fbpx

لتفهم إسرائيل انظر إلى تبجيلها الموتى  

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هناك آليّة معيّنة أعاقَت احتماليّة تحقيق السلام: ألا وهي الموتى، الذين ينادوننا -نحن الأحياء- لنثأر لهم ونخلّد ذِكراهم. ولكي نفهمَ لِمَ لا ينتهي هذا الصراع، فعلينا أن نفهم دورَ الموتَى وقُدسيّتهم في هذه الدراما التاريخيّة

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

جميعنا مرّ بتجربة النظر إلى صورة قديمة، حيث يزين الواقفون إلى الكاميرا المشهد بابتسامة مصحوبة بالثقة في أنّ الحياة ستغمرهم بلُطفها وكرَمِها. ننظر حينها إلى الوجه المبتسم ونعرف ما لم يعرفه: أنّه في غضونِ أيّامٍ أو أسابيع سيموت في حادثٍ غير متوقّع أو تطحنه آلة حرب. ننظر إلى الوجه المبتسم ونشعر بتعاطفٍ وشفقةٍ غير معهودة، بسبب النهاية المأساويّة التي تنتظره، وابتهاجِه جاهلاً ذلك المصيرَ. نعلم أنّه لم يكن يعرف حينها أنّ ابتسامته وأملَه، سيذهبان من دون جدوى.

بهذا الشعور بالتعاطف المأساويّ شاهدت الفيلم الوثائقيّ “يوميّات أوسلو” The Oslo Diaries، الصادر عام 2018 للمخرجين مور لوشي ودانييل سيفان. يتحدث الفيلم عن المباحثات التي أدّت إلى توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993. ويوثّق الشكوك التي رافقت تواصل المفاوِضين الفلسطينيّين والإسرائيليّين مع بعضهم بعضاً، والسبل الإنسانيّة العميقة التي تشكّلت عبرها العلاقات في ما بينهم أثناء محاوَلتِهم إنهاء الصراع الدمويّ المستمر لمدة قرن من الزمن.

استحوذت عليّ مشاهد السذاجة التي جعلت يوسي بيلين ورون بنداك ويائير هيرشفيلد وأحمد قريع (أبو علاء)، وحتّى ياسر عرفات، يؤمنون لفترة وجيزة بأنّ الكراهية والشك، يمكن أن يحلّ محلَّهما الأمل. شاهدت ابتهاجَهم وأنا أعلم ما لم يكونوا حينها على علمٍ به: وهو أنّ آمالَهم بالسلام سيَسحقُها قريباً مقتل رئيس الوزراء على يدِ أحد المؤمنين بالتفوّق اليهوديّ.

لوَهلةٍ بدا الأمل قادراً على تغيير الأقدار، ولكنه لم يُفلِح في نهاية المطاف. فلماذا انهزَم الأمل والشجاعة؟ يقدِّم الفيلم إجابة شافية: عندما انكشفت محادثات أوسلو، بعدما ظلّت سريّة لفترة، ومع بدء تنفيذ التفاصيل الدقيقة للاتفاقيّة، شرَعَ المتطرّفون من الجانبين في شنّ هجمات إرهابيّة لحَرْف العمليّة عن مسارِها. وكانت عملية قتل على أحد الجانبين تؤدّي إلى عملية قتل على الجانب الآخر. ومع تزايد أعداد القتلى، تزايدَت الضغوط من أجل عدم “خيانة” الضحايا.

وبهذا، كانت هناك آليّة معيّنة أعاقَت احتماليّة تحقيق السلام: ألا وهي الموتى، الذين ينادوننا -نحن الأحياء- لنثأر لهم ونخلّد ذِكراهم. ولكي نفهمَ لِمَ لا ينتهي هذا الصراع، فعلينا أن نفهم دورَ الموتَى وقُدسيّتهم في هذه الدراما التاريخيّة. تجربة الخليل، وهي أكثر التجارب تمثيلاً للدور الذي يمكن أن تلعبه قُدسيّة الموتى.

فالخليل فيها قبر النبيّ إبراهيم، الذي يبجّله ويُجلّه المسلمون واليهود على حدٍّ سواء. عام 1929، وعلى خلفيّة الوطنيّة الفلسطينيّة الناشئة والنزاع على السيطرة على الأماكن المقدّسة، قام سكّان الخليل العرب بأعمال شغب. وعلى مدَى أسبوع، كانت هناك مواجهات واشتباكات بين العرب واليهود على امتداد البلاد، أسقطت 133 قتيلاً من اليهود و110 من العرب.

تُشير إيديث زيرتال وزميلها أكيفا إلدار في كتابهما “سادة البلاد: الصراع على المستوطنات الإسرائيليّة في الأراضي المحتلّة، 1967-2007″ Lords of the Land: The War Over Israel’s Settlements in the Occupied Territories, 1967-2007، إلى أنّ ديفيد بن غوريون وظّف الموتى لحشد الجماعة اليهوديّة، قائلاً، قبل 19 عاماً من إعلان استقلال إسرائيل، إن دَمنا المسفوك يستصرخنا، لا من أجل الشفقة والنجدة، بل من أجل زيادة قوّتنا وعملنا على الأرض”. وبحسب ما كتبَ المؤلّفان، “كانت الحركة الصهيونيّة تعرِف جيّداً كيف تحوّل الكوارث التاريخيّة إلى أساطير بطوليّة، لتنسج منها قصص البسالة والتضحية، لتصوغ من خلالها وحدةً وطنيّة وترابطاً اجتماعيّاً وعملاً سياسيّاً”.

بعد قيام الدولة، انحسرَت في الوعي الوطنيّ ذكرى مذابح الخليل، بما يشير إلى أنّ الذاكرة الجمعيّة تختار وتنتقي الموتَى الذين تُحيي ذِكراهم. ففي نهاية الأمر كان هناك ضحايا وأبطالٌ جُدُد يستحقّون الرثاء، وهم أولئك الذين ماتوا أثناء حرب الاستقلال (حرب 1948). ولكن بعد حرب الأيّام الستّة (حرب حزيران/ يونيو 1967)، احتلّت إسرائيل مدينةَ الخليل، مع بقيّة الضفّة الغربيّة، وأنشأت حكومة عسكريّة لإدارة المنطقة. ألهبَ احتلال الخليل خيالَ المسيحانيّين (messianists)، بما ساعد على “بعث” ذكرى الموتى.

يواصل الكاتبان القول: “بعد 40 عاماً من السُّبات التاريخيّ، انبعَثَت من جديد القصة القديمة حول مذبحة الخليل، وأصبحت الحافز السياسيّ الأهمّ بحوزة المستوطنين اليهود في الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967”.

“طبقات رمزية”

كانت سارة نخشون جزءاً من مجموعة صغيرة من الأشخاص الذين قرروا، عقب حرب 1967، أن يعيشوا في أقرب مكان ممكن من الحرم الإبراهيمي. يشتمل الحرم على مسجد، وقد استؤنفت الصلوات اليهوديّة في الفترة الأخيرة هناك، لكنّ السلطات العسكرية تردّدَت في إقامة مستوطنة يهودية في الخليل، خوفاً من إثارة حساسيات العرب. إلّا أنّ سارة قررت تحدّي المحظورات التي وضعها وزير الدفاع، موشيه دايان، وعقدت هي وزوجها حفلَ ختانٍ لابنهما الذي وُلِد حديثاً عند الحرم؛ وهو من الأفعال التي -بلا شكّ- تغضِب السكان الفلسطينيين.

