في مشهدٍ من فيلم “Adults in the room”، الذي ينقل تجربة اليونان مع صندوق النقد الدولي، تقلّ سيارة أجرة وزير المالية السابق يانس فاروفاكيس في شوارع المدينة، ونراه يغرق في وجومه بعدما لاحظ أنّ المحلّات التجارية كلّها مغلقة، وعلّقت على أبوابها لافتات تشير إلى ذلك. بعد لحظات، يقاطعه السائق: “انظر، المحال مقفلة، افعل شيئاً لتفتح من جديد”. هذا المشهد بالتحديد، بدأ يحتلّ يوميّاتنا اللبنانيّة: “الزبائن الكرام، نعتذر عن الإقفال. لا يمكننا الاستمرار بسبب التطوّرات السريعة في تدهور سعر الصرف”. المشهد ذاته، مع فارقَين: أوّلاً، يحصل ذلك قبل أن يتدخّل صندوق النقد حتّى. ثانياً، لن وجد أحد ليفعل شيئاً حيال هذا الواقع.
هذه المحال المقفلة هي الترجمة العمليّة لانهيار السوق والعملة. في حالةٍ كهذه، واجب الدولة أن تتدخّل للحدّ من تبعات هذا الانهيار، ولإعادة هيكلة نظامها الاقتصادي بما يضمن وقف التدهور والانتقال التدريجيّ إلى المعافاة. المفارقة، أنّ الدولة، في هذه الأزمة بالتحديد، اختارت أن تحافظ بأبهظ الأثمان على النموذج الاقتصادي نفسه، وانتهت إلى التماهي بالكامل مع المحال التجارية، حتى صارت مثلها: للبيع، بداعي الإقفال. قولاً وفعلاً، الدولة في لبنان تبيع نفسها. من باب الدقّة نقول: السلطة في لبنان تبيع الدولة.

العنوان هذا ليس شعاراً رنّاناً للفت أنظار المتابعين، إنه بلاغٌ حرفي. لبنان فعلاً يُباع، بداعي إقفاله في مئويّة لبنان الكبير الأولى. بدأ القَيّمون على الوضع حل المسألة على طريقتهم الخاصّة وبما يناسب مصلحتهم. ففي 4 أيّار/ مايو 2020، نشر وزير المالية “التكنوقراطي” غازي وزني، عبر حسابه على “تويتر”، الخبر التالي: “استقبل وزير المالية مدير عام مديرية الشؤون العقارية والمساحة، جورج معراوي، ووفداً من نقابة المخمّنين العقاريين في لبنان برئاسة النقيب فوزي ضو الّذي وضع خبرات نقابته من دون بدل بتصرّف وزارة المالية لإنجاز عملية مسح وتخمين عقارات الدولة التي تقوم بها نقابة الطوبوغرافيّين”.
وغرّد المستشار السابق في وزارة المال هنري شاؤول التالي: “يقف لبنان على أكبر عملية نهب في العالم: بيع أصول الدولة وبيع الذهب لمصلحة الـ1 في المئة الأكثر ثراءً”، مؤكّداً بذلك أنّ إجراءات وزني ومن يقف خلفه مستمرة على قدم وساق.
لكن القصّة أقدم من ذلك، بدأ بيع الدولة تحديداً مع اتفاق الطائف، يوم تربّعت ترويكا الحريري- برّي- سلامة على عرش النموذج الاقتصادي اللبناني. حينها، خطا لبنان خطوته الأولى صوب الانهيار مع بَيع سندات الخزينة للدولة لقلّة من المستثمرين بفوائد خياليّة، وتثبيت سعر الصرف (وهو إجراء قد يكون ضروريّاً في لحظات ما بعد الحرب، إنّما الجريمة فهي في تثبيته لـ30 عاماً، حتّى ينفجر بين ليلة وضُحاها كما يحصل اليوم). ثمّ بدأ بيع الدولة رويداً رويداً، مثلاً، مع شركة “سوليدير” العقارية الّتي احتلّت أراضي لبنانية بالقوّة، وما زالت تفعل ذلك علماً أن عقدها قد انتهى. ثمّ بيعت الدولة مع كل شخطة قلم لرياض سلامة وهندساته المالية. وبيعت الدولة مع كل عملية خصخصة، وكل ضرب للقطاع العام، تحديداً مع كل تخفيض لموازنة الجامعة اللبنانية من عام 2005 وحتى اليوم، إذ خُفّضت ميزانية الجامعة الوطنيّة أكثر من 50 في المئة، وما زال التخفيض مستمرّاً عبر سياسة قضم الميزانيّة سنويّاً.
بَعيداً من هذه السردية التي أصبحت مألوفة جداً للبنانيين، عاد الحديث عن بيع أصول الدولة في أواخر عام 2019، باعتبار العملية هذه حلّاً لمعضلة عجز ميزان المدفوعات. حينها، بدأ الحديث عن “خطة إنقاذ”، بعد انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 بأيّام، وبعدما بات واضحاً أنّنا مقبلون على أزمة بالفعل، وإن كانت تصريحات المسؤولين تنكر وجودها. كان بإمكان الدولة حينها أن تحدّ من الاستيراد، أو تفرض ضريبة تصاعدية على الثروات وضريبة مباشرة على أرباح المصارف، لكن لا، كان ذلك مستحيلاً في عهد “حزب المصارف” – كما سمّاه نائب رئيس الحكومة إيلي الفرزلي علناً. فمسرحية 8 و14 آذار انتهينا منها اليوم، بات الكلام بالمباشر من دون حاجة إلى أي تمويه: حزب المصارف مقابل الفئات الشعبية المتضررّة من إجراءاته.
المحال المقفلة هي الترجمة العمليّة لانهيار السوق والعملة.
المهم، خطّة الإنقاذ هذه، تجاهلت التعديلات التي تمسّ ببنية النظام، واكتفت بالقشور، وتحديداً القشور التي تحمّل الناس عبء الانهيار، مثل المزيد من التقشّف ووضع اليد على الصناديق الاجتماعية ورفع الدعم. ثم أتى الحل السحري في أذهان دهاة الاقتصاد في السلطة: بيع أصول الدولة. أبسط قواعد الاقتصاد تقول أنّ هذا ضرباً إضافياً من السرقة، لا علاقة له بحل الأزمة. في حالةٍ كهذه، يُفتَرض أن تكون أصول الدولة أرضية خصبة للاستثمار من أجل زيادة الواردات. كان على الدولة أن تنظر إلى أصولها من هذه المقاربة منذ عقودٍ. أمّا بيعها اليوم لسدّ جزء من الدين المتراكم، وبأبخس الأثمان، عوضاً عن استثمارها في التنمية على المدى البعيد، فيقضي على فرصة كبيرة للخروج من الأزمة لاحقاً.
مرّت نصف سنة على هذا الحديث، وما اتُّخذ أي إجراء جدّي بعد لحماية الفئات التي تُسحَق يومياً في لبنان. لا بل زاد الانبطاح لصندوق النقد، وبات واضحاً أن الكلمة الناهية هي لحزب المصارف، بعدما أخذت لجنة تقصّي الحقائق (برئاسة النائب ابراهيم كنعان) بأرقام المصارف عوضاً عن أرقام الحكومة، للحد من الكلفة التي ستقع على عاتق المصارف في معالجة الأزمة. لجنة تقصّي الحقائق هذه، هي التي تناقش اليوم فكرة إنشاء صندوق سيادي من أصول الدولة، لمعالجة الخسائر المترتبة على الانهيار المالي.
بالمناسبة، بينما يُكتب هذا المقال، تبيع الدولة طوّافات السيكورسكي الثلاث، بعدما وافق مجلس الوزراء على طلب وزارة الدفاع بيع 5 طائرات من نوع هوكر هانتر و3 طوافات سيكورسكي، بالمزايدة العموميّة. قبل أشهر قليلة، حين اندلعت حرائق في غابات عدّة ولم نستطع إطفاءها، كانت هذه الطوافات موجودة (وتحتاج إلى صيانة)، ولم تستطع الدولة السيطرة على النيران، أو بالأحرى لم تبالِ للأمر بما فيه الكفاية. اليوم، تقوم الدولة بهذه الخطوة قبل صيفٍ سيكون حارّاً للغاية، لا على المستوى البيئي فحسب، بل تحديداً على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وقد نشهد المزيد من الحرائق في الأحراج والغابات وأسعار السلع وغير ذلك. سيبيع حزب المصارف الدولة وأصولها لينأى بنفسه عن خطر الانهيار، أمّا نحن، فستأكلنا نيران الأزمة.