يواصل الاقتصاد اللبناني مسار الانهيار، منذ أواخر عام 2019، إذ خسرت الليرة اللبنانية أكثر من 85 في المئة من قيمتها أمام الدولار في السوق السوداء، فيما ما زال السعر الرسمي في المصرف المركزي، 1507 ليرات لبنانية.
وأبرز تداعيات الانهيار هو التوجه نحو رفع الدعم عن السلع الأساسية ومنها السلة الغذائيّة التي يسعى المواطن اللبناني إلى تأمينها يوميّاً، خوفاً من فقدانها أو غلائها، ما يؤدي إلى مزيد من التراجع في القدرة الشرائية. في المقابل، سيعتمد التجار أكثر وأكثر على السوق السوداء لتأمين الدولار الذي يحتاجونه لاستيراد السلع، ما يرفع الطلب على الدولار أكثر وأكثر، ليرتفع سعره إلى حدّ لا نعرف أقصاه.
يأتي الانهيار المالي بالتزامن مع تصريحات وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني الذي أكد رفع دعم مصرف لبنان عن بعض السلع ومنها الطحين والمحروقات والغذاء، وهي تستورد على سعر الصرف الرسمي لدى المصرف المركزي. كما أشار وزني في مقابلته الى أنّ كميّة الاحتياطي النقدية الموجودة في مصرف لبنان لا تتجاوز الـ16 مليار دولار، 1.5 مليار منها لدعم السلع الأساسيّة فقط، مشيراً إلى أنّ لبنان لا يستطيع الاستمرار بهذا الطريق المسدود.
اللبنانيون أمام خطر الجوع
إثر ارتفاع سعر صرف الدولار بوتيرة متسارعة، لجأت محلّات تجارية وأسواق للمواد الغذائية إلى اقفال أبوابها حتى إشعار آخر، لأنّ الأسعار أصبحت تتغيّر بين ثانية وأخرى، ما يكبّد أصحاب المؤسسات خسائر كبيرة.
رفع الدعم عن السلّة الغذائية من أكثر الأمور خطورة، اذ أنّ التدهور في الأوضاع وصل الى لقمة العيش اليوميّ التي يسعى اللبنانيّون إلى تأمينها لأنفسهم وعائلتهم. فبحسب مدير مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت الدكتور ناصر ياسين، فإن رفع الدعم سيؤثّر في حياة النّاس بشكل هائل لأن الأسعار الغذائية ستتضاعف وربّما أكثر لأن التّجار سيستوردون السلع على سعر الصرف في السوق السوداء المتغيّر بين الساعة والأخرى.
رئيس “غرفة التجارة والصناعة في لبنان في طرابلس والشمال” توفيق دبّوسي أكد لـ”درج” أنّ سياسة الدعم الجزئي هي بمثابة مسكّن موضعي لأن الأموال التي تستخدم في سياسة الدعم هذه هي أموال المودعين في المصارف ومصيرها النفاد، لذا ليست حلّاً مستداماً برأيه. ويضيف: “نحن لا نملك استثمارات أو سياسة الاتّكال على الصناعة المحلية والوطنية”، مشيرًا الى أن “حوالى 89 في المئة من التجّار لم يجدّدوا انتسابهم في غرفة التجارة والصناعة لعام 2021″، وذلك إمّا بداعي الهجرة أو الإفلاس. ووفق ياسين “ليست وظيفة مصرف لبنان تأمين الدعم للسلع الأسياسيّة، إنّها وظيفة الدولة عبر وزارة المالية”.
دبّوسي يرى أن “نفاد أموال المودعين وبالنتيجة رفع الدعم بشكل كلّي، سيؤدّي إلى صعوبة في الاستيراد”، وذلك بسبب الشحّ في العملة الخضراء في المصرف المركزي وبالتّالي عدم تأمين السيولة المطلوبة لأبسط الحاجات الأوليّة لا الكماليّة وبالتّالي ارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكل جنوني.
ويرى أنّ الدعم على السلة الغذائية يجب أن يستمرّ مهما اقتضى الحال ليصل إلى سعر مناسب يستطيع كل مواطن لبناني عندئذ شراء الأساسيّات من دون الخوف من أن يموت جوعاً مشدّداً على أن: “هذه الأزمة ستطاول الشعب اللبناني، الفقراء والأغنياء”.
“نفاد أموال المودعين وبالنتيجة رفع الدعم بشكل كلّي، سيؤدّي إلى صعوبة في الاستيراد”
لمَ المواد الغذائية؟
يدعم المصرف المركزي المحروقات والأدوية والكهرباء وجميعها تشكّل عبئاً كبيراً فبحسب ياسين هذه المواد تشكّل المصروف الأكبر وبالتالي تستنزف الدعم. لذا، في الخطوة الأولى رفع الدعم بشكل جزئي عن المحروقات وهناك اتجاه نحو رفع الدعم عن الأدوية، أمّا موضوع الكهرباء فما زال معلّقاً.
أمّا السلّة الغذائيّة، فتأتي بالدرجة الثانية من ناحية حجم المصروف، ويشير ياسين إلى أنّ رفع الدعم عن السلّة الغذائية سيفيد التجّار أكثر من المواطنين، بسبب سياسة الاحتكار وتخزين المواد المدعومة في المستودعات. تخزين السلع الغذائية المدعومة كحليب الأطفال، الزّيت، أو حتى السكّر ينفع التجّار ففي اللحظة التي يرفع فيها الدعم رسميّاً عن هذه السلع، يعرضونها للبيع على الرفوف في محلاتهم بسعر أغلى بأضعاف.
ويعتبر ياسين أنّه لا بدّ من إيجاد حلّ مناسب من خلال وضع خطّة شاملة، وعلى الدولة أن تعيد النظر من أجل معرفة السلع التي تستطيع دعمها، ومدة الاستفادة من ها الدعم.
الحكومة كأداة لرفع الدولار؟
بعد تفاقم الأزمة بوتيرة متسارعة، صرّح وزير الداخلية السابق مروان شربل عن احتمال تشكيل حكومة كجزء من الحلّ ما يؤدّي إلى امتصاص غضب الشّارع اللبناني.
يؤكد الباحث في “مركز كارنيغي” لدراسات الشرق الأوسط مهنّد الحاج علي لـ”درج” أنّ الأزمة معقّدة ومتشابكة ومتعلّقة بالمصرف المركزي والضغط من سعد الحريري وفريقه على الفريق الآخر، المتمثّل بـ”التيّار الوطني الحرّ” و”حزب الله”، لتشكيل حكومة بأسرع وقت إضافة إلى نهاية الإقفال العام بسبب جائحة كورونا ما أدّى إلى زيادة الطلب على الدولار وبالتالي ارتفاعه.
وعما إذا كان تشكيل حكومة قد يهدئ الانهيار وإن موقتاً، يعتبر الحاج علي أنّ التغيير المفاجئ والإيجابي في موضوع تشكيل الحكومة أتى بقرار إقليمي، مثل زيارة الجنرال الأميركي وقائد المنطقة الوسطى كينيث ماكينزي إلى المنطقة. فبحسب تحليله، يرى أنّ هناك توافقاً أميركياً- إيرانياً على الطاولة وهذا سيؤثّر في طريقة تعاطي “حزب الله”، المدعوم من إيران، في الساحة اللبنانيّة.
ويضيف حاج علي أنّ “هذا التحوّل أتى لمصلحة حزب الله إذ اتضحت الصورة أمامه وأصبح بإمكانه الضغط على حليفه رئيس التيار الوطني الحرّ النائب جبران باسيل لتسهيل عملية تشكيل الحكومة والتراجع عن المطالبة بالثلث الضامن أو الثلث المعطّل في الحكومة، أي حصول باسيل على أكبر عدد من الوزراء يسمح له بإبطال مشروع معيّن أو التعطيل، وحتّى إسقاط الحكومة بمجرّد استقالة وزرائه منها”.
على رغم ذلك، يرى الحاج علي أنه مع وجود هذا الاحتياطي حتى وإن كان محدوداً فمن المستحيل أن يسبب هذا الانهيار الذي شهده لبنان الآن مع وصول الدولار إلى أسعار جنونية مقابل الليرة. لذلك، السبب أوّلاً وأخيراً سياسيّ، يقول الحاج علي، علماً أنه يرى أن تشكيل الحكومة لن يوقف الانهيار الاقتصادي، إنّما وضع الخطّة المناسبة، لإنقاذ لبنان على مراحل.
وإلى حين تشكيل الحكومة التي من غير المعروف حتى اللحظة ما اذا كانت ستكون البرّ الذي سيرسو عليه لبنان بعد رحلة عاصفة، تبقى الحلول معلّقة والفوضى دائماً حاضرة.
إقرأوا أيضاً: