عدم استخدام هذه التقنيات المتطورة، سيكون العمال أمام حل استخدام أساليب أقل تطوراً وأقل كلفة وأقل جدوى ربما. فعدم استخدام نظام التنقيط للري، يعني استخدام كميات كبيرة من المياه مثلاً، كما قد يلجأ المزارعون إلى أدوية زراعية أرخص، إنما ملوِّثة أو مضرّة”.
ويؤكد أن “الزراعة اللبنانية تملك قدرات مهمة على الصعيد الريفي بشكل خاص، وقد حمت المجتمعات المحلية لا سيما في فترة الحرب السورية واللجوء السوري، إذ استوعبت عدداً من اليد العاملة وأمنت جزءاً من الطلب المحلي على المنتجات. ربما لا تستطيع الزراعة رد خسائر المصارف أو معالجة ميزان المدفوعات، لكنها قادرة على خلق نوع من الحركة والدينامية في المناطق الريفية”.
لبنان الأخضر…
بعد خطاب نصر الله، تغيّر اسم صفحة “عندي بديل” على “فايسبوك” والتي كانت تروّج بضائع إيرانية وسورية بأسعار أرخص من المنتجات المحلية. الصفحة قررت أن تستجيب فوراً لدعوة الأمين العام ليصبح اسمها “النهضة الزراعية الصناعية (عندي بديل)”، شارحةً “ما تغير مفهوم الغروب، نحنا بنفس الحرب بعدنا والسيد كلمته بتصير تاني يوم خطة عمل…”.
إلا أن هذا النشاط الذي دبّ فجأةً في صفوف أنصار “السيّد” يصعب فعلاً أن يتحوّل إلى خطة عمل تتعدّى البلاكين وأسطح المنازل، إذ يقول المهندس البقاعيّ إ. أ. (فضّل عدم ذكر اسمه): “لبنان الأخضر، الذي عرف بقاعه يوماً باهراءات روما، وصدّر خشب الأرز إلى معبد سليمان الحكيم ولبناء سفن الفينيقيين، ثم عاد واشتهر بتربية دود القزّ وصناعة الحرير، لم يبق من نجاحاته الزراعية سوى هذا التاريخ وبعض أبيات الشعر”.
يتحدّث إ. أ. عن معوقات داخلية لتطور القطاع الزراعي، يقول: “يعاني القطاع من ضعف دور الدولة في الإرشاد الزراعي وفي توجيه المزارعين نحو الزراعات البديلة التي تؤمن إنتاجية أفضل وربح أعلى للمزارع، إذ لا تزال الزراعات تعتمد الأساليب التقليدية، التي تعتبر غالية أيضاً، لا سيما بالنسبة إلى المزارعين الصغار. إضافة إلى غياب التوزيع العادل للأرباح بين التاجر والمزارع إذ يقوم المزارع بالأعمال الزراعية كافة، فيما أرباحه مقارنة بأعماله وتعبه واستثماره تعدّ ضئيلة، كما يعاني القطاع من غياب الخطط الحقيقية لتصريف الإنتاج الزراعي وربطه بالصناعات الزراعية والغذائية، إضافة إلى ضعف الدعم الذي يتلقاه المزارع اللبناني من دولته، من مستلزمات زراعية كالمبيدات والبذور والشتول”…
يتطرق المهندس الزراعي إلى الدولة المستقيلة من دورها الرقابي لمعايير اتفاقيات التصدير، بخاصة أن نحو 45 في المئة من صادراتنا الزراعية تذهب نحو الخليج العربي الذي بات يعتمد المعايير الأوروبية والعالمية، كما أن هناك تقاعساً في تسويق الإنتاج الزراعي اللبناني في دول الانتشار بخاصة بما يحمل لبنان من طاقات اغترابية، فيما يواجه المزارع اللبناني منافسة شديدة من المنتجات المستوردة.
في المحصّلة، لا يستطيع تحقيق واحد إيفاء معاناة القطاع الزراعي حقّها، وقد لا تكفي صفحات قليلة للحديث عن الكوارث الزراعية السنوية، لكنّه محاولة للردّ على تلك الدعوات البليدة إلى التوجّه شرقاً وزراعة الشرفات والأراضي، ونحن وسط مركب ينهار… يحتاج إلى خطط لإنقاذه لا إلى مسكبة نعناع!