روت تشانا وايزبرغ قصةَ سارة، “في أعقاب حرب الأيام الستة عام 1967، انضمت سارة وزوجها، الفنان التابع لحركة الحاسيديم باروخ نخشون، إلى مجموعة من الناشطين الذين يدْعون للمثالية، والعازِمين على إعادة تأسيس المجتمع اليهودي القديم داخل الخليل المُحرَّرة حديثاً؛ وقد شجعهم حاخام حركة حباد (الذي أقام في نيويورك)، ووهبَهم الكثير من البركات على جهودهم. أدرَك هؤلاء الناشطون الأهميةَ الفائقة لتأسيس حضور يهودي في أقدم مدينة من المدن الأربع المقدسة في إسرائيل، حيث عاشت جماعة يهوديّة مئات السنين حتى وقوع المذبحة التي راح ضحيتها 67 يهودياً على يد السكان العرب المحليين عام 1929. وأدركوا أن الحفاظ على المجتمع اليهودي في الخليل قد يكون هو السبيل الوحيد لضمان استمرار وصول اليهود إلى الحرم الإبراهيمي، وهو موقع دفن الأمهات والآباء، وثاني أكثر المواقع قداسة في الديانة اليهودية، والذي كان محظوراً على اليهود حتى عام 1967 من قِبَل السطات الإسلاميّة لما يزيد على 700 سنة”.

في العام الذي أعقب الحرب، انضمت سارة وباروخ وأطفالُهما الصغار الأربعة إلى زملائهم من الناشطين في الانتقال إلى فندقٍ يمتلكه العرب في الخليل. وذكرَت سارة نخشون لاحقاً كيف أنّ “مسؤولاً في الجيش حضر للقاء المجموعة، وأخبرنا أننا نسبب له إزعاجاً كبيراً”. أخبرهم، في الوقت ذاته، أنّ الحكومة قرّرت -بسبب القلق على سلامتهم- أنه سيُسمَح لمجموعة مكوّنة من 7 عائلات و15 طالباً في مدرسة يشيفا الدينية بالانتقال إلى معسكر للجيش بالقرب من البلدة.

مضت سارة في طريقها وأنجبت 3 أطفال آخرين، واتخذّت الخطوة الخطيرة (إزاء القانون) المتمثّلة في ختان الأولاد داخل الحرم الإبراهيمي، وهي أول مرة تُجرَى فيها هذه العملية داخل الموقع خلال ما يزيد على 700 سنة.

تستمر مقالة ويسبرغ في سرد كيف أن سارة نخشون أنجبت طفلاً آخرَ، عام 1975، أسمَته أبراهام يديديا. وبعد ستة أشهر، مات فجأة.

استباقاً لمحاولة المستوطنين دفنَه في المقابر، وخوفاً من رد الفعل الذي يمكن أن يثيره ذلك لدى الفلسطينيين المحليين، أقام جيشُ الدفاع الإسرائيلي حواجزَ على الطرقات. وعندما أوقفوا موكب جنازة أبراهام الذي قطع الطريق من كِرْيات أربع، نزلت سارة نخشون من سيارتها لمواجهتهم. أمسكت طفلها الملفوف في قطعة من القماش، وتوجهت بالحديث إليهم قائلة “هل تبحثون عني؟ هل تبحثون عن طفلي؟ أُدعى سارة نخشون. وهذا طفلي، أحمِله بين ذراعي. إذا لم تسمحوا لنا بالمرور إلى المقابر في سياراتنا، فسنَمشي”.

تواصل ويسبرغ قائلةً “بعث الجنود، الذين عجزوا عن إثناء هذه الأم الشابة الحزينة على طفلها الذي فقدته، برسالة إلى رؤسائهم من الجهاز اللاسلكي قائلين “إذا أردتم أن تُوقِفُوا هذه المرأة، تعالوا إلى هنا وأوقفوها بأنفسكم!” نزل أحد الجنود من سيارته العسكريّة، وبينما كان يبكي، توسَّل إلى سارة نخشون قائلاً “أرجوك، سيّدة سارة. إنّ المسافة بعيدة جداً كي تمشيها! من فضلك، اسمحي لي أن أُقِلَّك إلى المقابر اليهودية”.

وِفقاً لويسبرغ، بعد مرور ما يزيد على ثلاثة عقود، لا تزال سارة تبكي عندما تتذكر مئات الأشخاص الذين انضموا إليها في تلك الليلة الصيفية عندما دفنت ابنها.

لعبَت هذه الواقعة دوراً بارزاً في إنشاء ما يُعرف اليوم بأكثر المستوطنات اليهودية تطرّفاً في الضفة الغربية؛ ولذا تستحق التحليل.

ينطوي هذا الحدث على الكثير من الطبقات الرمزية. أولاً، تجدر الإشارة إلى أهمية إجراء “brit mila” (الختان) في هذا الموقع التاريخي الذي يضم قبوراً، ما يوحي بأن الأحياء يستمدون القوة، والمعنى والمهمة من القدسية التي يوفرها موقع دفن الأجداد. ثانياً، لماذا تعتبر مدينة الخليل مقدسة في حد ذاتها؟ يُعرَّف الخليل بأنه موقع مقدس بحكم وجود الحرم الإبراهيمي، حيث يُفترض أن سارة نفسها قد دفنت هناك. وبعبارة أخرى، يمكننا القول إن الموتى هم الذين يضفون القدسية على الجغرافيا.

 

“كانت الحركة الصهيونيّة تعرِف جيّداً كيف تحوّل الكوارث التاريخيّة إلى أساطير بطوليّة، لتنسج منها قصص البسالة والتضحية، لتصوغ من خلالها وحدةً وطنيّة وترابطاً اجتماعيّاً وعملاً سياسيّاً”.

 

ونظراً إلى عدم وجود مركز جغرافي أو معماري لهم، كان اليهود أكثر ميلاً إلى تقديس الموتى من خلال إحياء الذكرى، أكثر من الأشياء المادية (في شكل الآثار)، غير أن مواقع الدفن، التي كانت بمثابة مواقع للحج في الثقافات السائدة في جميع أنحاء منطقة البحر الأبيض المتوسط، وفرت القداسة الجغرافية للموتى.

ومتى تم تثبيت قضية سياسية أو دينية، يصبح الموتى مطية لإضفاء المعنى عليها. في نظر نخشون، مات طفلها من أجل إعادة فتح المقبرة اليهودية في الخليل، ويصبح لموت الطفل مغزى، وبمجرد تحقيق الهدف يصبح مقدساً. الموتُ يضفي القداسة على عمل الإنسان، وعلى سبيل المثال، “يدعو” الأموات الأحياء، للدفاع عن الأرض، التي تصبح مقدسة بحكم وجود الموتى الذين دفنوا فيها.

الطبقة الرابعة: الطفل المتوفى الذي يجعل الجيش “يستسلم” لمجموعة من اليهود المسيحانيّين، يصبح إضافة جديدة في قائمة الموتى. يزيد طفل سارة، أبراهام، بعد وفاته، تعميق قدسية المكان الذي دفن فيه. وبمجرد وجود مقبرة يهودية، يصبح من المستحيل على اليهود مغادرة المكان، لأن تربة القبر اليهودي تصبح مقدسة. وعن طريق رسم خط مباشر، يربط بين رمزية الكتاب المقدس والنضال الوطني المعاصر، تقدم سارة طفلها على شكل قربان.

لدينا إذاً، ثلاث حالات من الوفيات المقدسة، تتراكم الواحدة فوق الأخرى في هذه القصة، ويتم تعبئة ذكرى الثلاثة، سارة زوجة النبي إبراهيم، والضحايا اليهود عام 1929، وطفل سارة ناخشون، لاستحضار قدسية الأرض والأمة والدين، كلها في وقتٍ واحدٍ.

يشارك الجيش هو أيضاً في هذه الدراما الجماعية من خلال رمزية قداسة الميت والأرض التي دفِن فيها. أصبح اسم سارة واسم رضيعها يتناغمان مع أسماء الأجداد.

