fbpx

لحن لسان السلطة المصريّة… عودة ماكبث والنبي سليمان

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قراءة الدلالات والمرجعيات التي تستحضرها كلمات السيسي تكشف عن طاغية تمكن مقارنته بتاريخ المسرح وشخصياته التراجيديّة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يتعزز بإيقاع متسارع يشوبه أحياناً اضطراب، تصور أن مصر في ظل نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي دخلت منذ الربيع الماضي طوراً جديداً في أزمتها المركبة، فرأس النظام دخل متاهة خطرة منذ الخريف، ويبدو أنه في تيهه المستجد يستصحب أطيافاً شتى، وأنها؛ هي، وغيرها، تتخايل أمام بعض متابعيه، الذين يحاولون استكشاف أفعاله التالية أو المتوقعة في مواجهة المغلق والمفتوح من سلسلة ممرّاتها. ويبدو  أيضاً أن أطياف: سليمان ومكبث والامبراطور جونز، هي الأجدر بالملاحظة بسبب قوة حضورها وتأثيرها وتسلطها على السيسي وبعض متابعيه.

تحتاج هذه الشبكة من الخيوط: السياسية والدينية والنفسية والدرامية؛ بتنوعها: المأساوي والتعبيري والهزلي إلى توطئة ذات علاقات معقدة؛ فكأنها في تفرقها، مُضْمَرة، لكنها حين تتصل ببعضها سيتبدى وضوحها ولزومها صارخ الدلالة.

“الموفق والمُتسعان”

أدى مدير المخابرات العامة عمر سليمان، في 29 كانون الثاني/ يناير 2011، اليمين الدستورية كنائب لرئيس الجمهورية، وفي ظهوره الإعلامي الأول على العالم، سألته مذيعة شبكة (ABC) الأميركية، كريستيان أمانبور: هل تؤمن بالديمقراطية؟، فأجابها: بالطبع، والجميع يؤمن بها، ولكن متى!؟ وشاعت الإجابة بين المصريين بإنكليزية مشوهة “بط هوين”.

بعد خمس سنوات، بالضبط، أجرت مجلة “جون أفريك” الفرنسية حواراً مع الرئيس عبدالفتاح السيسي، قال فيه: الديمقراطية ستتحقق خلال فترة من 20 إلى 25 عاماً، وهذا يعتبر مدى، إلى حد ما، قصيراً لتحقيق ذلك الهدف بشكل كامل، فالأمر يحتاج إلى تحسين التعليم ومكافحة الفساد والفقر، وتبني معايير حقوق الإنسان في إطار ظروف وطبيعة المجتمع.

أعلن نائب الرئيس عمر سليمان في بيان متلفز قصير، بث مساء الجمعة، 11 شباط/ فبراير 2011، عن تخلي مبارك عن منصبه. يهمنا هنا ما يبدو زيادة أو نافلة، إذ ختم سليمان البيان بعبارة “والله الموفق والمستعان”.

لم يرد ذكر اسم “موفق” في أي موضع في القرآن؛ وإنما ورد المصدر منه وهو “توفيق”، في الآية (88) من سورة هود في لفظ على لسان الله، القائل الذي يقص ما قاله شعيب لقومه. ومحاولة فهم قصد نائب الرئيس عمر سليمان من تلك الإشارة، مساء 11 شباط، يحتاج إلى متابعة، ستأتي بعد النظر إلى “المستعان”.

ورد اسم “المستعان” مرتين في القرآن: في الآية (18) من سورة يوسف، وفي الآية (112) من سورة الأنبياء. وفي المفهوم الإسلامي فإنه من المناسب قول “الله المستعان” عند حصول أمر صعب، أو محير، أو توقع مثل ذلك؛ فقد قال يعقوب، في سورة يوسف – عندما قال له أبناؤه: إن يوسف أكله الذئب “بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ”، والصبر الجميل، بحسب معظم التفاسير: ألا تُحدِّث بوجعك، ولا بمصيبتك، ولا تزكي نفسك.

في تفسير “المستعان” الواردة في سورة الأنبياء “قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَٰنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ”، يذكر الطبري الآتي: “يقول تعالى في ذكره: قل يا محمد: يا رب افصل بيني وبين من كذّبني من مشركي قومي وكفر بك، وعبد غيرك، بإحلال عذابك ونقمتك بهم”.

المحمول “الديني” واستخدامه السياسي من رجل المخابرات لـ”الموفق والمستعان” بالغ التوتر والعنف والوعيد، كما هو ظاهر، تعقيباً على ما حصل لرئيسه ولحظوظه هو بالتالي، وهو موجه لـ”رفاق السلاح” بشكل خاص، وإن كان يشمل غيرهم على الهامش، واستشرافاً لما هو قادم.

نشرت الصحافة المصرية الجمعة، 20 نيسان/ أبريل 2012، بياناً أصدره عمر سليمان عقب استبعاد ترشحه من الانتخابات الرئاسية، ختمه بـ”والله الموفق والمستعان“، والذين لم تمح من ذاكرتهم، وقتها، “بط هوين”، توقفوا عند ما ذكره البيان من أن “بعض النواب هددوه بالقتل تحت قبة مجلس الشعب، وتسرعوا بإصدار قانون لعزله من حقوقه السياسية، وهم يعلمون أنه غير دستوري وغير ديمقراطي بل يخالف ما شرعته الأمم المتحدة لحقوق الإنسان”.

هكذا يبدو أن “والله الموفق والمستعان” التي لعمر سليمان، هي السلف المباشر لـ”فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَ” (ففهمناها سليمان)، التي راح يلوكها السيسي منذ أيار/ مايو 2018، حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، وإن كان توظيفها أبعد مدى كما سيتين.

ماكبث والعرافات الثلاث

يلاحظ، كينيث ميوار، في المقدمة التي يوردها جبرا إبراهيم جبرا ضمن ترجمته مسرحية “مكبث”، أنها “قصيرة بصورة شاذة”، وأنها “أعمق رؤية للشر وأنضجها” عند شكسبير، وأن كلمة الدم أو الدماء ترد أكثر من مئة مرة فيها. 

هناك ثلاث ملاحظات يذكرها، ميوار، يمكن أن نستخدمها، بحذر شديد، في محاولة فهم “فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَ”، التي يلوكها السيسي، ففي “مكبث” ثمة دلالة واضحة على الحذف في بعض الأماكن، إذ ترد أبيات فجائية يرافقها غموض في النص، كما أن ثمة بعض المصاعب في تركيب الجمل. وكثيراً ما نجد شعر مكبث عند القراءة الأولى فجائيا وغير متصل، بحيث اضطر بعض النقاد إلى الاندفاع بحثا عن ثغرات في النص. غير أن العبارات الصعبة لا تبدو أبدا كذلك نتيجة حذوف، بل بالأحرى ضرورية لأحاسيس المسرحية؛ فـ “اضطرابات” شكسبير كانت مقصودة.

يُوصف مكبث من قبل “رائد جريح ينزف”، في بداية المسرحية، بأنه: جريء (وما أحقه بهذا النعت)، وأنه “للشجاعة حبيبها”، ويلقبه الملك دنكن بـ “ابن عمي الشجاع..سيد المروءات”.

سنستل ثلاثة مقاطع من المسرحية، تلك التي تحضر فيها الساحرات الثلاث ليلقين على مسامع مكبث تنبوءهن، وأثرها فيه، وعلى مصيره؛ المحتوم.

في قفراء يلتقي مكبث وبانكوو بالساحرات الثلاث، ويخاطبنه: سلاماً يا مكبث، سلاماً يا أمير غلامس! سلاماً يا مكبث، سلاماً يا أمير كودور! سلاماً يا مكبث، يا ملكاً في ما بعد!

ويرد (مكبث): مكانَكُنّ، يا ناقصات النطق! أخبرنني بالمزيد.

أنا أعلم أنني الآن، بموت ساينل، أمير غلامس.

ولكن كيف أمسيتُ أمير كودور؟ أمير كودور في قيد الحياة

سيد متنعم. وأن اجعل في منظور الصدق

صيرورتي مَلِكاً، بعيدُ كوني أمير كودور.

من أين لكن هذا العلم الغريب؟ ولماذا

توقفن سيرنا في هذه الفلاة الممطرة بالصواعق

بهذه التحيات النبوية؟ تكلمن! آمركن!

تتلاشى الساحرات (في الهواء).

***************

يقتل مكبث ابن عمه، الملك دنكن، وهو في ضيافته، وحمايته بالتالي، ليتوج ملكاً.

يقترح، ميوار، أنه “ليس من مكبث ميل داخلي مسبق إلى القتل، إنما هو يحمل طموحاً جامحاً يجعل جريمة القتل تبدو كأنها شر أهون من الاخفاق في الحصول على التاج”. وأن الساحرات “يغرين مكبث لا لسبب إلا أنهن يعرفون أحلامه الطموحة، وحتى في هذه الحالة فإن تنبؤهن بالتاج لا ينص على وسائل شريرة لنيله- إنه (تنبؤهن) اخلاقيا حيادي”.

ثم يوغل مكبث في الدماء.

ويقترح، ميوار، أن “الجريمة الأولى (قتل الملك دنكن) دافعها الطموح. أما البقية، من قتل المرافقين إلى مجزرة عائلة مكدوف، فدافعها الخوف- الخوف الذي هو وليد الذنب.

***************

بعد أن تبلغ المسرحية ذروتها يلجأ مكبث إلى الساحرات:

مكبث: “استحلفكن بالذي تحترفنه، كيفما كان سبيلكن لمعرفته، أجبنني، ماذا يجب عليّ أن أسأل؟”.

..

تستحضر الساحرات أطياف ثلاثة، يخاطبه الثاني:

“كن دموياً، جسوراً، جازماً: واسخر

من قوة الإنسان، فما من وليد لامرأة

سيؤذي مكبث”.

ويخاطبه الثالث:

“كن هَصوراً، متكبراً، ولا يهمنّك

من يتشكى، من يتذمر، أو أين يلتقي المتآمرون:

مكبث لن يُقهر أبدا حتى

تزحف عليه غابة بيرنام العظيمة

إلى قلعة دنسينان العالية”.

********

وعلى الرغم من أن مكبث يختتم المشهد بقوله:

“موبوء هو الهواء الذي يمتطينه،

وملعون كل من فيهن يثق”!،

إلا أنه يمضى إلى مصيره الذي صنع بنفسه علاماته الرئيسية.

*******

يصف، ميوار، عالم مكبث في الفصل الأخير من المسرحية، بأنه تحول “إلى فراغ من البلاهة اللامجدية”. يأمر مالكولم، ابن الملك دنكن، جنوده الذين يستعدون للهجوم على قلعة دنسينان؛ حيث يتحصن مكبث، بأن “يقطع كل جندي له غصنا، ويحمله أمامه: بهذا سنغطي على عدد جيشنا، ونجعل المستطلعين يخطئون في تقريرهم عنا. الطاغية الواثق”.

يأتي جندي إلى مكبث مخبراً أن الغابة تتحرك باتجاه القلعة. ويصف مكبث حاله بهذه الكلمات:

لقد كدت أنسى طعم المخاوف.

لقد أُطْعِمتُ ألواناً من الرعب حتى شبعت:

والهول الذي تعوّدْتهُ أفكاري القاتلة

لن يستطيع أن يُجفلني بعد، مرة واحدة.

……

وحين يتواجه مكبث، بالسيف، مع مكدوف، يخاطبه متبجحاً:

أنا أحمل حياة مسحورة، لن تستسلم

لرجل ولدته امرأة.

فيرد، مكدوف:

 فلتيأسْ من سحرك،

ودع الملاك الذي رحت تخدمه

يخبرك بأن مكدوف من رحم أمه

انتُزع قبل أوان.

**************

قبل التفرغ لـ”فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَ” إطلالة سريعة على الإمبراطور جونز، تمهد لها النظرة إلى “أنا مش سياسي.. وبقالي 50 سنة بتعلم يعني ايه دولة”، وهو ما يستوجب تذكر قولين: الأول، ورد في بيان عمر سليمان، عقب استبعاد ترشحه، من أنه “سيضع خبرته المتراكمة على مدى 56 عاما لخدمة مصر”، والثاني، ما ذكره، ميوار، عن ما يبدو في “مكبث” من فجائية وغموض وبعض المصاعب في تركيب الجمل؛ فـ “الاضطرابات” كانت مقصودة.

كلمات السيسي في 31 يناير 2018، بدت للكثير من وسائل الإعلام “شكسبيرية الخصائص”، فبعضها، إذ تذكر أن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أكد أنه “لن يسمح بالعبث بأمن مصر وأنه مستعد للتضحية بحياته وحياة الجيش لحماية مصر”، تعقب “موجهاً تحذيرات وتهديدات دون أن يوضح من أو ماذا يقصد بحديثه”، ثم وهي تورد أن السيسي قال: “ميصحش حد يفكر يلعب في أمن مصر وإحنا موجودين، لأن أنا أروح أموت الأول قبل ما حد يلعب في أمنها. قبل ما حد يلعب في أمنك يا مصر لازم أنا أكون مت الأول. اللي عايز يلعب في مصر ويضيعها لازم يخلص مني الأول.. أمنك واستقرارك يا مصر تمنه حياتي وحياة الجيش”، تعقب “أنه لم يذكر بوضوح ماذا يقصد”. أما هذا المقطع المصور فسيكون تعقيباً، “ولم يوضح السيسي من يقصد بحديثه” بادياً على ملامح الحضور بجلاء، فيما كان ذهول شريف إسماعيل، رئيس مجلس الوزراء، وقتها، صارخاً.

الاضطراب المقصود كان في الغالب نابعاً مما تناقلته وسائل الإعلام، قبل أيام، تحت عنوان “سامي عنان يعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية المصرية”.

عاد السيسي، مرة ثانية، في 14 آب/ أغسطس 2021، لموضوع (درست قضايا مصر 50 سنة)، لكنه وبمشاعر باردة زاد “أنا بختار الطريق الصعب والحكومة بتتعذب معايا”.

في المرة الثالثة، وضمن كلمته في المؤتمر الاقتصادي (تشرين الأول/ أكتوبر الماضي) بيّن السيسي المصدر الرئيس لدراسته: مقال محمد حسنين هيكل في جريدة الأهرام، المعنون “بصراحة”، فإذا وضعنا مسار هيكل “الأهرامي”؛ حيث أنه تولى رئاسة تحريرها في آب 1957، وتركها في شباط 1974، إزاء مسار السيسي التعليمي، كما يذكره الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية، سيتضح أن التلميذ عبد الفتاح بدأ دراسة الفصل الدراسي الأول لقضايا مصر وهو تلميذ في مدرسة البكري الابتدائية (1962- 1968)، وختمه وهو تلميذ في المدرسة الثانوية الجوية (1971- 1974)، مع ملاحظة أن الطفل عبد الفتاح بدأ دراسته وهو في الثامنة، فهو مواليد 1954، وسيكون في دائرة التخيل أن السنتين الفارقتين بين العمر “الطبيعي” للدخول إلى الابتدائية (ست سنوات)، وبين الدخول المتأخر، قد صرفهما الطفل المشغول بدراسة بلده في ما هو مفيد للتباهي والمناطحة.

السيسي والإمبراطور

يختار إبراهيم العريس، لمقاله عن مسرحية يوجين أونيل “الإمبراطور جونز” هذا العنوان: “التدخل الأجنبي وهلوسات الحاكم المزيف“، مذكراً بأنها “واحدة من أقصر مسرحيات الكاتب الأميركي، لكنها في الوقت نفسه واحدة من أقواها”.

المسرحية، كما يفيدنا، العريس، هي “حكاية الزنجي بروتوس جونز الذي نعرف منذ اللوحة الأولى أنه قد فرّ من السجن الذي كان معتقلاً فيه، إلى إحدى جزر الهند الشرقية، حيث تمكن من أن يصبح امبراطوراً هناك… وكان يمكن لجونز أن يعيش في راحة وأمان في امبراطوريته هذه، هو الذي ما أن “اعتلى العرش” حتى راح يستغل الثروات القومية بقدر كبير من العقلانية التي حققت له رضى الشعب عنه. بيد أن الأوضاع “الدولية” كانت له في المرصاد وبدأت تحرّك ثورة ضده”. 

كان جونز قبل وصوله إلى الجزيرة التي نصّب نفسه إمبراطوراً عليها، في نيويورك، وقد قام هناك بأعمال مرعبة كثيرة، قتل شخصاً في أثناء لعب الورق، وفي السجن حاول أن يقتل الحارس، وتشاجر مع آخرين، وفر هارباً، وما زال مطارداً. وقد لجأ إلى هذه الجزيرة النائية، واستغل جهل وسذاجة سكانها، واخترع- ليسيطر عليهم- أسطورة، كتلك التي يؤمنون بها، وهي: أنه “محصن” لا يُقتَل إلا برصاصة من فضة، وأنه يملك تلك الرصاصة، وهو وحده القادر على أن يقتل نفسه، عندما يحين الوقت. والمسرحية كانت في تسمية أولى بعنوان “الرصاصة الفضية”، أما اسم الجزيرة فلم يذكره أونيل في المسرحية أبداً، لكنه صرح في أكثر من موضع بعد نشرها وتقديمها على المسرح (1921) أن احتلال الولايات المتحدة لهايتي (1919) كان له تأثير كبير على كتابته للمسرحية، وكان أكثر تفصيلا فذكر أن رجل سيرك عجوز أخبره أن جان فيلبرون غيوم سام، الذي كان رئيساً لهايتي لخمسة أشهر فقط في عام 1915، وقتل في نهايتها، نشر شائعة بين سكان الجزيرة مفادها أنه لن يموت إلا برصاصة فضية.

ويشير النقاد إلى أن أونيل كان متأثرا بعوالم شكسبير في مكبث والملك لير، مثلما كان متأثرا بأجواء سترندبرج التعبيرية.

للمسرحية ترجمتين للعربية، الأولى، لأنيس منصور (مكتبة الانغلو المصرية، القاهرة، 1959)، وفي تقديمها يذكر الآتي: “مسرحية الإمبراطور جونز هذه هي نموذج لأفكار المؤلف، نموذج لشخصية ليست غريبة، وإنما هي شخصية الكثيرين جداً من الناس، في قوتهم وضعفهم. في صراعهم مع أنفسهم ومع غيرهم، ومع ما هو أقوى وأكبر. نحن أمام طاغية، أمام إمبراطور يصارع نفسه، وصارع الخوف، والشعب. إننا أمام طاغية يستغل طيبة الشعب وسذاجتهم”.

الثانية قام بها عبدالله عبدالحافظ، وصدرت ضمن (السلسلة المسرحية التي كان يصدرها المجلس القومي للثقافة والفنون في الكويت، 1982)، ومنها يختار العريس هذه الكلمات من نهايتها: “هذا جزاؤك يا جونز يا بني! انك ميت كالسمكة. أين كبرياؤك وجبروتك؟ وأين عظمتك؟ الرصاص الفضي يا إلهي. يا إلهي. إنه. لكنك ميت على أحسن ما يكون الموت، على أية حال”.

يبقى من “الإمبراطور جونز” هذه المفارقة المفجعة، فعند مئوية صدورها، بالضبط، تناقلت وكالات الأنباء خبراً، هذا عنوانه: اغتيال رئيس هايتي: أرملة الرئيس تتحدث للمرة الأولى بعد مقتل زوجها.

*************

لاك السيسي “فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَ” للمرة الأولى في أيار 2018، بعد أن قال: “والله العظيم أنا بمشي الساعة 5 صباحاً بقوله يارب ابعتلي 10 أو 12 بير زي ظُهر، يعلم الله أني صادق معكم فى كل كلمة بقولها”، وأضافت الصحف: “مستشهداً بآية قرآنية في قوله تعالى “ففهمناها سليمان”، وأن الله أعطى سليمان القدرة على فهم موضوعات لا يفهمها كثيرون”. وقد تصور الإعلامي توفيق عكاشة أن الأمر يستعصي على فهم البعض، فقدم تفسيره بعنوان “السيسي يفسّر القرآن ففهمناها سليمان يعني إيه يعني ففهمناها سليمان!”.

المرة الثانية لاكها في حفل إفطار الأسرة المصرية في رمضان، حيث أعلن عن بدء “الحوار الوطني”، وجاءت هذه المرة تحت عنوان “مش مهم مصر تكون معايا.. المهم مصر تعيش“. ولأنه نسب حكاية لسليمان تفسيرا منه لـ “فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ” فقد وجب البحث الدقيق عن الأمر.

العبارة موجودة في سياق 5 آيات من سورة الأنبياء (78- 82)، لا تتعلق مطلقاً بقصة التنازع حول طفل، وهذا نص الآيات الخمس:

﴿وَدَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ إِذۡ يَحۡكُمَانِ فِي ٱلۡحَرۡثِ إِذۡ نَفَشَتۡ فِيهِ غَنَمُ ٱلۡقَوۡمِ وَكُنَّا لِحُكۡمِهِمۡ شَٰهِدِينَ (78) فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلّاً ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ يُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّيۡرَۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ (79) وَعَلَّمۡنَٰهُ صَنۡعَةَ لَبُوسٖ لَّكُمۡ لِتُحۡصِنَكُم مِّنۢ بَأۡسِكُمۡۖ فَهَلۡ أَنتُمۡ شَٰكِرُونَ (80) وَلِسُلَيۡمَٰنَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةٗ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦٓ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَاۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيۡءٍ عَٰلِمِينَ (81) وَمِنَ ٱلشَّيَٰطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُۥ وَيَعۡمَلُونَ عَمَلٗا دُونَ ذَٰلِكَۖ وَكُنَّا لَهُمۡ حَٰفِظِينَ(82)﴾. وبالعودة إلى تفاسير الطبري وابن كثير نتبين أن الأمر كان على هذا النحو: الحرث الذي نفشت فيه الغنم إنما كان كرما نفشت فيه الغنم، فلم تدع فيه ورقة ولا عنقودا عنب إلا وأكلته، فأتوا بداود، فأعطاهم رقابها، فقال سليمان: لا بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهل الكرم، فيكون لهم لبنها ونفعها، ويعطى أهل الغنم الكرم فيصلحوه ويعمروه حتى يعود كالذي كان ليلة نفشت فيه الغنم، ثم يعطى أهل الغنم غنمهم، وأهل الكرم كرمهم”.

المرة الثالثة كانت في الجلسة الختامية للمؤتمر الاقتصادي (تشرين الأول 2022)، ونشر المقطع المصور بعنوان: “اللي خايف على فلوس مصر”.. السيسي: “ففهمناها سليمان”، أما تبرم واستهزاء السيسي فقد يحيله البعض إلى ركونه على الآيتين الأخريين.

دعاء يوسف

يبدو أن “فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَ” لم تعد كافية للسيسي فأتبعها بدعاء يوسف، ففي احتفالية “قادرون باختلاف” سأل “عاصم” الرئيس السيسي عن دعائه اليومي فقرأ السيسي نص الآية (101) من سورة يوسف، ثم سأل السيسي، عاصم، عن رقم الآية واسم السورة التي ترد فيها، بعدما قال مقدم الفقرة، إبراهيم فائق، إن “عاصم معجزة” فهو قادر على معرفة رقم أي آية واسم السورة التي تقع فيها، لكن عاصم أخطأ في الأمرين، حيث ذكر أن الآية هي (75) من سورة الأنفال، بينما صفق الجميع، وكان بينهم شيخ الأزهر، الذي ربما كان منشغلاً بمحاولة فهم قصد السيسي، ليس فقط في دلالة قوله “رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ”، لكن في ما هو أبعد، فالآيتين التاليتين من سورة يوسف هما: ﴿ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۖ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)﴾.

محمد أبو شحمة- صحفي فلسطيني | 11.10.2024

ضغط عسكري على الشمال ومجازر في جنوبه… عدوان “إسرائيل” في غزة لا يتوقّف

يمارس الجيش الإسرائيلي ضغطاً عسكرياً على سكان المخيم بهدف دفعهم إلى النزوح لجنوب القطاع، تنفيذاً لما يُعرف بخطة "الجنرالات" التي وضعها اللواء الإسرائيلي المتقاعد غيورا إيلاند، والهادفة إلى إجلاء المدنيين بعد حصار محكم.
17.01.2023
زمن القراءة: 11 minutes

قراءة الدلالات والمرجعيات التي تستحضرها كلمات السيسي تكشف عن طاغية تمكن مقارنته بتاريخ المسرح وشخصياته التراجيديّة.

يتعزز بإيقاع متسارع يشوبه أحياناً اضطراب، تصور أن مصر في ظل نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي دخلت منذ الربيع الماضي طوراً جديداً في أزمتها المركبة، فرأس النظام دخل متاهة خطرة منذ الخريف، ويبدو أنه في تيهه المستجد يستصحب أطيافاً شتى، وأنها؛ هي، وغيرها، تتخايل أمام بعض متابعيه، الذين يحاولون استكشاف أفعاله التالية أو المتوقعة في مواجهة المغلق والمفتوح من سلسلة ممرّاتها. ويبدو  أيضاً أن أطياف: سليمان ومكبث والامبراطور جونز، هي الأجدر بالملاحظة بسبب قوة حضورها وتأثيرها وتسلطها على السيسي وبعض متابعيه.

تحتاج هذه الشبكة من الخيوط: السياسية والدينية والنفسية والدرامية؛ بتنوعها: المأساوي والتعبيري والهزلي إلى توطئة ذات علاقات معقدة؛ فكأنها في تفرقها، مُضْمَرة، لكنها حين تتصل ببعضها سيتبدى وضوحها ولزومها صارخ الدلالة.

“الموفق والمُتسعان”

أدى مدير المخابرات العامة عمر سليمان، في 29 كانون الثاني/ يناير 2011، اليمين الدستورية كنائب لرئيس الجمهورية، وفي ظهوره الإعلامي الأول على العالم، سألته مذيعة شبكة (ABC) الأميركية، كريستيان أمانبور: هل تؤمن بالديمقراطية؟، فأجابها: بالطبع، والجميع يؤمن بها، ولكن متى!؟ وشاعت الإجابة بين المصريين بإنكليزية مشوهة “بط هوين”.

بعد خمس سنوات، بالضبط، أجرت مجلة “جون أفريك” الفرنسية حواراً مع الرئيس عبدالفتاح السيسي، قال فيه: الديمقراطية ستتحقق خلال فترة من 20 إلى 25 عاماً، وهذا يعتبر مدى، إلى حد ما، قصيراً لتحقيق ذلك الهدف بشكل كامل، فالأمر يحتاج إلى تحسين التعليم ومكافحة الفساد والفقر، وتبني معايير حقوق الإنسان في إطار ظروف وطبيعة المجتمع.

أعلن نائب الرئيس عمر سليمان في بيان متلفز قصير، بث مساء الجمعة، 11 شباط/ فبراير 2011، عن تخلي مبارك عن منصبه. يهمنا هنا ما يبدو زيادة أو نافلة، إذ ختم سليمان البيان بعبارة “والله الموفق والمستعان”.

لم يرد ذكر اسم “موفق” في أي موضع في القرآن؛ وإنما ورد المصدر منه وهو “توفيق”، في الآية (88) من سورة هود في لفظ على لسان الله، القائل الذي يقص ما قاله شعيب لقومه. ومحاولة فهم قصد نائب الرئيس عمر سليمان من تلك الإشارة، مساء 11 شباط، يحتاج إلى متابعة، ستأتي بعد النظر إلى “المستعان”.

ورد اسم “المستعان” مرتين في القرآن: في الآية (18) من سورة يوسف، وفي الآية (112) من سورة الأنبياء. وفي المفهوم الإسلامي فإنه من المناسب قول “الله المستعان” عند حصول أمر صعب، أو محير، أو توقع مثل ذلك؛ فقد قال يعقوب، في سورة يوسف – عندما قال له أبناؤه: إن يوسف أكله الذئب “بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ”، والصبر الجميل، بحسب معظم التفاسير: ألا تُحدِّث بوجعك، ولا بمصيبتك، ولا تزكي نفسك.

في تفسير “المستعان” الواردة في سورة الأنبياء “قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَٰنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ”، يذكر الطبري الآتي: “يقول تعالى في ذكره: قل يا محمد: يا رب افصل بيني وبين من كذّبني من مشركي قومي وكفر بك، وعبد غيرك، بإحلال عذابك ونقمتك بهم”.

المحمول “الديني” واستخدامه السياسي من رجل المخابرات لـ”الموفق والمستعان” بالغ التوتر والعنف والوعيد، كما هو ظاهر، تعقيباً على ما حصل لرئيسه ولحظوظه هو بالتالي، وهو موجه لـ”رفاق السلاح” بشكل خاص، وإن كان يشمل غيرهم على الهامش، واستشرافاً لما هو قادم.

نشرت الصحافة المصرية الجمعة، 20 نيسان/ أبريل 2012، بياناً أصدره عمر سليمان عقب استبعاد ترشحه من الانتخابات الرئاسية، ختمه بـ”والله الموفق والمستعان“، والذين لم تمح من ذاكرتهم، وقتها، “بط هوين”، توقفوا عند ما ذكره البيان من أن “بعض النواب هددوه بالقتل تحت قبة مجلس الشعب، وتسرعوا بإصدار قانون لعزله من حقوقه السياسية، وهم يعلمون أنه غير دستوري وغير ديمقراطي بل يخالف ما شرعته الأمم المتحدة لحقوق الإنسان”.

هكذا يبدو أن “والله الموفق والمستعان” التي لعمر سليمان، هي السلف المباشر لـ”فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَ” (ففهمناها سليمان)، التي راح يلوكها السيسي منذ أيار/ مايو 2018، حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، وإن كان توظيفها أبعد مدى كما سيتين.

ماكبث والعرافات الثلاث

يلاحظ، كينيث ميوار، في المقدمة التي يوردها جبرا إبراهيم جبرا ضمن ترجمته مسرحية “مكبث”، أنها “قصيرة بصورة شاذة”، وأنها “أعمق رؤية للشر وأنضجها” عند شكسبير، وأن كلمة الدم أو الدماء ترد أكثر من مئة مرة فيها. 

هناك ثلاث ملاحظات يذكرها، ميوار، يمكن أن نستخدمها، بحذر شديد، في محاولة فهم “فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَ”، التي يلوكها السيسي، ففي “مكبث” ثمة دلالة واضحة على الحذف في بعض الأماكن، إذ ترد أبيات فجائية يرافقها غموض في النص، كما أن ثمة بعض المصاعب في تركيب الجمل. وكثيراً ما نجد شعر مكبث عند القراءة الأولى فجائيا وغير متصل، بحيث اضطر بعض النقاد إلى الاندفاع بحثا عن ثغرات في النص. غير أن العبارات الصعبة لا تبدو أبدا كذلك نتيجة حذوف، بل بالأحرى ضرورية لأحاسيس المسرحية؛ فـ “اضطرابات” شكسبير كانت مقصودة.

يُوصف مكبث من قبل “رائد جريح ينزف”، في بداية المسرحية، بأنه: جريء (وما أحقه بهذا النعت)، وأنه “للشجاعة حبيبها”، ويلقبه الملك دنكن بـ “ابن عمي الشجاع..سيد المروءات”.

سنستل ثلاثة مقاطع من المسرحية، تلك التي تحضر فيها الساحرات الثلاث ليلقين على مسامع مكبث تنبوءهن، وأثرها فيه، وعلى مصيره؛ المحتوم.

في قفراء يلتقي مكبث وبانكوو بالساحرات الثلاث، ويخاطبنه: سلاماً يا مكبث، سلاماً يا أمير غلامس! سلاماً يا مكبث، سلاماً يا أمير كودور! سلاماً يا مكبث، يا ملكاً في ما بعد!

ويرد (مكبث): مكانَكُنّ، يا ناقصات النطق! أخبرنني بالمزيد.

أنا أعلم أنني الآن، بموت ساينل، أمير غلامس.

ولكن كيف أمسيتُ أمير كودور؟ أمير كودور في قيد الحياة

سيد متنعم. وأن اجعل في منظور الصدق

صيرورتي مَلِكاً، بعيدُ كوني أمير كودور.

من أين لكن هذا العلم الغريب؟ ولماذا

توقفن سيرنا في هذه الفلاة الممطرة بالصواعق

بهذه التحيات النبوية؟ تكلمن! آمركن!

تتلاشى الساحرات (في الهواء).

***************

يقتل مكبث ابن عمه، الملك دنكن، وهو في ضيافته، وحمايته بالتالي، ليتوج ملكاً.

يقترح، ميوار، أنه “ليس من مكبث ميل داخلي مسبق إلى القتل، إنما هو يحمل طموحاً جامحاً يجعل جريمة القتل تبدو كأنها شر أهون من الاخفاق في الحصول على التاج”. وأن الساحرات “يغرين مكبث لا لسبب إلا أنهن يعرفون أحلامه الطموحة، وحتى في هذه الحالة فإن تنبؤهن بالتاج لا ينص على وسائل شريرة لنيله- إنه (تنبؤهن) اخلاقيا حيادي”.

ثم يوغل مكبث في الدماء.

ويقترح، ميوار، أن “الجريمة الأولى (قتل الملك دنكن) دافعها الطموح. أما البقية، من قتل المرافقين إلى مجزرة عائلة مكدوف، فدافعها الخوف- الخوف الذي هو وليد الذنب.

***************

بعد أن تبلغ المسرحية ذروتها يلجأ مكبث إلى الساحرات:

مكبث: “استحلفكن بالذي تحترفنه، كيفما كان سبيلكن لمعرفته، أجبنني، ماذا يجب عليّ أن أسأل؟”.

..

تستحضر الساحرات أطياف ثلاثة، يخاطبه الثاني:

“كن دموياً، جسوراً، جازماً: واسخر

من قوة الإنسان، فما من وليد لامرأة

سيؤذي مكبث”.

ويخاطبه الثالث:

“كن هَصوراً، متكبراً، ولا يهمنّك

من يتشكى، من يتذمر، أو أين يلتقي المتآمرون:

مكبث لن يُقهر أبدا حتى

تزحف عليه غابة بيرنام العظيمة

إلى قلعة دنسينان العالية”.

********

وعلى الرغم من أن مكبث يختتم المشهد بقوله:

“موبوء هو الهواء الذي يمتطينه،

وملعون كل من فيهن يثق”!،

إلا أنه يمضى إلى مصيره الذي صنع بنفسه علاماته الرئيسية.

*******

يصف، ميوار، عالم مكبث في الفصل الأخير من المسرحية، بأنه تحول “إلى فراغ من البلاهة اللامجدية”. يأمر مالكولم، ابن الملك دنكن، جنوده الذين يستعدون للهجوم على قلعة دنسينان؛ حيث يتحصن مكبث، بأن “يقطع كل جندي له غصنا، ويحمله أمامه: بهذا سنغطي على عدد جيشنا، ونجعل المستطلعين يخطئون في تقريرهم عنا. الطاغية الواثق”.

يأتي جندي إلى مكبث مخبراً أن الغابة تتحرك باتجاه القلعة. ويصف مكبث حاله بهذه الكلمات:

لقد كدت أنسى طعم المخاوف.

لقد أُطْعِمتُ ألواناً من الرعب حتى شبعت:

والهول الذي تعوّدْتهُ أفكاري القاتلة

لن يستطيع أن يُجفلني بعد، مرة واحدة.

……

وحين يتواجه مكبث، بالسيف، مع مكدوف، يخاطبه متبجحاً:

أنا أحمل حياة مسحورة، لن تستسلم

لرجل ولدته امرأة.

فيرد، مكدوف:

 فلتيأسْ من سحرك،

ودع الملاك الذي رحت تخدمه

يخبرك بأن مكدوف من رحم أمه

انتُزع قبل أوان.

**************

قبل التفرغ لـ”فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَ” إطلالة سريعة على الإمبراطور جونز، تمهد لها النظرة إلى “أنا مش سياسي.. وبقالي 50 سنة بتعلم يعني ايه دولة”، وهو ما يستوجب تذكر قولين: الأول، ورد في بيان عمر سليمان، عقب استبعاد ترشحه، من أنه “سيضع خبرته المتراكمة على مدى 56 عاما لخدمة مصر”، والثاني، ما ذكره، ميوار، عن ما يبدو في “مكبث” من فجائية وغموض وبعض المصاعب في تركيب الجمل؛ فـ “الاضطرابات” كانت مقصودة.

كلمات السيسي في 31 يناير 2018، بدت للكثير من وسائل الإعلام “شكسبيرية الخصائص”، فبعضها، إذ تذكر أن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أكد أنه “لن يسمح بالعبث بأمن مصر وأنه مستعد للتضحية بحياته وحياة الجيش لحماية مصر”، تعقب “موجهاً تحذيرات وتهديدات دون أن يوضح من أو ماذا يقصد بحديثه”، ثم وهي تورد أن السيسي قال: “ميصحش حد يفكر يلعب في أمن مصر وإحنا موجودين، لأن أنا أروح أموت الأول قبل ما حد يلعب في أمنها. قبل ما حد يلعب في أمنك يا مصر لازم أنا أكون مت الأول. اللي عايز يلعب في مصر ويضيعها لازم يخلص مني الأول.. أمنك واستقرارك يا مصر تمنه حياتي وحياة الجيش”، تعقب “أنه لم يذكر بوضوح ماذا يقصد”. أما هذا المقطع المصور فسيكون تعقيباً، “ولم يوضح السيسي من يقصد بحديثه” بادياً على ملامح الحضور بجلاء، فيما كان ذهول شريف إسماعيل، رئيس مجلس الوزراء، وقتها، صارخاً.

الاضطراب المقصود كان في الغالب نابعاً مما تناقلته وسائل الإعلام، قبل أيام، تحت عنوان “سامي عنان يعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية المصرية”.

عاد السيسي، مرة ثانية، في 14 آب/ أغسطس 2021، لموضوع (درست قضايا مصر 50 سنة)، لكنه وبمشاعر باردة زاد “أنا بختار الطريق الصعب والحكومة بتتعذب معايا”.

في المرة الثالثة، وضمن كلمته في المؤتمر الاقتصادي (تشرين الأول/ أكتوبر الماضي) بيّن السيسي المصدر الرئيس لدراسته: مقال محمد حسنين هيكل في جريدة الأهرام، المعنون “بصراحة”، فإذا وضعنا مسار هيكل “الأهرامي”؛ حيث أنه تولى رئاسة تحريرها في آب 1957، وتركها في شباط 1974، إزاء مسار السيسي التعليمي، كما يذكره الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية، سيتضح أن التلميذ عبد الفتاح بدأ دراسة الفصل الدراسي الأول لقضايا مصر وهو تلميذ في مدرسة البكري الابتدائية (1962- 1968)، وختمه وهو تلميذ في المدرسة الثانوية الجوية (1971- 1974)، مع ملاحظة أن الطفل عبد الفتاح بدأ دراسته وهو في الثامنة، فهو مواليد 1954، وسيكون في دائرة التخيل أن السنتين الفارقتين بين العمر “الطبيعي” للدخول إلى الابتدائية (ست سنوات)، وبين الدخول المتأخر، قد صرفهما الطفل المشغول بدراسة بلده في ما هو مفيد للتباهي والمناطحة.

السيسي والإمبراطور

يختار إبراهيم العريس، لمقاله عن مسرحية يوجين أونيل “الإمبراطور جونز” هذا العنوان: “التدخل الأجنبي وهلوسات الحاكم المزيف“، مذكراً بأنها “واحدة من أقصر مسرحيات الكاتب الأميركي، لكنها في الوقت نفسه واحدة من أقواها”.

المسرحية، كما يفيدنا، العريس، هي “حكاية الزنجي بروتوس جونز الذي نعرف منذ اللوحة الأولى أنه قد فرّ من السجن الذي كان معتقلاً فيه، إلى إحدى جزر الهند الشرقية، حيث تمكن من أن يصبح امبراطوراً هناك… وكان يمكن لجونز أن يعيش في راحة وأمان في امبراطوريته هذه، هو الذي ما أن “اعتلى العرش” حتى راح يستغل الثروات القومية بقدر كبير من العقلانية التي حققت له رضى الشعب عنه. بيد أن الأوضاع “الدولية” كانت له في المرصاد وبدأت تحرّك ثورة ضده”. 

كان جونز قبل وصوله إلى الجزيرة التي نصّب نفسه إمبراطوراً عليها، في نيويورك، وقد قام هناك بأعمال مرعبة كثيرة، قتل شخصاً في أثناء لعب الورق، وفي السجن حاول أن يقتل الحارس، وتشاجر مع آخرين، وفر هارباً، وما زال مطارداً. وقد لجأ إلى هذه الجزيرة النائية، واستغل جهل وسذاجة سكانها، واخترع- ليسيطر عليهم- أسطورة، كتلك التي يؤمنون بها، وهي: أنه “محصن” لا يُقتَل إلا برصاصة من فضة، وأنه يملك تلك الرصاصة، وهو وحده القادر على أن يقتل نفسه، عندما يحين الوقت. والمسرحية كانت في تسمية أولى بعنوان “الرصاصة الفضية”، أما اسم الجزيرة فلم يذكره أونيل في المسرحية أبداً، لكنه صرح في أكثر من موضع بعد نشرها وتقديمها على المسرح (1921) أن احتلال الولايات المتحدة لهايتي (1919) كان له تأثير كبير على كتابته للمسرحية، وكان أكثر تفصيلا فذكر أن رجل سيرك عجوز أخبره أن جان فيلبرون غيوم سام، الذي كان رئيساً لهايتي لخمسة أشهر فقط في عام 1915، وقتل في نهايتها، نشر شائعة بين سكان الجزيرة مفادها أنه لن يموت إلا برصاصة فضية.

ويشير النقاد إلى أن أونيل كان متأثرا بعوالم شكسبير في مكبث والملك لير، مثلما كان متأثرا بأجواء سترندبرج التعبيرية.

للمسرحية ترجمتين للعربية، الأولى، لأنيس منصور (مكتبة الانغلو المصرية، القاهرة، 1959)، وفي تقديمها يذكر الآتي: “مسرحية الإمبراطور جونز هذه هي نموذج لأفكار المؤلف، نموذج لشخصية ليست غريبة، وإنما هي شخصية الكثيرين جداً من الناس، في قوتهم وضعفهم. في صراعهم مع أنفسهم ومع غيرهم، ومع ما هو أقوى وأكبر. نحن أمام طاغية، أمام إمبراطور يصارع نفسه، وصارع الخوف، والشعب. إننا أمام طاغية يستغل طيبة الشعب وسذاجتهم”.

الثانية قام بها عبدالله عبدالحافظ، وصدرت ضمن (السلسلة المسرحية التي كان يصدرها المجلس القومي للثقافة والفنون في الكويت، 1982)، ومنها يختار العريس هذه الكلمات من نهايتها: “هذا جزاؤك يا جونز يا بني! انك ميت كالسمكة. أين كبرياؤك وجبروتك؟ وأين عظمتك؟ الرصاص الفضي يا إلهي. يا إلهي. إنه. لكنك ميت على أحسن ما يكون الموت، على أية حال”.

يبقى من “الإمبراطور جونز” هذه المفارقة المفجعة، فعند مئوية صدورها، بالضبط، تناقلت وكالات الأنباء خبراً، هذا عنوانه: اغتيال رئيس هايتي: أرملة الرئيس تتحدث للمرة الأولى بعد مقتل زوجها.

*************

لاك السيسي “فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَ” للمرة الأولى في أيار 2018، بعد أن قال: “والله العظيم أنا بمشي الساعة 5 صباحاً بقوله يارب ابعتلي 10 أو 12 بير زي ظُهر، يعلم الله أني صادق معكم فى كل كلمة بقولها”، وأضافت الصحف: “مستشهداً بآية قرآنية في قوله تعالى “ففهمناها سليمان”، وأن الله أعطى سليمان القدرة على فهم موضوعات لا يفهمها كثيرون”. وقد تصور الإعلامي توفيق عكاشة أن الأمر يستعصي على فهم البعض، فقدم تفسيره بعنوان “السيسي يفسّر القرآن ففهمناها سليمان يعني إيه يعني ففهمناها سليمان!”.

المرة الثانية لاكها في حفل إفطار الأسرة المصرية في رمضان، حيث أعلن عن بدء “الحوار الوطني”، وجاءت هذه المرة تحت عنوان “مش مهم مصر تكون معايا.. المهم مصر تعيش“. ولأنه نسب حكاية لسليمان تفسيرا منه لـ “فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ” فقد وجب البحث الدقيق عن الأمر.

العبارة موجودة في سياق 5 آيات من سورة الأنبياء (78- 82)، لا تتعلق مطلقاً بقصة التنازع حول طفل، وهذا نص الآيات الخمس:

﴿وَدَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ إِذۡ يَحۡكُمَانِ فِي ٱلۡحَرۡثِ إِذۡ نَفَشَتۡ فِيهِ غَنَمُ ٱلۡقَوۡمِ وَكُنَّا لِحُكۡمِهِمۡ شَٰهِدِينَ (78) فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلّاً ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ يُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّيۡرَۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ (79) وَعَلَّمۡنَٰهُ صَنۡعَةَ لَبُوسٖ لَّكُمۡ لِتُحۡصِنَكُم مِّنۢ بَأۡسِكُمۡۖ فَهَلۡ أَنتُمۡ شَٰكِرُونَ (80) وَلِسُلَيۡمَٰنَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةٗ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦٓ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَاۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيۡءٍ عَٰلِمِينَ (81) وَمِنَ ٱلشَّيَٰطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُۥ وَيَعۡمَلُونَ عَمَلٗا دُونَ ذَٰلِكَۖ وَكُنَّا لَهُمۡ حَٰفِظِينَ(82)﴾. وبالعودة إلى تفاسير الطبري وابن كثير نتبين أن الأمر كان على هذا النحو: الحرث الذي نفشت فيه الغنم إنما كان كرما نفشت فيه الغنم، فلم تدع فيه ورقة ولا عنقودا عنب إلا وأكلته، فأتوا بداود، فأعطاهم رقابها، فقال سليمان: لا بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهل الكرم، فيكون لهم لبنها ونفعها، ويعطى أهل الغنم الكرم فيصلحوه ويعمروه حتى يعود كالذي كان ليلة نفشت فيه الغنم، ثم يعطى أهل الغنم غنمهم، وأهل الكرم كرمهم”.

المرة الثالثة كانت في الجلسة الختامية للمؤتمر الاقتصادي (تشرين الأول 2022)، ونشر المقطع المصور بعنوان: “اللي خايف على فلوس مصر”.. السيسي: “ففهمناها سليمان”، أما تبرم واستهزاء السيسي فقد يحيله البعض إلى ركونه على الآيتين الأخريين.

دعاء يوسف

يبدو أن “فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَ” لم تعد كافية للسيسي فأتبعها بدعاء يوسف، ففي احتفالية “قادرون باختلاف” سأل “عاصم” الرئيس السيسي عن دعائه اليومي فقرأ السيسي نص الآية (101) من سورة يوسف، ثم سأل السيسي، عاصم، عن رقم الآية واسم السورة التي ترد فيها، بعدما قال مقدم الفقرة، إبراهيم فائق، إن “عاصم معجزة” فهو قادر على معرفة رقم أي آية واسم السورة التي تقع فيها، لكن عاصم أخطأ في الأمرين، حيث ذكر أن الآية هي (75) من سورة الأنفال، بينما صفق الجميع، وكان بينهم شيخ الأزهر، الذي ربما كان منشغلاً بمحاولة فهم قصد السيسي، ليس فقط في دلالة قوله “رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ”، لكن في ما هو أبعد، فالآيتين التاليتين من سورة يوسف هما: ﴿ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۖ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)﴾.