يُعاد طرح إشكالية بناء الدولة في كل لحظة تاريخية حرجة في لبنان. لم تعد هذه الإشكالية مجرد سؤال نظري في المنطقة العربية عموماً ولبنان خصوصاً، بل تحولت إلى مأزق وجودي يمسّ جوهر الحياة الاجتماعية. فالدولة التي يُفترض أن تكون تجسيداً للإرادة الجماعية، وتعبيراً عن العقد الاجتماعي، أصبحت مجرد وهمٍ نطارده، عاجزين عن إعادة إنتاج سلطة لا نشعر بالاغتراب التام عنها كلبنانيين.
ومع استمرار تصدّع مشروع الدولة الوطنية على مراحل في معظم بلدان المنطقة، منذ انحدار حركات التحرر واليسار العربي وصعود قوى الإسلام السياسي، وهيمنة القوى اليمينية المتطرفة والميليشيات الطائفية التي تحمل مشاريع تقسيمية، بما في ذلك قوى اليمين الصهيوني المتطرف التي تقود اليوم أكبر عدوانٍ عسكري في المنطقة منذ عام 1967، باتت ضرورة النقاش الأوسع في هذه الإشكالية تفرض نفسها.
الكسل الفكري الذي يعلّق كل إخفاقات بناء الدولة في لبنان على شماعة الاستعمار لتبرير إخفاقات الحاضر، ليس سوى هروب من المسؤولية التاريخية. هذا الكسل أصبح سمةً من سمات المناخ السياسي اليساري في لبنان، الذي اخترقه منطق التفكير البديهي، إلى درجة أنه أصبح يعجز عن تلمّس اتجاه البوصلة عند كل حدث وأمام كل تحدٍّ جديد، بل إن عملية إنتاج الفكر بحد ذاتها أصبحت محكومة بتصوّرات بديهية، وتفسيرات تُرجع كل مشاكل لبنان في الماضي والحاضر إلى جذور البنية الكولونيالية تارةً، أو إلى “الآخر” (أياً كان) طوراً، متجاهلةً العملية التاريخية (historical process) بكليّتها، أو مركّزة على بعض عناصرها ومستبعدةً الجزء الأكبر منها.
فالقوى التي تدير الصراع أو تُدار فيه، أو تفعل الاثنين معاً، إلى هذا الحد أو ذاك في كلَي الحالين، ليست مجرَّدَ امتدادٍ لاتفاقية تاريخية هنا أو توازنات دولية أو إقليمية هناك، بل هي قوى فاعلة في الحاضر، ومنتجة أو مساهمة في إنتاج ظروف المستقبل، تمتلك إرادةً، أو بعضاً منها، وتتحمل مسؤولية خياراتها، أو جزءاً منها. لذا، فإن اختزال كل هذه التعقيدات في جانبٍ معين، يشبه اختزال النهر بمنبعه من دون جميع الروافد التي شكّلت مجراه.
يفرض التبسيط اليساري نفسه حين يصير الحدث في حد ذاته محور التفكير الأوحد في صلب أي عملية تقييم أو إعادة تقييم، وتُستبعَد الأسباب والنتائج والتبعات، كما تُستبعَد الإرادة الذاتية في اتخاذ القرارات، أو حين يُزال الحدث من السياق الذي تتحكّم به عوامل ذاتية وموضوعية محدّدة، ليرمى تعسّفاً في سياقٍ تاريخي متخيّل على رغم تبدّل الجهات الفاعلة واختلاف الظروف المحيطة بها.
إقرأوا أيضاً:
ومن تجليات ذلك مثلاً، إلقاء اللوم بشكل مستمر على التركة التاريخية المتمثلة باتفاقية سايكس-بيكو، وتحميل الماضي مسؤولية فشل العناصر الفاعلة في الواقع السياسي في الحاضر، والاستعمار مسؤولية غياب الهوية الوطنية. وهذا التبسيط اليساري لا يختلف في الجوهر بتاتاً عن التبسيط اليميني في تحليل أسباب الحرب الأهلية “السابقة” ووصفها بقراءة اختزالية بـ “حرب الآخرين على أرض لبنان”. وذلك على رغم تأثير كل تلك العوامل المذكورة في التحوّلات التاريخية التي شهدها البلد.
تعرّضت صورة الدولة للاهتزاز في الوجدان الجمعي العربي، بخاصة في لبنان، حيث ارتبط وجود الدولة بهيمنة الميليشيات الطائفية تارةً، وبالفساد والتبعية للخارج عبر هيمنة قوى برجوازية كومبرادورية على الحكم طوراً. وكما يبدو اليوم، لا يزال قيام الدولة ككيانٍ سياسي حديث، يرتكز على حكم القانون والمؤسسات، وسموّ الدستور، والاستقلالية القضائية، والفصل بين السلطات حلماً بعيد المنال. إلا أنه لم يعد من الواقعي إحالة هذا الاستعصاء بشكلٍ خطّي إلى الظروف التاريخية لنشوء الدولة اللبنانية في أعقاب اتفاقية سايكس-بيكو التي رُسِّمَت مناطق النفوذ الجديدة على إثرها، على رغم أثر التأسيس الهش على فقدان مشروع الدولة الشرعية والهوية الجامعة.
في لحظة تاريخية بالغة الخطورة يمر بها لبنان، يترنّح الكيان-الجهاز الذي يسعى إلى التمظهر كدولةٍ قادرة على تحقيق غاياتها في محاولة تبدو يائسة لإحياء ذاته، أو للتحوّل من سلطةٍ مشكوك في شرعيتها الحقيقية – التي يجب أن تنبثق من قلب المجتمع لتحقق احتياجاته ومصالحه، لا من خارجه – إلى دولة راسخة الدعائم يُعاد فيها إنتاج السلطة بما لا يتناقض مع تطلعات المجتمع. إنها لحظة مصيرية تتطابق فيها الحاجة إلى الدولة مع الحفاظ على التماسك المجتمعي، بينما تُعمّق الاعتداءات الإسرائيلية اليومية من جهة، والتحريض الموجّه الذي تمارسه أدوات “حزب الله” الإعلامية من جهة أخرى، الصّدع بين مشروع قيام الدولة وجزء كبير من المجتمع. ردء هذا الصّدع ليس ملاذاً آمناً بالضرورة، لكنه الضرورة الوحيدة الآمنة والمتاحة في آنٍ معاً.
يقع الصراع بين الشرعيات في صلب هذه الإشكالية البنيوية؛ فبينما تتمركز السلطة الفعلية في قبضة القوى الطائفية التي تملك أشكالاً ومستويات مختلفة من النفوذ المسلّح من خارج إطار الدولة وداخله في آنٍ معاً، يكثّف رئيس مجلس الوزراء نواف سلام جزءاً كبيراً من تركيزه على قوانين شكلية تفتقر إلى المضمون الاجتماعي في السياق الراهن، على رغم المحاولات الجدية لاستعادة المؤسسات وتفعيلها على أكثر من صعيد.
هذه الازدواجية في الشرعية لا تعبّر بالضرورة عن وجود ثنائية حقيقية، بل عن فقدان الشرعية الحقيقية على الضفتين في الوقت ذاته، سواء أكان ذلك على مستوى شرعية الدولة التي تفشل في انتزاع هامشٍ ضروري وحيوي من الاستقلالية المؤسسية من خارج التحالفات السلطوية، أو شرعية الميليشيات وعلى رأسها “حزب الله”، التي تستمد قوتها من الخوف، أكان ذلك في فترات السلم بسلاح الترهيب، أو في فترات الحرب حيث تتبدل مصادر الخوف لتصير خارجية، كقوات الاحتلال الإسرائيلي أو الميليشيات السنية المتطرفة في سوريا.
شرعيتان زائفتان تمثّلان قطيعة جوهرية بينهما وبين المجتمع. تستند الأولى إلى خطابٍ سلطوي لسلطات رسمية عاجزة، تحاول في معظم الأحيان أن تستمدّ قوتها من إرادتها الذاتية، مطالبةً المجتمع الاعتراف بقوّتها من دون أن تقدّم أساساً مادياً كافياً لذلك، فتستحيل قوّتها استقواءً بدلاً من أن تكون نتاج توافقٍ اجتماعي فعلي – عابرٍ للتوافقات الطوائفية السلطوية. وتستند الثانية إلى ركائز بالغة الهشاشة، وإلى خطابٍ ترهيبي لميليشيا عاجزة عن تحقيق وعودها التي على أساسها تُعرقَل كل مساعي بناء الدولة، إذ تستمد شرعيتها من “الآخر المتوحّش” تارةً، ومن الفوضى والتهديد بالعنف والتوحّش بنفسها طوراً، فتتحوّل إلى وحشٍ يفترس من يدّعي حمايته حيناً، أو ينزع عمّن يدعي حمايته كل أشكال الحماية ليُسهِّل افتراسه من غيره من الوحوش أحياناً أخرى.
تغيب الإرادة العامة أمام الشرعيّتين المنقوصتين، أو الزائفتين، إذ تضمران لتلك الإرادة العداء المُطلَق. وهناك في التاريخ اللبناني المعاصر ما يكفي من الأمثلة لبرهنة ذلك العداء لتلك الإرادة، وإن كان آخرها، وأكثرها تعبيراً وقوّة، انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019. وفي الحالين، فإن الدولة التي نريد لها أن تصير بالفعل قادرة على أداء مهامها وواجباتها تجاه المجتمع، والميليشيا التي لم تطرح بديلاً عن دولةٍ تعيق جميع محاولات ترميمها ونهوضها، تتحوّلان إلى قوتين منفصلتين عن المجتمع، بما يتعارض مع أوهام “السياديين” و”الممانعين” معاً. هذا الوهم القاتل هو صلبُ الإشكالية التي تمنع تكوّن البيئة الحاضنة للدولة، بما هي بيئةٌ ولّادةٌ لمشروعٍ سياسي حقيقي، عابرٍ لصراع الطوائف، وطامحٍ لتجاوز بنية النظام الاجتماعي الطائفي بشكل كلي.
ويغيب في هذه المعادلة العقد الاجتماعي الحقيقي، أي جميع أشكال ومستويات التعاون الحقيقي، غير المؤقت، وغير المشروط بتوازنات طائفية هشّة.
وفي استمرار الصراع الداخلي على الشرعية بين شرعيتين منقوصتين، لا يبدو أن أياً منهما يريد تحقيق انتصارٍ كامل، بل تعيدان ترسيم الحدود داخلياً بما يتناسب مع الظروف السياسية الجديدة المفروضة على لبنان من خارجه. في استفحال هذا الصراع يُسحَق كل طموحٍ للتجاوز وتأسيس الجديد، وكذلك يُسحَق كل طامحٍ له. وربما يكون وهم التوفيق بين الإرادتين الذاتيتين للشرعيتين المنقوصتين هو أكثر أشكال السحق قسوة، إذ يُطيل أمد المعاناة في لحظةٍ تاريخية تتطلّب الحسم. ولا أعني بذلك الحسم العسكري.
ليس الانهيار الشامل قدراً محتوماً، بل هو نتيجة مزيجٍ متشابك من التراكمات والتوازنات والخيارات. الخروج من الوضع المأزقي في لبنان يتطلّب الحسم من أبناء المجتمع اللبناني أولاً: إما أن يريد المجتمع بناء دولة بما توفّر من قدرات وإمكانات ويقطع الطريق أمام ازدواجية الشرعية، وإما أن يطالب الميليشيا المهيمنة بحمل مشروع بناء دولة والتوقف عن التحريض والتعبئة ضد مشروع قيام الدولة الوحيد اليوم على رغم ضعف مقوّماته.
في الحالين، هذا المسار لا يُمكِن فرضه بالقوة العسكرية، فأي محاولة لفرضه عسكرياً لن تنتج سوى مزيد من الدمار والتمزّق، وقد تؤدي إلى حرب أهلية شاملة، وتُحوّل لبنان إلى ساحة صراع مفتوح تنتصر فيه الميليشيات التي يمكن أن تتناسل كالفطر، وتذوب فيه آخر معالم الدولة والمجتمع معاً.