استنهضت هذه الأسماء ذكريات التضحية القومية والدينية، وروح الاستشهاد. عندما توفي الطفل، فكأنه مات من أجل شيء ما – في هذه الحالة، نيابة عن الشعب والأمة، وإذا مات طفلٌ من أجل الأمة، فلا يمكن للأمة (أي الجيش) رفض دفنه.

ومن ثم، يعتبر وصف “متطرف” تسمية خاطئة، لأن ما يميز المتطرف ليس أن يكون الشخص على أقصى طرف السلسلة المتصلة، وإنما لكونه يملك القدرة على تحويل الأشياء إلى كيانات مقدسة لا يمكن انتهاكها وأن يكون على استعداد للموت دفاعاً عن هذه القداسة.

باروخ غولدشتاين

باروخ غولدشتاين، مثل كثر من شهداء الأديان الأخرى، يشكل مثالاً حياً على هذه الديناميكية، وليس من قبيل المصادفة، أن يكون عاش في كريات أربع بالخليل.

هياج غولدشتاين

شكّل غولدشتاين، الطبيب المولود في الولايات المتحدة والبالغ من العمر 37 سنة، جانباً شديد الأهمية من حركة المستوطنين فضلاً عن دوره المهم في إعاقة عملية أوسلو. عاش غولدشتاين في بلدة الخليل، بصفته مهاجراً جديداً. وهناك، في الخامس والعشرين من شباط/ فبراير عام 1994، ارتكب جُرماً قد يبدو، على الأقل في يومنا الحالي، عملاً أميركياً أكثر من كونه إسرائيلياً، على رغم ارتكابه في قلب الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني: أطلق غولدشتاين النار على زمرة من فلسطينيين احتشدوا للصلاة في المسجد الإبراهيمي، وهو الاسم الذي يطلقه المسلمون على “كهف البطاركة” أو “مقبرة البطاركة”، الذي ينقسم إلى مساحات منفصلة للصلاة من أجل اليهود والمسلمين. انتظر غولدشتاين حتى أحنى المسلمون وجوههم على الأرض ومن ثمّ أطلق النار بلا تمييز. أودت حالة الهياج هذه بحياة 29 شخصاً (إضافة إلى غولدشتاين نفسه، الذي ضربه المصلون الناجون حتى الموت)، وأُصيب 125 شخصاً بجروح. وعلى رغم الإدعاءات التي أُثيرت في ذلك الوقت بشأن اختلال عقل غولدشتاين، لا شيء يدل على كونه كذلك.

حضر جنازة غولدشتاين أكثر من 1000 شخص. وأبّنه حاخامات بارزون وقادة في حركة الاستيطان. قال عنه كبير حاخامات الخليل وكريات أربع، دوف ليئور: “كان يحب إخوانه من بني البشر حباً جماً وضحى بنفسه من أجل مساعدة الآخرين”. ووصف الحاخام ليئور غولدشتاين إنه “أقدس من جميع شهداء محرقة”الهولوكوست”، وهو ما يوحي بأن موت غولدشتاين كان بمثابة العمل الاستشهادي.

كان غولدشتاين في شبابه عضواً في رابطة الدفاع اليهودية JDL، ومتعاطفاً مع حزب “كاخ” الإسرائيلي. عام 1990، عندما اغتيل الحاخام مئير كهانا، مؤسس كل من رابطة الدفاع اليهودية وحزب كاخ، في نيويورك على يد عربي، تعهد غولدشتاين بالانتقام. وبدلاً من الانتقام، وُقعت اتفاقيات أوسلو عام 1993، والتي كانت بالنسبة إليه بمثابة محو إسرائيل لنداء الموتى. ولكن ما تسبب على الأرجح في وقوع المجزرة هو ما حدث في شباط 1994، حين وقع عدد قياسي من الهجمات الإرهابية الفلسطينية في إسرائيل والمستوطنات: وقُتل كل من إيلان سودري وشاي شوكر ونفتالي سحار ونعوم كوهين ويوفال غولان في هجمات منفصلة.

أكاد أجزم أن الهجوم الإرهابي الذي دفع غولدشتاين إلى ارتكاب هذا الجُرم في نهاية المطاف كان قتل زيبورا ساسون، في 19 شباط. كانت ساسون، البالغة من العمر 34 سنة، تقيم في مستوطنة أرئيل، ولديها ابنتان وكانت حاملاً في شهرها الخامس. في حالة ساسون، لم تُقتل أم يهودية فحسب، بل قُتل جنين يهودي أيضاً، والذي من المرجح أنه كان يرمز إلى مفهوم الحياة اليهودية بالنسبة إلى اليهود الملتزمين.

رد الفلسطينيون رداً عنيفاً على المذبحة، إذ قاموا بأعمال شغب في الضفة الغربية وقطاع غزة، أودت بحياة 26 فلسطينياً وتسعة إسرائيليين. انتشرت أعمال الشغب إلى أن وصلت إلى المسجد الأقصى في القدس، وألقى فلسطينيون من جبل الهيكل (الحرم القدسي) الحجارة على رجال الشرطة وعلى المصلين عند الحائط الغربي أدناه. انتشر الغضب ودعوات الانتقام والأخذ بالثأر في أرجاء العالم العربي. وفي أبريل/ نيسان 1994، ردت كتائب عز الدين القسام التابعة لحركة المقاومة الإسلامية حماس على نداء قتلاهم، ونفذت تفجيرَين انتحاريين، في رد انتقامي صريح على جريمة القتل الجماعي التي نفّذها غولدشتاين. بعد ذلك، بدأ الفلسطينيون شن هجمات إرهابية في قلب تل أبيب والقدس. بدا أن كل هجوم إرهابي يتطلب هجوماً آخر للرد عليه. كل عملٍ متطرفٍ يشجع عملاً متطرفاً آخر شبيهاً له لأن الموتى “دعوا” الموتى، في كلا المعسكرين.

وبسبب هذا المنطق تحديداً، دعا معسكر المستوطنين، تحت قيادة زعيم المعارضة آنذاك بنيامين نتنياهو، إلى تعطيل اتفاقية أوسلو، ووُصف إسحاق رابين بالخائن. ظهرت ملصقات تُصور رابين مرتدياً زي وحدات شوتزشتافل (SS) النازية. وفقاً للمستوطنين، كان عليه أن يدفع ثمن أولئك الذين قُتلوا وأولئك الذين لم يموتوا بعد. وكان اغتيال رابين بمثابة الضربة النهائية لعملية السلام.

في النهاية، مثلما يوضح وثائقي “يوميات أوسلو”، كان هناك شيء غامض ومتعذر تغييره في عدم قدرة الأطراف على التغلب على الصراع. هناك بالفعل شيء غامض إلى حد ما في حقيقة عدم انتهاء الصراع. أعتقد أن حل اللغز يكمن في نداء الموتى. لا يمكن أن يتخلى الأحياء عن موتاهم لأن الموتى مقدسون.

من أجل الصالح العام

في كتاب “الأشكال الأولية للحياة الدينية”/ “The Elementary Forms of Religious Life” الذي نُشر عام 1915، كانت الفكرة الأكثر تأثيراً في الكاتب إيميل دوركايم هي أن الحاجة إلى الانتماء الاجتماعي تشكل أصل الدين على نحو جوهري، إذ إن المشاعر الدينية (أي الخشية والخضوع والطاعة لقوة أكبر والإحساس بالشيء المقدّس والمدنس)، تنبع من الإعجاب والخوف الذي يشعر به الفرد في وجود قوة الجماعة.

لم يذكر دوركهايم تحديداً دور الموتى، بيد أنهم يلعبون دوراً حاسماً في تقديس الجماعة والأرض التي دفنوا فيها. تتشكل المجموعات وتستمر من خلال قدرتها على إجبار الناس على الموت من أجلها. هذه ظاهرة دينية، لكنها أيضاً تُشكل أساس القومية. من ثم، فإن القومية والدين يتشاركان في بعض التشابهات العميقة. إحدى الآليات التي تربط بين القومية والتدين هي ما يسميه العالمان كارولين مارفن وأغنيسكا سولتيسيك مونيه بالتضحية بالنفس – الموت من أجل الكيان الجمعي.

تبني الشعوب ذكرياتها حول الموتى وتعمل على تقديس الوفيات التي نتجت عن التضحية بالنفس. على سبيل المثال، كما أوضح كل من مارفين وإنغل، فإن الحرب الأهلية الأميركية “ساعدت على تكوين حس الهوية القومية المشتركة” من طريق “تأسيس نظام للمقابر العسكرية القومية. لم تكن تستعاد جثامين الجنود الأميركيين المقتولين -حتى الحرب الأهلية- على نحو نظامي أو الأشياء التي تحمل تبجيلاً خاصاً من أرض المعركة.عام 1862 قررت حكومة الولايات المتحدة للمرة الأولى أن تخصص -من طريق قانون أقره الكونغرس- مقابر خاصة لدفن جثامين الذين قدموا حياتهم دفاعاً عن الجمهورية، ومن ثم أنشئت شبكة كاملة للأماكن التي يبجلها الشعب”. أصبحت هذه المقابر وسيلة رمزية للم شعث الاتحاد. في حالة إسرائيل، كما في حالة غيرها من الشعوب، إن الحدث المؤسس هو حرب الاستقلال بالنظر إليها كانتصار وكتضحية، فقد استلزمت حرب الاستقلال، وغيرها من الحروب، وفاة أشخاص لا بد من تذكرهم ولا بد من احترام تضحيتهم.

في إسرائيل، أيضاً، تتضافر البطولة والموت على نحو معقد وأصبحا يعرّفان الهوية الوطنية.

أطلقت الحركة الصهيونية التصحيحية أو الصهيونية المراجعة على حركة الشباب لديها (السابقة على الليكود) اسم “بيتار” Betar، وهو اختصار من الحروف الأولى لـ”عهد ترمبيلدور” Trumpeldor Covenant، بينما تتذكر الحركات اليسارية ترمبيلدور على أنه مدافع عن المستوطنات الزراعية، أو الكيبوتز، وأنشأوا النصب التذكارية باسمه. تم تأسيس كتيبة جوزيف ترمبيلدور للعمل والدفاع The Joseph Trumpeldor Work and Defense Battalion المسماة بالعبرية Gdud Ha’avoda، بعد موته وإنشاء الكثير من الكيبوتز. سميت المدينة المجاورة كيرات شمونا Kiryat Shmona (“مدينة الثمانية”) باسم ترمبيلدور والسبعة الآخرين الذين ماتوا وهم يدافعون عن تل هاي. اعتبر الشخص نفسه بطلاً من قبل الحزبين الصهيونيين المتنافرين لأن التضحية بالنفس بالنسبة إلى كليهما كانت مبدأ أساسياً للشعب والهوية الإسرائيلية.

وهناك مثال آخر هو أسطورة في التضحية بالنفس لا تقل قوة، وهي مسادا (متسادا أو مسعدة)، وقد حللها على نحو مميز كل من الأنثروبولوجيّة (المختصة في علم الإنسان) يائيل زيروبافيل وعالِم الاجتماع نحمان بن يهودا. على رغم أن قصة مسادا -التي قتل فيها اليهود اللاجئون إلى الجبل أنفسهم بدلاً من الاستسلام للرومان- قد تم تجاهلها لقرون لاعتبارها حلقة غامضة في الماضي اليهودي القديم، واختفت من الذاكرة الجمعية لليهود، على رغم ذلك، فقد أحيتها الصهيونية. وعلى رغم أن الشريعة اليهودية تحرم الانتحار على نحو صارم، فقد أصبح قتل المرء نفسه أمراً مقبولاً في حالة مسادا لأنه أصبح مفهوماً باعتباره يجسد فكرة قومية – لأنه موت توقع وأعد لوفيات مستقبلية للشعب المستقبلي. بالنسبة للرواد الصهاينة في فلسطين ما قبل تكوين الدولة، مثلت مسادا حدثاً عالي الرمزية “اقتنص جوهر الروح القومية الأصيلة وساعد على تحديد مهمتهم التاريخية الخاصة بصفتهم الأتباع المباشرين للعبرانيين القدامى”، بحسب قول زيروبافيل. لقد أصبحت مسادا الرمز النموذجي للموت عن طريق التضحية بالنفس.

أجرَت زيروبافيل قبل ثلاثة عقود مقابلاتٍ مع شباب في إسرائيل، واستنتج منها أن الرواية التاريخية عن مسادا ما زالت تحظى بشعبية واسعة. تكرّر وصفُ الطلّاب والكبار الذين التقتهم، أن شعبَ مسادا حارب “حتى النهاية المريرة” أو “حتى النفَس الأخير” أو “حتى آخر قطرة دم”، أو أنّه “مات على مذبح الوطن”، عند إشارتهم إلى الرسالة الرمزيّة لمسادا.

يرجع هذا إلى أنّ الهويّة القوميّة دائماً ما تقوم وتتشكّل بناءً على “صورة ضحية” أو تضحية جماعيّة.

إنّ دولةً خاضت 15 نزاعاً مسلّحاً منذ إنشائها -أي 15 نزاعاً مسلّحاً في أقل من 70 عاماً- هي دولةٌ حَرِيٌّ بها أن تشعر أنها مَدينةٌ بشكلٍ خاص لموتاها، وأن تكون لديها قدرة خاصة على إحياء ذلك الدَّين باستمرار. أعتقد أنّ المستوطنين يعرفون أكثر من غيرهم كيفيةَ استغلال الموتى لمصلحتهم، من خلال تقديس الموتى والأرض التي دُفِنوا فيها. فالمستوطِنون -بطبيعتهم- على استعداد للموت من أجل الأمة/الشعب، لأنهم يَحيَون في خطر من الثأر والانتقام المستمر من قِبَل الفلسطينيّين، بسبب احتلالهم أراضيهم. وبصفتِهم مستوطنين، فهم في حالة مواجهة بين القوميّة والمسيحانيّة، حيث تمكّنهم كلا الأيديولوجيتَين من تقديس الأرض والموتى.

كان موريس باريس صوت المُعادين للنقيب ألفريد دريفوس في فرنسا نهاية القرن التاسع عشر (في قضية دريفوس)، وكان مقرَّباً من شارل موراس، وهو مؤيّد للملكيّة ذات ميول قوية في معاداة الساميّة. عام 1902 كان باريس صوتَ القوميّة اليمينيّة في فرنسا، وألقى خطاباً بعنوان ”الأرض والموتى“، زعَم فيها أنّ الأمة تقوم على هذين الشيئَين تحديداً. وقال باريس: “لتأسيس أمّة ما، نحن بحاجة إلى مقبرة وتعاليم التاريخ“.

إنّ فكرة أن نكون مَدِينين للموتَى هي أحد أعمق أنماط الدين والقوميّة. الاعتقاد في الموتى وتقديسهم وفي فكرة أنّنا ورثة أسلافٍ لم تنتهِ مهمّتهم ووظيفتهم بعد، وعلينا إتمامها، هو أساس فهم العالم الخياليّ للقوميّة العِرقيّة. إنّ اليمين المتطرّف المسيحانيّ في إسرائيل يقوم بتجديد وطنيّته من خلال سياسات نقاء الدم وإحياء ذكرى الموتى. أعتقد أنّ هذا هو الانتماء الخفيّ والقويّ في إسرائيل، بين تيارَي القوميّة والأصوليّة؛ وهو سبب أنّ كثيرين لا يستطيعون التخلّي عن هذا الصراع العميق والمتواصِل مع الفلسطينيّين: لأنّ الكثيرين يشعرون بعلاقة ولاء وإخلاص للموتَى.

 

إيفا إيلّوز 

هذا المقال مترجَم Haaretz.com ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي.

04.03.2019
زمن القراءة: 14 minutes

هناك آليّة معيّنة أعاقَت احتماليّة تحقيق السلام: ألا وهي الموتى، الذين ينادوننا -نحن الأحياء- لنثأر لهم ونخلّد ذِكراهم. ولكي نفهمَ لِمَ لا ينتهي هذا الصراع، فعلينا أن نفهم دورَ الموتَى وقُدسيّتهم في هذه الدراما التاريخيّة

جميعنا مرّ بتجربة النظر إلى صورة قديمة، حيث يزين الواقفون إلى الكاميرا المشهد بابتسامة مصحوبة بالثقة في أنّ الحياة ستغمرهم بلُطفها وكرَمِها. ننظر حينها إلى الوجه المبتسم ونعرف ما لم يعرفه: أنّه في غضونِ أيّامٍ أو أسابيع سيموت في حادثٍ غير متوقّع أو تطحنه آلة حرب. ننظر إلى الوجه المبتسم ونشعر بتعاطفٍ وشفقةٍ غير معهودة، بسبب النهاية المأساويّة التي تنتظره، وابتهاجِه جاهلاً ذلك المصيرَ. نعلم أنّه لم يكن يعرف حينها أنّ ابتسامته وأملَه، سيذهبان من دون جدوى.

بهذا الشعور بالتعاطف المأساويّ شاهدت الفيلم الوثائقيّ “يوميّات أوسلو” The Oslo Diaries، الصادر عام 2018 للمخرجين مور لوشي ودانييل سيفان. يتحدث الفيلم عن المباحثات التي أدّت إلى توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993. ويوثّق الشكوك التي رافقت تواصل المفاوِضين الفلسطينيّين والإسرائيليّين مع بعضهم بعضاً، والسبل الإنسانيّة العميقة التي تشكّلت عبرها العلاقات في ما بينهم أثناء محاوَلتِهم إنهاء الصراع الدمويّ المستمر لمدة قرن من الزمن.

استحوذت عليّ مشاهد السذاجة التي جعلت يوسي بيلين ورون بنداك ويائير هيرشفيلد وأحمد قريع (أبو علاء)، وحتّى ياسر عرفات، يؤمنون لفترة وجيزة بأنّ الكراهية والشك، يمكن أن يحلّ محلَّهما الأمل. شاهدت ابتهاجَهم وأنا أعلم ما لم يكونوا حينها على علمٍ به: وهو أنّ آمالَهم بالسلام سيَسحقُها قريباً مقتل رئيس الوزراء على يدِ أحد المؤمنين بالتفوّق اليهوديّ.

لوَهلةٍ بدا الأمل قادراً على تغيير الأقدار، ولكنه لم يُفلِح في نهاية المطاف. فلماذا انهزَم الأمل والشجاعة؟ يقدِّم الفيلم إجابة شافية: عندما انكشفت محادثات أوسلو، بعدما ظلّت سريّة لفترة، ومع بدء تنفيذ التفاصيل الدقيقة للاتفاقيّة، شرَعَ المتطرّفون من الجانبين في شنّ هجمات إرهابيّة لحَرْف العمليّة عن مسارِها. وكانت عملية قتل على أحد الجانبين تؤدّي إلى عملية قتل على الجانب الآخر. ومع تزايد أعداد القتلى، تزايدَت الضغوط من أجل عدم “خيانة” الضحايا.

وبهذا، كانت هناك آليّة معيّنة أعاقَت احتماليّة تحقيق السلام: ألا وهي الموتى، الذين ينادوننا -نحن الأحياء- لنثأر لهم ونخلّد ذِكراهم. ولكي نفهمَ لِمَ لا ينتهي هذا الصراع، فعلينا أن نفهم دورَ الموتَى وقُدسيّتهم في هذه الدراما التاريخيّة. تجربة الخليل، وهي أكثر التجارب تمثيلاً للدور الذي يمكن أن تلعبه قُدسيّة الموتى.

فالخليل فيها قبر النبيّ إبراهيم، الذي يبجّله ويُجلّه المسلمون واليهود على حدٍّ سواء. عام 1929، وعلى خلفيّة الوطنيّة الفلسطينيّة الناشئة والنزاع على السيطرة على الأماكن المقدّسة، قام سكّان الخليل العرب بأعمال شغب. وعلى مدَى أسبوع، كانت هناك مواجهات واشتباكات بين العرب واليهود على امتداد البلاد، أسقطت 133 قتيلاً من اليهود و110 من العرب.

تُشير إيديث زيرتال وزميلها أكيفا إلدار في كتابهما “سادة البلاد: الصراع على المستوطنات الإسرائيليّة في الأراضي المحتلّة، 1967-2007″ Lords of the Land: The War Over Israel’s Settlements in the Occupied Territories, 1967-2007، إلى أنّ ديفيد بن غوريون وظّف الموتى لحشد الجماعة اليهوديّة، قائلاً، قبل 19 عاماً من إعلان استقلال إسرائيل، إن دَمنا المسفوك يستصرخنا، لا من أجل الشفقة والنجدة، بل من أجل زيادة قوّتنا وعملنا على الأرض”. وبحسب ما كتبَ المؤلّفان، “كانت الحركة الصهيونيّة تعرِف جيّداً كيف تحوّل الكوارث التاريخيّة إلى أساطير بطوليّة، لتنسج منها قصص البسالة والتضحية، لتصوغ من خلالها وحدةً وطنيّة وترابطاً اجتماعيّاً وعملاً سياسيّاً”.

بعد قيام الدولة، انحسرَت في الوعي الوطنيّ ذكرى مذابح الخليل، بما يشير إلى أنّ الذاكرة الجمعيّة تختار وتنتقي الموتَى الذين تُحيي ذِكراهم. ففي نهاية الأمر كان هناك ضحايا وأبطالٌ جُدُد يستحقّون الرثاء، وهم أولئك الذين ماتوا أثناء حرب الاستقلال (حرب 1948). ولكن بعد حرب الأيّام الستّة (حرب حزيران/ يونيو 1967)، احتلّت إسرائيل مدينةَ الخليل، مع بقيّة الضفّة الغربيّة، وأنشأت حكومة عسكريّة لإدارة المنطقة. ألهبَ احتلال الخليل خيالَ المسيحانيّين (messianists)، بما ساعد على “بعث” ذكرى الموتى.

يواصل الكاتبان القول: “بعد 40 عاماً من السُّبات التاريخيّ، انبعَثَت من جديد القصة القديمة حول مذبحة الخليل، وأصبحت الحافز السياسيّ الأهمّ بحوزة المستوطنين اليهود في الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967”.

“طبقات رمزية”

كانت سارة نخشون جزءاً من مجموعة صغيرة من الأشخاص الذين قرروا، عقب حرب 1967، أن يعيشوا في أقرب مكان ممكن من الحرم الإبراهيمي. يشتمل الحرم على مسجد، وقد استؤنفت الصلوات اليهوديّة في الفترة الأخيرة هناك، لكنّ السلطات العسكرية تردّدَت في إقامة مستوطنة يهودية في الخليل، خوفاً من إثارة حساسيات العرب. إلّا أنّ سارة قررت تحدّي المحظورات التي وضعها وزير الدفاع، موشيه دايان، وعقدت هي وزوجها حفلَ ختانٍ لابنهما الذي وُلِد حديثاً عند الحرم؛ وهو من الأفعال التي -بلا شكّ- تغضِب السكان الفلسطينيين.

روت تشانا وايزبرغ قصةَ سارة، “في أعقاب حرب الأيام الستة عام 1967، انضمت سارة وزوجها، الفنان التابع لحركة الحاسيديم باروخ نخشون، إلى مجموعة من الناشطين الذين يدْعون للمثالية، والعازِمين على إعادة تأسيس المجتمع اليهودي القديم داخل الخليل المُحرَّرة حديثاً؛ وقد شجعهم حاخام حركة حباد (الذي أقام في نيويورك)، ووهبَهم الكثير من البركات على جهودهم. أدرَك هؤلاء الناشطون الأهميةَ الفائقة لتأسيس حضور يهودي في أقدم مدينة من المدن الأربع المقدسة في إسرائيل، حيث عاشت جماعة يهوديّة مئات السنين حتى وقوع المذبحة التي راح ضحيتها 67 يهودياً على يد السكان العرب المحليين عام 1929. وأدركوا أن الحفاظ على المجتمع اليهودي في الخليل قد يكون هو السبيل الوحيد لضمان استمرار وصول اليهود إلى الحرم الإبراهيمي، وهو موقع دفن الأمهات والآباء، وثاني أكثر المواقع قداسة في الديانة اليهودية، والذي كان محظوراً على اليهود حتى عام 1967 من قِبَل السطات الإسلاميّة لما يزيد على 700 سنة”.

في العام الذي أعقب الحرب، انضمت سارة وباروخ وأطفالُهما الصغار الأربعة إلى زملائهم من الناشطين في الانتقال إلى فندقٍ يمتلكه العرب في الخليل. وذكرَت سارة نخشون لاحقاً كيف أنّ “مسؤولاً في الجيش حضر للقاء المجموعة، وأخبرنا أننا نسبب له إزعاجاً كبيراً”. أخبرهم، في الوقت ذاته، أنّ الحكومة قرّرت -بسبب القلق على سلامتهم- أنه سيُسمَح لمجموعة مكوّنة من 7 عائلات و15 طالباً في مدرسة يشيفا الدينية بالانتقال إلى معسكر للجيش بالقرب من البلدة.

مضت سارة في طريقها وأنجبت 3 أطفال آخرين، واتخذّت الخطوة الخطيرة (إزاء القانون) المتمثّلة في ختان الأولاد داخل الحرم الإبراهيمي، وهي أول مرة تُجرَى فيها هذه العملية داخل الموقع خلال ما يزيد على 700 سنة.

تستمر مقالة ويسبرغ في سرد كيف أن سارة نخشون أنجبت طفلاً آخرَ، عام 1975، أسمَته أبراهام يديديا. وبعد ستة أشهر، مات فجأة.

استباقاً لمحاولة المستوطنين دفنَه في المقابر، وخوفاً من رد الفعل الذي يمكن أن يثيره ذلك لدى الفلسطينيين المحليين، أقام جيشُ الدفاع الإسرائيلي حواجزَ على الطرقات. وعندما أوقفوا موكب جنازة أبراهام الذي قطع الطريق من كِرْيات أربع، نزلت سارة نخشون من سيارتها لمواجهتهم. أمسكت طفلها الملفوف في قطعة من القماش، وتوجهت بالحديث إليهم قائلة “هل تبحثون عني؟ هل تبحثون عن طفلي؟ أُدعى سارة نخشون. وهذا طفلي، أحمِله بين ذراعي. إذا لم تسمحوا لنا بالمرور إلى المقابر في سياراتنا، فسنَمشي”.

تواصل ويسبرغ قائلةً “بعث الجنود، الذين عجزوا عن إثناء هذه الأم الشابة الحزينة على طفلها الذي فقدته، برسالة إلى رؤسائهم من الجهاز اللاسلكي قائلين “إذا أردتم أن تُوقِفُوا هذه المرأة، تعالوا إلى هنا وأوقفوها بأنفسكم!” نزل أحد الجنود من سيارته العسكريّة، وبينما كان يبكي، توسَّل إلى سارة نخشون قائلاً “أرجوك، سيّدة سارة. إنّ المسافة بعيدة جداً كي تمشيها! من فضلك، اسمحي لي أن أُقِلَّك إلى المقابر اليهودية”.

وِفقاً لويسبرغ، بعد مرور ما يزيد على ثلاثة عقود، لا تزال سارة تبكي عندما تتذكر مئات الأشخاص الذين انضموا إليها في تلك الليلة الصيفية عندما دفنت ابنها.

لعبَت هذه الواقعة دوراً بارزاً في إنشاء ما يُعرف اليوم بأكثر المستوطنات اليهودية تطرّفاً في الضفة الغربية؛ ولذا تستحق التحليل.

ينطوي هذا الحدث على الكثير من الطبقات الرمزية. أولاً، تجدر الإشارة إلى أهمية إجراء “brit mila” (الختان) في هذا الموقع التاريخي الذي يضم قبوراً، ما يوحي بأن الأحياء يستمدون القوة، والمعنى والمهمة من القدسية التي يوفرها موقع دفن الأجداد. ثانياً، لماذا تعتبر مدينة الخليل مقدسة في حد ذاتها؟ يُعرَّف الخليل بأنه موقع مقدس بحكم وجود الحرم الإبراهيمي، حيث يُفترض أن سارة نفسها قد دفنت هناك. وبعبارة أخرى، يمكننا القول إن الموتى هم الذين يضفون القدسية على الجغرافيا.

 

“كانت الحركة الصهيونيّة تعرِف جيّداً كيف تحوّل الكوارث التاريخيّة إلى أساطير بطوليّة، لتنسج منها قصص البسالة والتضحية، لتصوغ من خلالها وحدةً وطنيّة وترابطاً اجتماعيّاً وعملاً سياسيّاً”.

 

ونظراً إلى عدم وجود مركز جغرافي أو معماري لهم، كان اليهود أكثر ميلاً إلى تقديس الموتى من خلال إحياء الذكرى، أكثر من الأشياء المادية (في شكل الآثار)، غير أن مواقع الدفن، التي كانت بمثابة مواقع للحج في الثقافات السائدة في جميع أنحاء منطقة البحر الأبيض المتوسط، وفرت القداسة الجغرافية للموتى.

ومتى تم تثبيت قضية سياسية أو دينية، يصبح الموتى مطية لإضفاء المعنى عليها. في نظر نخشون، مات طفلها من أجل إعادة فتح المقبرة اليهودية في الخليل، ويصبح لموت الطفل مغزى، وبمجرد تحقيق الهدف يصبح مقدساً. الموتُ يضفي القداسة على عمل الإنسان، وعلى سبيل المثال، “يدعو” الأموات الأحياء، للدفاع عن الأرض، التي تصبح مقدسة بحكم وجود الموتى الذين دفنوا فيها.

الطبقة الرابعة: الطفل المتوفى الذي يجعل الجيش “يستسلم” لمجموعة من اليهود المسيحانيّين، يصبح إضافة جديدة في قائمة الموتى. يزيد طفل سارة، أبراهام، بعد وفاته، تعميق قدسية المكان الذي دفن فيه. وبمجرد وجود مقبرة يهودية، يصبح من المستحيل على اليهود مغادرة المكان، لأن تربة القبر اليهودي تصبح مقدسة. وعن طريق رسم خط مباشر، يربط بين رمزية الكتاب المقدس والنضال الوطني المعاصر، تقدم سارة طفلها على شكل قربان.

لدينا إذاً، ثلاث حالات من الوفيات المقدسة، تتراكم الواحدة فوق الأخرى في هذه القصة، ويتم تعبئة ذكرى الثلاثة، سارة زوجة النبي إبراهيم، والضحايا اليهود عام 1929، وطفل سارة ناخشون، لاستحضار قدسية الأرض والأمة والدين، كلها في وقتٍ واحدٍ.

يشارك الجيش هو أيضاً في هذه الدراما الجماعية من خلال رمزية قداسة الميت والأرض التي دفِن فيها. أصبح اسم سارة واسم رضيعها يتناغمان مع أسماء الأجداد.

استنهضت هذه الأسماء ذكريات التضحية القومية والدينية، وروح الاستشهاد. عندما توفي الطفل، فكأنه مات من أجل شيء ما – في هذه الحالة، نيابة عن الشعب والأمة، وإذا مات طفلٌ من أجل الأمة، فلا يمكن للأمة (أي الجيش) رفض دفنه.

ومن ثم، يعتبر وصف “متطرف” تسمية خاطئة، لأن ما يميز المتطرف ليس أن يكون الشخص على أقصى طرف السلسلة المتصلة، وإنما لكونه يملك القدرة على تحويل الأشياء إلى كيانات مقدسة لا يمكن انتهاكها وأن يكون على استعداد للموت دفاعاً عن هذه القداسة.

باروخ غولدشتاين

باروخ غولدشتاين، مثل كثر من شهداء الأديان الأخرى، يشكل مثالاً حياً على هذه الديناميكية، وليس من قبيل المصادفة، أن يكون عاش في كريات أربع بالخليل.

هياج غولدشتاين

شكّل غولدشتاين، الطبيب المولود في الولايات المتحدة والبالغ من العمر 37 سنة، جانباً شديد الأهمية من حركة المستوطنين فضلاً عن دوره المهم في إعاقة عملية أوسلو. عاش غولدشتاين في بلدة الخليل، بصفته مهاجراً جديداً. وهناك، في الخامس والعشرين من شباط/ فبراير عام 1994، ارتكب جُرماً قد يبدو، على الأقل في يومنا الحالي، عملاً أميركياً أكثر من كونه إسرائيلياً، على رغم ارتكابه في قلب الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني: أطلق غولدشتاين النار على زمرة من فلسطينيين احتشدوا للصلاة في المسجد الإبراهيمي، وهو الاسم الذي يطلقه المسلمون على “كهف البطاركة” أو “مقبرة البطاركة”، الذي ينقسم إلى مساحات منفصلة للصلاة من أجل اليهود والمسلمين. انتظر غولدشتاين حتى أحنى المسلمون وجوههم على الأرض ومن ثمّ أطلق النار بلا تمييز. أودت حالة الهياج هذه بحياة 29 شخصاً (إضافة إلى غولدشتاين نفسه، الذي ضربه المصلون الناجون حتى الموت)، وأُصيب 125 شخصاً بجروح. وعلى رغم الإدعاءات التي أُثيرت في ذلك الوقت بشأن اختلال عقل غولدشتاين، لا شيء يدل على كونه كذلك.

حضر جنازة غولدشتاين أكثر من 1000 شخص. وأبّنه حاخامات بارزون وقادة في حركة الاستيطان. قال عنه كبير حاخامات الخليل وكريات أربع، دوف ليئور: “كان يحب إخوانه من بني البشر حباً جماً وضحى بنفسه من أجل مساعدة الآخرين”. ووصف الحاخام ليئور غولدشتاين إنه “أقدس من جميع شهداء محرقة”الهولوكوست”، وهو ما يوحي بأن موت غولدشتاين كان بمثابة العمل الاستشهادي.

كان غولدشتاين في شبابه عضواً في رابطة الدفاع اليهودية JDL، ومتعاطفاً مع حزب “كاخ” الإسرائيلي. عام 1990، عندما اغتيل الحاخام مئير كهانا، مؤسس كل من رابطة الدفاع اليهودية وحزب كاخ، في نيويورك على يد عربي، تعهد غولدشتاين بالانتقام. وبدلاً من الانتقام، وُقعت اتفاقيات أوسلو عام 1993، والتي كانت بالنسبة إليه بمثابة محو إسرائيل لنداء الموتى. ولكن ما تسبب على الأرجح في وقوع المجزرة هو ما حدث في شباط 1994، حين وقع عدد قياسي من الهجمات الإرهابية الفلسطينية في إسرائيل والمستوطنات: وقُتل كل من إيلان سودري وشاي شوكر ونفتالي سحار ونعوم كوهين ويوفال غولان في هجمات منفصلة.

أكاد أجزم أن الهجوم الإرهابي الذي دفع غولدشتاين إلى ارتكاب هذا الجُرم في نهاية المطاف كان قتل زيبورا ساسون، في 19 شباط. كانت ساسون، البالغة من العمر 34 سنة، تقيم في مستوطنة أرئيل، ولديها ابنتان وكانت حاملاً في شهرها الخامس. في حالة ساسون، لم تُقتل أم يهودية فحسب، بل قُتل جنين يهودي أيضاً، والذي من المرجح أنه كان يرمز إلى مفهوم الحياة اليهودية بالنسبة إلى اليهود الملتزمين.

رد الفلسطينيون رداً عنيفاً على المذبحة، إذ قاموا بأعمال شغب في الضفة الغربية وقطاع غزة، أودت بحياة 26 فلسطينياً وتسعة إسرائيليين. انتشرت أعمال الشغب إلى أن وصلت إلى المسجد الأقصى في القدس، وألقى فلسطينيون من جبل الهيكل (الحرم القدسي) الحجارة على رجال الشرطة وعلى المصلين عند الحائط الغربي أدناه. انتشر الغضب ودعوات الانتقام والأخذ بالثأر في أرجاء العالم العربي. وفي أبريل/ نيسان 1994، ردت كتائب عز الدين القسام التابعة لحركة المقاومة الإسلامية حماس على نداء قتلاهم، ونفذت تفجيرَين انتحاريين، في رد انتقامي صريح على جريمة القتل الجماعي التي نفّذها غولدشتاين. بعد ذلك، بدأ الفلسطينيون شن هجمات إرهابية في قلب تل أبيب والقدس. بدا أن كل هجوم إرهابي يتطلب هجوماً آخر للرد عليه. كل عملٍ متطرفٍ يشجع عملاً متطرفاً آخر شبيهاً له لأن الموتى “دعوا” الموتى، في كلا المعسكرين.

وبسبب هذا المنطق تحديداً، دعا معسكر المستوطنين، تحت قيادة زعيم المعارضة آنذاك بنيامين نتنياهو، إلى تعطيل اتفاقية أوسلو، ووُصف إسحاق رابين بالخائن. ظهرت ملصقات تُصور رابين مرتدياً زي وحدات شوتزشتافل (SS) النازية. وفقاً للمستوطنين، كان عليه أن يدفع ثمن أولئك الذين قُتلوا وأولئك الذين لم يموتوا بعد. وكان اغتيال رابين بمثابة الضربة النهائية لعملية السلام.

في النهاية، مثلما يوضح وثائقي “يوميات أوسلو”، كان هناك شيء غامض ومتعذر تغييره في عدم قدرة الأطراف على التغلب على الصراع. هناك بالفعل شيء غامض إلى حد ما في حقيقة عدم انتهاء الصراع. أعتقد أن حل اللغز يكمن في نداء الموتى. لا يمكن أن يتخلى الأحياء عن موتاهم لأن الموتى مقدسون.

من أجل الصالح العام

في كتاب “الأشكال الأولية للحياة الدينية”/ “The Elementary Forms of Religious Life” الذي نُشر عام 1915، كانت الفكرة الأكثر تأثيراً في الكاتب إيميل دوركايم هي أن الحاجة إلى الانتماء الاجتماعي تشكل أصل الدين على نحو جوهري، إذ إن المشاعر الدينية (أي الخشية والخضوع والطاعة لقوة أكبر والإحساس بالشيء المقدّس والمدنس)، تنبع من الإعجاب والخوف الذي يشعر به الفرد في وجود قوة الجماعة.

لم يذكر دوركهايم تحديداً دور الموتى، بيد أنهم يلعبون دوراً حاسماً في تقديس الجماعة والأرض التي دفنوا فيها. تتشكل المجموعات وتستمر من خلال قدرتها على إجبار الناس على الموت من أجلها. هذه ظاهرة دينية، لكنها أيضاً تُشكل أساس القومية. من ثم، فإن القومية والدين يتشاركان في بعض التشابهات العميقة. إحدى الآليات التي تربط بين القومية والتدين هي ما يسميه العالمان كارولين مارفن وأغنيسكا سولتيسيك مونيه بالتضحية بالنفس – الموت من أجل الكيان الجمعي.

