fbpx

لبنان : زراعة الجهاد والصورة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

البعض ممن هم في السلطة ارتأى أن يجعل من التوجّه نحو القطاعات الإنتاجيّة وخصوصاً الزراعة “موضة” يمكن توظيفها في الخطاب السياسي. لكن الواقع يقول حقيقة أخرى…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تميّز رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل بنشر صورة له يظهر فيها يحرث أرضاً زراعية على نحو استعراضي، وأرفق الصورة بشعار “أمنك الغذائي أمنو”. 

تعليق باسيل كان لافتاً، لما تضمّنه من إعادة توزيع للمسؤوليّات، من خلال الإيحاء بمسؤوليّة المواطن عن مسألة مصيريّة من حجم الأمن الغذائي، وهي مسألة لم يكن يفترض أن تكون محل نقاش اليوم لولا فشل السلطة التي يشارك فيها تيار باسيل نفسه

.”حزب الله” اختار أن يستثمر في موضوع الزراعة على طريقته، من خلال حملة “جهاديّة” زراعيّة، ربطت بين الاتجاه نحو الزراعة والصمود ومواجهة ما يعتبره “حزب الله” حصاراً تتعرّض له البلاد اليوم، في حين اختارت أحزاب تنظيم حملات لتوزيع الشتول الزراعيّة على القرويين. 

توحي المشهدية السابقة بأن البعض ممن هم في السلطة ارتأى أن يجعل من التوجّه نحو القطاعات الإنتاجيّة وخصوصاً الزراعة “موضة” يمكن توظيفها في الخطاب السياسي. لكن الواقع يقول حقيقة أخرى، ففي الحقول اللبنانيّة، ثمّة مزارعون باتوا يشكون عدم قدرتهم على الاستمرار، وتحديداً بسبب تداعيات الانهيار الإقتصادي الحاصل اليوم، وإفلاس السلطة التي لم تعد تملك أي تصوّر لكيفيّة التعامل الأزمة. مزارعو البطاطا يتحدّثون عن إفلاسات كبيرة وشيكة في القطاع، بعدما استوردوا بذورهم السنة الماضية بالدَّين المقوّم بالدولار كالعادة، فيما أصبح سداد هذه الديون مستحيلاً اليوم بعدما ارتفعت قيمة هذه الديون في مقابل ما يحصلون عليه من بيع المحاصيل بالليرة في السوق المحلّي. مربو الدواجن، من أصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسّطة، يتجهون اليوم إلى بيع مزارعهم، بعدما فقدوا القدرة على استيراد العلف بالدولار المسعّر في السوق السوداء، فيما كان الدولار المدعوم وفقاً لآلية مصرف لبنان حكراً على اللاعبين الكبار في السوق. 

أمّا أصحاب المصانع، فيسمعون الكثير عن حلول يقترحها كل من المصرف المركزي والمصارف التجاريّة لمعالجة أزمتهم الناتجة عن حبس رساميلهم في المصارف، بينما لا يرون نتيجة على أرض الواقع. وفي السوق اليوم، يكثر الحديث عن أن أصحاب مزارع الأبقار الذين ينقلون أعمالهم إلى دول الجوار، نتيجة شح المواد المستوردة وغلائها، وعدم القدرة على توفير الدولار لشرائها. 

الصورة سوداويّة بلا شك، ولا يمكن فصل أي من أجزائها عن فشل السلطة الحاليّة وتراكم التشوّهات التي سببتها الحكومات السابقة، وهو ما يصعب التحايل عليه باجتراح حملات استعراض زراعي على نحو ما يحصل.

تتهاوى القطاعات الإنتاجيّة على وقع الانهيار النقدي والمالي الحاصل، فيما تصبح العناوين المرتبطة بها أقرب إلى دعاية سياسيّة يعتمدها كل من الأحزاب وفقاً لأولويّاته. فمنهم من يلجأ إليها كعنوان من عناوين تصدّي لتسويق تشخيصه للأزمة، والذي يربطها بمؤامرة تهدف إلى تجويع اللبنانيين، ومنهم من يلجأ إليها لرمي مسؤوليّة النهوض بهذه القطاعات على عاتق المبادرات الفرديّة للمواطنين، وثمّة من يرى فيها باباً من أبواب توزيع المساعدات العينيّة كحال حملات توزيع الشتول. 

وأمام هذه الحملات والاستعراضات السياسيّة، يبدو من الأكيد أنّ ما أوصل القطاعات الإنتاجيّة إلى أزمتها الحاليّة، وما تحتاجه فعلاً للخروج من الأزمة، يكمنان في مكان آخر مختلف، ويرتبطان تحديداً بسياسات الحكومة وخططها للتعامل مع الأزمة، وهو ما تتحمّل مسؤوليّته الأحزاب المشاركة فيها. وبذلك، تصبح هذه العراضات مجرّد هروب من المسؤوليّة، سواء من جهة مسؤوليّة الحكومات السابقة في الوصول إلى الواقع القائم، أو من جهة فشل الحكومة الحاليّة في التعامل معه.

تشوّهات تاريخيّة

لا جديد في التعامل مع القطاعات الإنتاجيّة، وتحديداً الزراعة والصناعة، بمنطق الشعارات والعراضات وفي ظل سياسات تؤدّي إلى تهشيم هذه القطاعات. فعلى مرّ السنوات الماضية، ومنذ انتهاء الحرب الأهليّة، لم يخلُ بيان وزاري واحد من الحديث عن الاقتصاد المنتج وضرورة تفعيله، بينما كانت جميع السياسات الماليّة والنقديّة التي اتبعتها هذه الحكومات تقود هذه القطاعات بإصرار نحو حالة الانهيار الشامل. 

عمليّاً، كانت الحكومات ترفع هذه الشعارات على الدوام لجاذبيّتها، تماماً كما تفعل أحزاب اليوم، في حين كانت مصالح القيّمين على هذه الحكومات تدفع بالسياسات الرسميّة نحو الاتجاه المعاكس تماماً، وتحديداً كما تدفع الآن مصالح بعض النافذين في النظام السياسي والمالي بعكس ما تقتضيه متطلّبات النهوض بهذه القطاعات.

منذ التسعينات، تضافرت مجموعة عوامل لتؤدّي إلى تهشيم القطاعات الإنتاجيّة، وكان في طليعة هذه العوامل بروز طبقة من التجّار وأصحاب الوكالات والمستوردين المستفيدين من رفع الحمايات الجمركيّة عن الكثير من السلع الغذائيّة والمنتوجات المصنّعة بمعزل عن وجود بدائل محليّة الصنع. 

الصورة سوداويّة بلا شك، ولا يمكن فصل أي من أجزائها عن فشل السلطة الحاليّة وتراكم التشوّهات التي سببتها الحكومات السابقة، وهو ما يصعب التحايل عليه باجتراح حملات استعراض زراعي على نحو ما يحصل.

الباحث بسام كرم، والذي يُعد تطبيقاً يوثّق أرقام الجمارك اللبنانيّة، يستشهد بقطاع صناعة المفروشات كنموذج عن هذا النوع من المسارات. فعام 1995 بدأ التدهور بصدور تشريعات تفتح الباب أمام استيراد المفروشات إلى لبنان من دون ضوابط، وبرفع الحماية الجمركيّة عن القطاع،  وخلال سنتين فقط انهار 90 في المئة من القطاع بشكل كامل، وفرّخ مجتمع جديد من المستفيدين من هذا الواقع من تجّار ومستوردين وأصحاب وكالات حصريّة. وبذلك، أقفلت معامل كثيرة التي كانت تستوعب آلاف العمّال، فيما انهارت أيضاً مئات المؤسسات التي كانت تعتمد على توريد البضائع والخدمات لهذه الصناعة. 

استمرّ التراجع في هذا القطاع على مرّ السنوات اللاحقة، وخلال السنوات الممتدة بين 2011 و2019، تراجعت صادرات لبنان من المفروشات من 63 مليون دولار إلى حدود الـ36 مليون دولار، كنتيجة لاستمرار تهاوي المؤسسات الصناعيّة في القطاع، وفي المقابل كانت البلاد استوردت خلال هذه الأعوام نحو 1.06 مليار دولار من المفروشات نتيجة اعتماد البلاد على المفروشات المستوردة. 

باختصار، يمثّل ما حصل في قطاع المفروشات منذ عام 1995 نموذجاً عن نمط تكرر في الكثير من القطاعات الصناعيّة، كصناعة الأحذية والألبسة مثلاً، وهو نمط ارتكز على ضرب الإنتاج الصناعي المحلّي من خلال فتح الأبواب أمام البضاعة المستوردة من دون قيود، ولمصلحة حلقة ضيّقة من التجّار النافذين الذين حازوا الوكالات الحصريّة بعد نهاية الحرب. هذه العوامل ساهمت تدريجاً في ضرب الميزان التجاري اللبناني الذي يمثّل الفارق بين واردات البلاد وصادراتها، وبالتالي تعزيز إدمان البلاد على تدفّق العملة الصعبة إلى النظام المالي على شكل ودائع مصرفيّة، كانت تتركّز لاحقاً في تمويل الديون السياديّة والطفرة العقاريّة، وهو ما مثّل لاحقاً أبرز مكامن الخلل في بنية الاقتصاد اللبناني والتي أدّت إلى الانهيار الحاصل اليوم.

وفيما أدّى هذا النمط الخبيث إلى ضرب مقوّمات الإنتاج المحلّي، ساهمت السياسات المتبعة في القطاع المالي بالدفع في الاتجاه نفسه. فهذه السياسات اعتمدت بشكل متمادٍ على رفع الفوائد بهدف استقطاب الودائع من الخارج للأسباب التي ذكرناها، وهو ما ساهم بدوره في ضرب القطاعات الزراعيّة والصناعيّة. فأصحاب الرساميل يمكنهم الآن الاستفادة من عوائد الودائع المرتفع في المصارف من دون تكبّد مخاطر الاستثمار الزراعي أو الصناعي، وكلفة الاقتراض للاستثمار باتت مرتفعة بدورها. وبذلك، كان النموذج المتبع في القطاع المالي يتكامل مع السياسات الحكوميّة في تهميش القطاعات الإنتاجيّة، وتضخيم حجم القطاع المصرفي على حساب الاقتصاد اللبناني وإنتاجيّته.

وإضافة إلى تلك الأسباب، ساهمت السياسات النقديّة بشكل مباشر في تكريس هذا الواقع المأساوي. فبدل اللجوء إلى تثبيت سعر الصرف لفترة زمنيّة محدودة، ووفق خطّة للانتقال نحو سعر صرف أكثر مرونة، أصرّت السياسة النقديّة المتبعة منذ التسعينات على اعتماد سعر صرف ثابت على مر السنوات، بكلفة تحمّلها المصرف المركزي من أموال المودعين. 

عمليّاً، أدت هذه السياسة إلى خلق سعر صرف منتفخ لليرة مقارنة بالسعر المفترض أن تحدده آليّات العرض والطلب التقليديّة. وبذلك، أصبحت السلع الزراعية والصناعيّة المنتجة محليّاً أقل تنافسيّة من ناحية الأسعار وكلفة الإنتاج مقارنة بمثيلاتها في الأسواق الخارجيّة، فيما أصبحت السلع المستوردة أكثر تنافسيّة مقارنة بالسلع المنتجة محليّاً. 

في كل الحالات، ترافقت هذه العوامل السلبيّة مع عوامل أخرى، مثل الإهمال التاريخي في الاستثمار في البنية التحتيّة المطلوبة لدعم المشاريع الزراعيّة والصناعية، وخصوصاً الكهرباء والري. كما أهملت الحكومات المتعاقبة دعم هذه المشاريع من خلال تعزيز دور التعاونيّات الزراعيّة، أو تقديم الحوافز الضريبيّة والعمل على فتح الأسواق الخارجيّة وغيرها من الأدوات التقليديّة التي تدعم فيها الحكومات عادةً هذه القطاعات.

ما تحتاجه الزراعة والصناعة

ما حصل من سياسات ماليّة ونقديّة منذ نهاية الحرب الأهليّة لم يكن وليد المصادفة، بل كان نتيجة طبيعيّة للمصالح التي تحكّمت بجميع الأقطاب الذي ساهموا في صوغ هذه السياسات. وهذه المصالح نفسها، هي التي تمنعنا اليوم من معالجة جذور الأزمة القائمة، والتي تكمن في تركيبة الاقتصاد اللبناني والأطراف المستفيدة منه. فخلال الفترة الماضية، شهد الجميع إلتفاف جميع أقطاب السلطة الحاليين والسابقين حول فكرة رفض الإعتراف بخسائر النظام المالي والتعامل معها، وهذا النوع من المناورات هو ما يعمّق اليوم الأزمة التي تمر فيها البلاد، وهو ما يعيق الانطلاق نحو اقتصاد جديد ببنية إنتاجيّة قادرة على توفير مقومات النهوض الزراعيّة والصناعيّة.

باختصار، لا تحتاج القطاعات الإنتاجيّة اليوم إلى العراضات الإعلاميّة، ولا إلى استخدامها عناوينَ برّاقة في حملات حزبيّة، ولا حتّى إلى توزيع شتول كنوع من الدعاية السياسيّة. ما تحتاجه هذه القطاعات اليوم هو نظام سياسي جديد، قادر على الانطلاق باتجاه سياسات تساهم في خلق إقتصاد مختلف. 

هذا المسار، لا يمكن حكماً بناؤه من خلال أقطاب سياسيين لطالما تضاربت مصالحهم مع هذا النوع من الأولويّات. وقد تكون كل “موضة” استعراض التوجّه نحو الزراعة والإنتاج، مجرّد مناورة لإبعاد شبح هذا التغيير عن مصالحهم ونفوذهم. 

14.07.2020
زمن القراءة: 7 minutes

البعض ممن هم في السلطة ارتأى أن يجعل من التوجّه نحو القطاعات الإنتاجيّة وخصوصاً الزراعة “موضة” يمكن توظيفها في الخطاب السياسي. لكن الواقع يقول حقيقة أخرى…

تميّز رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل بنشر صورة له يظهر فيها يحرث أرضاً زراعية على نحو استعراضي، وأرفق الصورة بشعار “أمنك الغذائي أمنو”. 

تعليق باسيل كان لافتاً، لما تضمّنه من إعادة توزيع للمسؤوليّات، من خلال الإيحاء بمسؤوليّة المواطن عن مسألة مصيريّة من حجم الأمن الغذائي، وهي مسألة لم يكن يفترض أن تكون محل نقاش اليوم لولا فشل السلطة التي يشارك فيها تيار باسيل نفسه

.”حزب الله” اختار أن يستثمر في موضوع الزراعة على طريقته، من خلال حملة “جهاديّة” زراعيّة، ربطت بين الاتجاه نحو الزراعة والصمود ومواجهة ما يعتبره “حزب الله” حصاراً تتعرّض له البلاد اليوم، في حين اختارت أحزاب تنظيم حملات لتوزيع الشتول الزراعيّة على القرويين. 

توحي المشهدية السابقة بأن البعض ممن هم في السلطة ارتأى أن يجعل من التوجّه نحو القطاعات الإنتاجيّة وخصوصاً الزراعة “موضة” يمكن توظيفها في الخطاب السياسي. لكن الواقع يقول حقيقة أخرى، ففي الحقول اللبنانيّة، ثمّة مزارعون باتوا يشكون عدم قدرتهم على الاستمرار، وتحديداً بسبب تداعيات الانهيار الإقتصادي الحاصل اليوم، وإفلاس السلطة التي لم تعد تملك أي تصوّر لكيفيّة التعامل الأزمة. مزارعو البطاطا يتحدّثون عن إفلاسات كبيرة وشيكة في القطاع، بعدما استوردوا بذورهم السنة الماضية بالدَّين المقوّم بالدولار كالعادة، فيما أصبح سداد هذه الديون مستحيلاً اليوم بعدما ارتفعت قيمة هذه الديون في مقابل ما يحصلون عليه من بيع المحاصيل بالليرة في السوق المحلّي. مربو الدواجن، من أصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسّطة، يتجهون اليوم إلى بيع مزارعهم، بعدما فقدوا القدرة على استيراد العلف بالدولار المسعّر في السوق السوداء، فيما كان الدولار المدعوم وفقاً لآلية مصرف لبنان حكراً على اللاعبين الكبار في السوق. 

أمّا أصحاب المصانع، فيسمعون الكثير عن حلول يقترحها كل من المصرف المركزي والمصارف التجاريّة لمعالجة أزمتهم الناتجة عن حبس رساميلهم في المصارف، بينما لا يرون نتيجة على أرض الواقع. وفي السوق اليوم، يكثر الحديث عن أن أصحاب مزارع الأبقار الذين ينقلون أعمالهم إلى دول الجوار، نتيجة شح المواد المستوردة وغلائها، وعدم القدرة على توفير الدولار لشرائها. 

الصورة سوداويّة بلا شك، ولا يمكن فصل أي من أجزائها عن فشل السلطة الحاليّة وتراكم التشوّهات التي سببتها الحكومات السابقة، وهو ما يصعب التحايل عليه باجتراح حملات استعراض زراعي على نحو ما يحصل.

تتهاوى القطاعات الإنتاجيّة على وقع الانهيار النقدي والمالي الحاصل، فيما تصبح العناوين المرتبطة بها أقرب إلى دعاية سياسيّة يعتمدها كل من الأحزاب وفقاً لأولويّاته. فمنهم من يلجأ إليها كعنوان من عناوين تصدّي لتسويق تشخيصه للأزمة، والذي يربطها بمؤامرة تهدف إلى تجويع اللبنانيين، ومنهم من يلجأ إليها لرمي مسؤوليّة النهوض بهذه القطاعات على عاتق المبادرات الفرديّة للمواطنين، وثمّة من يرى فيها باباً من أبواب توزيع المساعدات العينيّة كحال حملات توزيع الشتول. 

وأمام هذه الحملات والاستعراضات السياسيّة، يبدو من الأكيد أنّ ما أوصل القطاعات الإنتاجيّة إلى أزمتها الحاليّة، وما تحتاجه فعلاً للخروج من الأزمة، يكمنان في مكان آخر مختلف، ويرتبطان تحديداً بسياسات الحكومة وخططها للتعامل مع الأزمة، وهو ما تتحمّل مسؤوليّته الأحزاب المشاركة فيها. وبذلك، تصبح هذه العراضات مجرّد هروب من المسؤوليّة، سواء من جهة مسؤوليّة الحكومات السابقة في الوصول إلى الواقع القائم، أو من جهة فشل الحكومة الحاليّة في التعامل معه.

تشوّهات تاريخيّة

لا جديد في التعامل مع القطاعات الإنتاجيّة، وتحديداً الزراعة والصناعة، بمنطق الشعارات والعراضات وفي ظل سياسات تؤدّي إلى تهشيم هذه القطاعات. فعلى مرّ السنوات الماضية، ومنذ انتهاء الحرب الأهليّة، لم يخلُ بيان وزاري واحد من الحديث عن الاقتصاد المنتج وضرورة تفعيله، بينما كانت جميع السياسات الماليّة والنقديّة التي اتبعتها هذه الحكومات تقود هذه القطاعات بإصرار نحو حالة الانهيار الشامل. 

عمليّاً، كانت الحكومات ترفع هذه الشعارات على الدوام لجاذبيّتها، تماماً كما تفعل أحزاب اليوم، في حين كانت مصالح القيّمين على هذه الحكومات تدفع بالسياسات الرسميّة نحو الاتجاه المعاكس تماماً، وتحديداً كما تدفع الآن مصالح بعض النافذين في النظام السياسي والمالي بعكس ما تقتضيه متطلّبات النهوض بهذه القطاعات.

منذ التسعينات، تضافرت مجموعة عوامل لتؤدّي إلى تهشيم القطاعات الإنتاجيّة، وكان في طليعة هذه العوامل بروز طبقة من التجّار وأصحاب الوكالات والمستوردين المستفيدين من رفع الحمايات الجمركيّة عن الكثير من السلع الغذائيّة والمنتوجات المصنّعة بمعزل عن وجود بدائل محليّة الصنع. 

الصورة سوداويّة بلا شك، ولا يمكن فصل أي من أجزائها عن فشل السلطة الحاليّة وتراكم التشوّهات التي سببتها الحكومات السابقة، وهو ما يصعب التحايل عليه باجتراح حملات استعراض زراعي على نحو ما يحصل.

الباحث بسام كرم، والذي يُعد تطبيقاً يوثّق أرقام الجمارك اللبنانيّة، يستشهد بقطاع صناعة المفروشات كنموذج عن هذا النوع من المسارات. فعام 1995 بدأ التدهور بصدور تشريعات تفتح الباب أمام استيراد المفروشات إلى لبنان من دون ضوابط، وبرفع الحماية الجمركيّة عن القطاع،  وخلال سنتين فقط انهار 90 في المئة من القطاع بشكل كامل، وفرّخ مجتمع جديد من المستفيدين من هذا الواقع من تجّار ومستوردين وأصحاب وكالات حصريّة. وبذلك، أقفلت معامل كثيرة التي كانت تستوعب آلاف العمّال، فيما انهارت أيضاً مئات المؤسسات التي كانت تعتمد على توريد البضائع والخدمات لهذه الصناعة. 

استمرّ التراجع في هذا القطاع على مرّ السنوات اللاحقة، وخلال السنوات الممتدة بين 2011 و2019، تراجعت صادرات لبنان من المفروشات من 63 مليون دولار إلى حدود الـ36 مليون دولار، كنتيجة لاستمرار تهاوي المؤسسات الصناعيّة في القطاع، وفي المقابل كانت البلاد استوردت خلال هذه الأعوام نحو 1.06 مليار دولار من المفروشات نتيجة اعتماد البلاد على المفروشات المستوردة. 

باختصار، يمثّل ما حصل في قطاع المفروشات منذ عام 1995 نموذجاً عن نمط تكرر في الكثير من القطاعات الصناعيّة، كصناعة الأحذية والألبسة مثلاً، وهو نمط ارتكز على ضرب الإنتاج الصناعي المحلّي من خلال فتح الأبواب أمام البضاعة المستوردة من دون قيود، ولمصلحة حلقة ضيّقة من التجّار النافذين الذين حازوا الوكالات الحصريّة بعد نهاية الحرب. هذه العوامل ساهمت تدريجاً في ضرب الميزان التجاري اللبناني الذي يمثّل الفارق بين واردات البلاد وصادراتها، وبالتالي تعزيز إدمان البلاد على تدفّق العملة الصعبة إلى النظام المالي على شكل ودائع مصرفيّة، كانت تتركّز لاحقاً في تمويل الديون السياديّة والطفرة العقاريّة، وهو ما مثّل لاحقاً أبرز مكامن الخلل في بنية الاقتصاد اللبناني والتي أدّت إلى الانهيار الحاصل اليوم.

وفيما أدّى هذا النمط الخبيث إلى ضرب مقوّمات الإنتاج المحلّي، ساهمت السياسات المتبعة في القطاع المالي بالدفع في الاتجاه نفسه. فهذه السياسات اعتمدت بشكل متمادٍ على رفع الفوائد بهدف استقطاب الودائع من الخارج للأسباب التي ذكرناها، وهو ما ساهم بدوره في ضرب القطاعات الزراعيّة والصناعيّة. فأصحاب الرساميل يمكنهم الآن الاستفادة من عوائد الودائع المرتفع في المصارف من دون تكبّد مخاطر الاستثمار الزراعي أو الصناعي، وكلفة الاقتراض للاستثمار باتت مرتفعة بدورها. وبذلك، كان النموذج المتبع في القطاع المالي يتكامل مع السياسات الحكوميّة في تهميش القطاعات الإنتاجيّة، وتضخيم حجم القطاع المصرفي على حساب الاقتصاد اللبناني وإنتاجيّته.

وإضافة إلى تلك الأسباب، ساهمت السياسات النقديّة بشكل مباشر في تكريس هذا الواقع المأساوي. فبدل اللجوء إلى تثبيت سعر الصرف لفترة زمنيّة محدودة، ووفق خطّة للانتقال نحو سعر صرف أكثر مرونة، أصرّت السياسة النقديّة المتبعة منذ التسعينات على اعتماد سعر صرف ثابت على مر السنوات، بكلفة تحمّلها المصرف المركزي من أموال المودعين. 

عمليّاً، أدت هذه السياسة إلى خلق سعر صرف منتفخ لليرة مقارنة بالسعر المفترض أن تحدده آليّات العرض والطلب التقليديّة. وبذلك، أصبحت السلع الزراعية والصناعيّة المنتجة محليّاً أقل تنافسيّة من ناحية الأسعار وكلفة الإنتاج مقارنة بمثيلاتها في الأسواق الخارجيّة، فيما أصبحت السلع المستوردة أكثر تنافسيّة مقارنة بالسلع المنتجة محليّاً. 

في كل الحالات، ترافقت هذه العوامل السلبيّة مع عوامل أخرى، مثل الإهمال التاريخي في الاستثمار في البنية التحتيّة المطلوبة لدعم المشاريع الزراعيّة والصناعية، وخصوصاً الكهرباء والري. كما أهملت الحكومات المتعاقبة دعم هذه المشاريع من خلال تعزيز دور التعاونيّات الزراعيّة، أو تقديم الحوافز الضريبيّة والعمل على فتح الأسواق الخارجيّة وغيرها من الأدوات التقليديّة التي تدعم فيها الحكومات عادةً هذه القطاعات.

ما تحتاجه الزراعة والصناعة

ما حصل من سياسات ماليّة ونقديّة منذ نهاية الحرب الأهليّة لم يكن وليد المصادفة، بل كان نتيجة طبيعيّة للمصالح التي تحكّمت بجميع الأقطاب الذي ساهموا في صوغ هذه السياسات. وهذه المصالح نفسها، هي التي تمنعنا اليوم من معالجة جذور الأزمة القائمة، والتي تكمن في تركيبة الاقتصاد اللبناني والأطراف المستفيدة منه. فخلال الفترة الماضية، شهد الجميع إلتفاف جميع أقطاب السلطة الحاليين والسابقين حول فكرة رفض الإعتراف بخسائر النظام المالي والتعامل معها، وهذا النوع من المناورات هو ما يعمّق اليوم الأزمة التي تمر فيها البلاد، وهو ما يعيق الانطلاق نحو اقتصاد جديد ببنية إنتاجيّة قادرة على توفير مقومات النهوض الزراعيّة والصناعيّة.

باختصار، لا تحتاج القطاعات الإنتاجيّة اليوم إلى العراضات الإعلاميّة، ولا إلى استخدامها عناوينَ برّاقة في حملات حزبيّة، ولا حتّى إلى توزيع شتول كنوع من الدعاية السياسيّة. ما تحتاجه هذه القطاعات اليوم هو نظام سياسي جديد، قادر على الانطلاق باتجاه سياسات تساهم في خلق إقتصاد مختلف. 

هذا المسار، لا يمكن حكماً بناؤه من خلال أقطاب سياسيين لطالما تضاربت مصالحهم مع هذا النوع من الأولويّات. وقد تكون كل “موضة” استعراض التوجّه نحو الزراعة والإنتاج، مجرّد مناورة لإبعاد شبح هذا التغيير عن مصالحهم ونفوذهم.