لن يستطيع أحد في لبنان الحد من صعود جبران باسيل. بيد الرجل عناصر القوة والصعود كلها. الكراهية التي يُواجه بها من قبل لبنانيي الطوائف الأخرى، تمكّن من تحويلها إلى طاقة تساعده في اندفاعته؛ والمواجهات التي يخوضها في مناطق الطوائف الأخرى جعلته الشخصية المسيحية التي لا يستطيع أحد منافستها. لقد اقتحم على وليد جنبلاط جبله. الجبل الذي غَنِمه الأخير في الحرب الأخيرة بين الدروز والمسيحيين. جبران باسيل اليوم هو السياسي الذي أشعر المسيحيين بأن ثمة حزباً مسيحياً بإمكانه أن ينتزع، رمزياً، مكانتهم التي خسروها في الجبل. وفي رحلته الأخيرة إلى طرابلس، عاصمة السنّة اللبنانيين، خاطب جبران المسيحيين أيضاً، قال لهم إن لبنانهم الذي خسروه عاد إليهم. المسألة هنا تتعدى ما إذا كان ما أشعرهم به حقيقة أم وهماً، والحاجة المسيحية إلى تعويض الخسارة أقوى من الميل العقلاني لخصوم الوزير من القوى المسيحية.
مأزق خصوم باسيل المسيحيين كبير فعلاً. الرجل في طريقه إلى احتلال مزيد من المساحات في منطقة التنافس على الزعامة المسيحية. خطاب الكراهية الشعبوي الذي أطلقه ضد اللاجئين السوريين يُحقق له مزيداً من الحضور في أوساط الشرائح المسيحية الدنيا. والنفوذ الكبير في الإدارة الرسمية والأجهزة الأمنية جعلته المدخل الأهم لتحقيق المصالح اليومية للجماعات المسيحية. فاللاجئون قوة ديموغرافية تُشعر المسيحيين بمزيد من التهميش، ناهيك بالخصومة المؤسسة على تجارب الحرب مع النظام، ولا يبدو أن تمييزاً ما يمكن للجماعة المسيحية أن تقيمه بين اللاجئين وبين النظام الذي تسبّب بنزوحهم. وهذا يضاف إليه ما تخلل الحرب في سوريا من مواجهات مذهبية أشعرت المسيحيين بتهديد يواجه كل أقليات المنطقة، وعززه الخطاب “الأقلوي” لجماعات الممانعة، وممارسات فصائل مسلّحة سورية معارضة.
مأزق خصوم باسيل المسيحيين كبير فعلاً. الرجل في طريقه إلى احتلال مزيد من المساحات في منطقة التنافس على الزعامة المسيحية
أما ما يستدرجه جبران من مشاعر كراهية تقابله بها الجماعات الأهلية الأخرى، فهذه بدورها فرصة لمزيد من التعاطف و”شد العصب” من حوله. “إنه زعيمنا الذي يكرهه الآخرون”، هذا هو جوهر تصدر زعامات الجماعات المذهبية في لبنان جماعاتها، حيث الحقل الشعوري للطوائف مبني على قاعدة المواجهة مع الطائفة الخصم. والكل يذكر حين استفز أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله الجماعات اللبنانية الأخرى، كيف كانت زعامته المذهبية تتعزز وتتصاعد وفق المنطق ذاته. لقد أحبه الشيعة بقدر ما كرهته الطوائف الأخرى.
لا يطمح باسيل لأن يكون زعيماً لبنانياً، فهو يدرك أن ليس في لبنان زعيم تتعدى زعامته حدود طائفته. لقد ذهب إلى طرابلس لاستفزاز سنّتها. وهذا لا يحقق له إنجازاً في المدينة، لكنه يجعله فاتحاً مسيحياً لمدينة السنة. الأمر نفسه في الجبل، وهنا لزيارته بعد له علاقة بذاكرة المسيحيين القريبة والبعيدة. إنه جبلهم الذي خسروه. ووليد جنبلاط الذي انتصر عليهم في الحرب هناك، فعل ذلك مستعيناً بقوى إقليمية هي اليوم حليفة باسيل، والأرجح أنها وراء اندفاعته في الجبل. ثم أنه وعلى رغم التحاقه بحزب الله، لم يقم وزناً لحليف الحزب في الطائفة نبيه بري، وهل من شيء يشعر المسيحي العادي بالنشوة بقدر ما يشعره به أن يشاهد شريط فيديو لباسيل يصف بري فيه بالبلطجي؟ هذه فعلة لم يتمكن من الإتيان بها خصوم بري المسيحيين. جبران حليفه وفعلها.
المسيحيون خسروا حرب الجبل في لحظة إقليمية تشبه هذه اللحظة، مع فارق واحد، وهو أن جنبلاط في موقع يشبه ذاك الذي كانوا يشغلونه في ذلك الوقت. ففي حينها كان النظام السوري بدأ يلتقط أنفاسه بعد هزيمته على يد الجيش الإسرائيلي في لبنان، وما أعقب ذلك لجهة دخول المارينز إلى بيروت. وما أن بدأ الإسرائيليون الانسحاب من الجبل ومن الجنوب، والأميركيون من بيروت ومن البحر، حتى تمت ترجمة ذلك بهزيمة للمسيحيين في بيروت وفي الجبل. اليوم جبران باسيل في الموقع الذي شغله جنبلاط عام 1984. وإذا كانت اللغة في ذلك الوقت هي الحرب، فمشاعر الجماعات الأهلية اللبنانية ما زالت تشتغل وفق منطق الاستقطاب نفسه. وليد جنبلاط تجمعه خصومة مريرة مع النظام السوري، و”حزب الله” لا يكن له مودة، والنظام والحزب يشعران بأن استعادة المواقع التي خسراها في أعقاب اغتيال رفيق الحريري، وما أعقب ذلك من انتفاضات سورية على النظام، قد حان وقتها.
المسيحيون خسروا حرب الجبل في لحظة إقليمية تشبه هذه اللحظة، مع فارق واحد، وهو أن جنبلاط في موقع يشبه ذاك الذي كانوا يشغلونه في ذلك الوقت
جبران يتحرك في هذا المشهد. خصومه المسيحيون سيجدون أنفسهم مضطرين للاصطفاف إلى يمينه لكي ينافسوه على الخطاب الذي سرقه منهم. وهو على ما يبدو استبق هذا الاحتمال. في طرابلس استفز السنة، لكنه ذكرهم بأنه ليس هو من اغتال رشيد كرامي، وهو بهذا المعنى حقق مهمّتين، الأولى مشاعر مذهبية سلبية يستثمرها داخل جماعته، والثانية تعطيل قدرة خصمه سمير جعجع على التحرك في هذه المنطقة المشتعلة بمشاعر الكراهية.
في الجبل أيضاً استدرج القوات اللبنانية، خصومه في الطائفة، إلى لغة لا تخلو من محاولة استدراك الخسارة. “القوات” قالت رداً على ما حصل في الجبل “نحن من كان يحارب ونحن من أجرى المصالحة”. الأرجح أن التذكير بحقيقة من نوع “نحن من كان يحارب” مصدرها معرفة “القوات” بأن من يقتحم على وليد جنبلاط جبله الذي غنمه من المسيحيين سيحصد الزعامة المسيحية.
أما وليد جنبلاط المحاصر مسيحياً بباسيل وشيعياً بـ”حزب الله” وسنياً برئيس حكومة ضعيف ومختبئ في منزله، فهو أكثر واقعية من الزعماء المسيحيين في لحظة هزيمتهم عام
أما وليد جنبلاط المحاصر مسيحياً بباسيل وشيعياً بـ”حزب الله” وسنّياً برئيس حكومة ضعيف ومختبئ في منزله، فهو أكثر واقعية من الزعماء المسيحيين في لحظة هزيمتهم عام 1984، وهو مستعد لانعطافة كبرى جديدة تمكنه من مواجهة باسيل في الخندق الذي اختاره الأخير. والقول إن “حزب الله” لن يقبل بجنبلاط بعد مرارة الانشقاق ليس صحيحاً. “حزب الله” يدرك أنه محاط بحلفاء لن يتورعوا من الانقضاض عليه حين تلوح فرصة لذلك، لكنه يشعر بأنهم لاعبون صغار ولا يشكلون خطراً عليه، ولا بأس من الاستثمار بصغارتهم. وثائق ويكيليكس تثبت ذلك. “حزب الله” سيقبل بجنبلاط إذا ما قرر الأخير أن “يتوب” إليه، وإذا لم يُقرر فلا بأس، فالملعب يتسع لباسيل طالما أن لبنان لم يعد وظيفة وتجربة، بل مجرد ملعب للصغار.