تبني الشعوب ذكرياتها حول الموتى وتعمل على تقديس الوفيات التي نتجت عن التضحية بالنفس. على سبيل المثال، كما أوضح كل من مارفين وإنغل، فإن الحرب الأهلية الأميركية “ساعدت على تكوين حس الهوية القومية المشتركة” من طريق “تأسيس نظام للمقابر العسكرية القومية. لم تكن تستعاد جثامين الجنود الأميركيين المقتولين -حتى الحرب الأهلية- على نحو نظامي أو الأشياء التي تحمل تبجيلاً خاصاً من أرض المعركة.عام 1862 قررت حكومة الولايات المتحدة للمرة الأولى أن تخصص -من طريق قانون أقره الكونغرس- مقابر خاصة لدفن جثامين الذين قدموا حياتهم دفاعاً عن الجمهورية، ومن ثم أنشئت شبكة كاملة للأماكن التي يبجلها الشعب”. أصبحت هذه المقابر وسيلة رمزية للم شعث الاتحاد. في حالة إسرائيل، كما في حالة غيرها من الشعوب، إن الحدث المؤسس هو حرب الاستقلال بالنظر إليها كانتصار وكتضحية، فقد استلزمت حرب الاستقلال، وغيرها من الحروب، وفاة أشخاص لا بد من تذكرهم ولا بد من احترام تضحيتهم.

في إسرائيل، أيضاً، تتضافر البطولة والموت على نحو معقد وأصبحا يعرّفان الهوية الوطنية.

أطلقت الحركة الصهيونية التصحيحية أو الصهيونية المراجعة على حركة الشباب لديها (السابقة على الليكود) اسم “بيتار” Betar، وهو اختصار من الحروف الأولى لـ”عهد ترمبيلدور” Trumpeldor Covenant، بينما تتذكر الحركات اليسارية ترمبيلدور على أنه مدافع عن المستوطنات الزراعية، أو الكيبوتز، وأنشأوا النصب التذكارية باسمه. تم تأسيس كتيبة جوزيف ترمبيلدور للعمل والدفاع The Joseph Trumpeldor Work and Defense Battalion المسماة بالعبرية Gdud Ha’avoda، بعد موته وإنشاء الكثير من الكيبوتز. سميت المدينة المجاورة كيرات شمونا Kiryat Shmona (“مدينة الثمانية”) باسم ترمبيلدور والسبعة الآخرين الذين ماتوا وهم يدافعون عن تل هاي. اعتبر الشخص نفسه بطلاً من قبل الحزبين الصهيونيين المتنافرين لأن التضحية بالنفس بالنسبة إلى كليهما كانت مبدأ أساسياً للشعب والهوية الإسرائيلية.

وهناك مثال آخر هو أسطورة في التضحية بالنفس لا تقل قوة، وهي مسادا (متسادا أو مسعدة)، وقد حللها على نحو مميز كل من الأنثروبولوجيّة (المختصة في علم الإنسان) يائيل زيروبافيل وعالِم الاجتماع نحمان بن يهودا. على رغم أن قصة مسادا -التي قتل فيها اليهود اللاجئون إلى الجبل أنفسهم بدلاً من الاستسلام للرومان- قد تم تجاهلها لقرون لاعتبارها حلقة غامضة في الماضي اليهودي القديم، واختفت من الذاكرة الجمعية لليهود، على رغم ذلك، فقد أحيتها الصهيونية. وعلى رغم أن الشريعة اليهودية تحرم الانتحار على نحو صارم، فقد أصبح قتل المرء نفسه أمراً مقبولاً في حالة مسادا لأنه أصبح مفهوماً باعتباره يجسد فكرة قومية – لأنه موت توقع وأعد لوفيات مستقبلية للشعب المستقبلي. بالنسبة للرواد الصهاينة في فلسطين ما قبل تكوين الدولة، مثلت مسادا حدثاً عالي الرمزية “اقتنص جوهر الروح القومية الأصيلة وساعد على تحديد مهمتهم التاريخية الخاصة بصفتهم الأتباع المباشرين للعبرانيين القدامى”، بحسب قول زيروبافيل. لقد أصبحت مسادا الرمز النموذجي للموت عن طريق التضحية بالنفس.

أجرَت زيروبافيل قبل ثلاثة عقود مقابلاتٍ مع شباب في إسرائيل، واستنتج منها أن الرواية التاريخية عن مسادا ما زالت تحظى بشعبية واسعة. تكرّر وصفُ الطلّاب والكبار الذين التقتهم، أن شعبَ مسادا حارب “حتى النهاية المريرة” أو “حتى النفَس الأخير” أو “حتى آخر قطرة دم”، أو أنّه “مات على مذبح الوطن”، عند إشارتهم إلى الرسالة الرمزيّة لمسادا.

يرجع هذا إلى أنّ الهويّة القوميّة دائماً ما تقوم وتتشكّل بناءً على “صورة ضحية” أو تضحية جماعيّة.

إنّ دولةً خاضت 15 نزاعاً مسلّحاً منذ إنشائها -أي 15 نزاعاً مسلّحاً في أقل من 70 عاماً- هي دولةٌ حَرِيٌّ بها أن تشعر أنها مَدينةٌ بشكلٍ خاص لموتاها، وأن تكون لديها قدرة خاصة على إحياء ذلك الدَّين باستمرار. أعتقد أنّ المستوطنين يعرفون أكثر من غيرهم كيفيةَ استغلال الموتى لمصلحتهم، من خلال تقديس الموتى والأرض التي دُفِنوا فيها. فالمستوطِنون -بطبيعتهم- على استعداد للموت من أجل الأمة/الشعب، لأنهم يَحيَون في خطر من الثأر والانتقام المستمر من قِبَل الفلسطينيّين، بسبب احتلالهم أراضيهم. وبصفتِهم مستوطنين، فهم في حالة مواجهة بين القوميّة والمسيحانيّة، حيث تمكّنهم كلا الأيديولوجيتَين من تقديس الأرض والموتى.

كان موريس باريس صوت المُعادين للنقيب ألفريد دريفوس في فرنسا نهاية القرن التاسع عشر (في قضية دريفوس)، وكان مقرَّباً من شارل موراس، وهو مؤيّد للملكيّة ذات ميول قوية في معاداة الساميّة. عام 1902 كان باريس صوتَ القوميّة اليمينيّة في فرنسا، وألقى خطاباً بعنوان ”الأرض والموتى“، زعَم فيها أنّ الأمة تقوم على هذين الشيئَين تحديداً. وقال باريس: “لتأسيس أمّة ما، نحن بحاجة إلى مقبرة وتعاليم التاريخ“.

إنّ فكرة أن نكون مَدِينين للموتَى هي أحد أعمق أنماط الدين والقوميّة. الاعتقاد في الموتى وتقديسهم وفي فكرة أنّنا ورثة أسلافٍ لم تنتهِ مهمّتهم ووظيفتهم بعد، وعلينا إتمامها، هو أساس فهم العالم الخياليّ للقوميّة العِرقيّة. إنّ اليمين المتطرّف المسيحانيّ في إسرائيل يقوم بتجديد وطنيّته من خلال سياسات نقاء الدم وإحياء ذكرى الموتى. أعتقد أنّ هذا هو الانتماء الخفيّ والقويّ في إسرائيل، بين تيارَي القوميّة والأصوليّة؛ وهو سبب أنّ كثيرين لا يستطيعون التخلّي عن هذا الصراع العميق والمتواصِل مع الفلسطينيّين: لأنّ الكثيرين يشعرون بعلاقة ولاء وإخلاص للموتَى.

 

إيفا إيلّوز 

هذا المقال مترجَم Haaretz.com ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي.