ما تبقّى من ذكريات الطفولة
“إذا ما جيت تاخدهن هلق رح إتركهن عالرصيف ينطروك لحالهن” قالت ماما، ظننتها تقول ذلك حقاً، سألتها: “عنجد رح تتركينا لحالنا عالرصيف إذا ما إجا بابا ياخدنا؟”، كنت خائفة…”طبعاً لا، إذا ما إجا رح كون بالمدخل ناطرته وإنتو قدامي، ما رح إترككن بس قلت هالشي حتى خوفه” أجابتني.
حقاً ماما؟ أهذه الذكرى حقيقية؟
مرّت سنوات طويلة على هذه الواقعة، وحين سألتُ ماما عنها قالت إنها لا تتذكر شيئاً من هذا، وإنها من المستحيل أن تقول ذلك، لكن هناك، في مخّي العفن، تقبع هذه الذكرى الكريهة.
عشتُ في منزلٍ لا ماما فيه مذ كنت في الرابعة والنصف من عمري، أظن أن العوارض الجانبية لهذه التروما آلمتني إلى حدّ لا يوصف، فأنا أعيش تداعياتها حتى الآن، وأنا في نهاية العشرينيات من عمري. وكلمة “العوارض الجانبية” ما هي إلا لتخفيف وطأة الحنين إلى الصورة التي رسمتها في صغري عن وجود “ماما”.
حينها، أمرت المحكمة الشرعية بعد فترة جلسات استماع طويلة أن نكون مع بابا، وأن نرى ماما مرة واحدة في الأسبوع، هو يوم الأحد، ومن الساعة الواحدة ظهراً حتى الخامسة مساءّ، أي أربع ساعات فقط. وعلى مدى سنوات، كنا نرى أنا وشقيقاي ماما مرة واحدة كل أسبوع، ونمضي معها ساعات محدّدة.
قبل قرار المحكمة، كنا على السرير مع بابا وهو يسألنا، “بدكن تشوفوا إمكم؟”، المضحك أن لا ذكريات لوجود بابا قبل العاشرة من عمري، أي قبل أن أهرب من المنزل إلى بيت جدتي وجدي، حينها ركضتُ لساعات قبل أن يعرف أين أنا. لا أدري لماذا اختزلت ذاكرتي علاقتي مع أبي بتلك الفترة بهذه الحادثة وأنا على السرير مع شقيقيّ، قلنا له حينها “إي بدنا نشوف ماما”، ليجيب “طيب رح آخدكن يوم الأحد تشوفوها”.
أكانت متعتهم التباهي بمن يملك اليد العليا في أسرتنا آنذاك؟ لا أدري ولا يهم حتى، فما حدث لا يمكن تغييره.
عندما أصبحت في الحادية عشر من عمري سألت تيتا: “صحيح بابا هو اللي كان بدو ايانا نروح عند ماما بس هي ما كان بدها ايانا؟”، أجابتني تيتا بأن قرار المحكمة هو ما فرض علينا ساعات “الرؤية” بحسب التعبير القانوني، وقالت إن عائلة بابا حاولت جاهدة ألا تحصل ماما على مستحقاتها المالية من مؤخر ونفقة، بل حاولوا عرقلة حصولها على تعويض عملها في مدرسة جدتي لأكثر من عشر سنوات.
كانت أمي مريضة وتعذر عليها الاعتناء بنا والإنفاق علينا، وكان أبي يضبط النفقة بما يتيح له إبقاءنا معه.
لم يبق في رأسي سوى شتات من الذكريات التي لا أستطيع تحديد ما إذا كانت صحيحة أم لا… يعجز عقلي عن ربط الحقيقي بالمتخيل، الذي حصل والذي لم يحصل. هل ليلة عرس بابا من زوجته الثانية في سوريا كانت حقيقية؟ هل كان صوت جدتي وأمي أسفل منزل جدتي لأبي حقيقياً؟ هل كنا أنا وشقيقاي وحدنا مع العاملة المنزلية يومها؟.
انفصال عن الواقع
بعض التواريخ لا يمكنني أن أنساها، كانت المرة الأولى التي أحاول الكتابة فيها عمّا أتلمّسه من غرابة في المحيط، أو ربما غرابة النظرة التي أرى بها المحيط. لا داعي لأن يكون هناك أي من التسميات. انفصال عن المحيط تجلّى لأشهر عدّة “نجاح، هذه اللاتيه التي طلبتها”، يقول النادل في مقهى “انتر”، أبتلع ما تبقّى من سيجارتي لآخذ اللاتيه…”انتر” هو مقهى، بار، مطعم، لا أدري تحديداً، أظنه باراً يمكنك تناول الطعام فيه وشرب القهوة كذلك، مشاهد متراصّة لفترة صعبة، ليست أصعب من الحال اليوم، لكني كنت أشرب ما يسعفني كل يوم حتى أغفو، أهرول في بعض الأيام إليه لأستعين بضجيج البشر حتى أستطيع الخروج من ذاتي.
الذات… في خضمّ كل هذه العواصف الاقتصادية والسياسية والعالمية، من أنا في كلّ هذا؟ بعض من الذكريات آنذاك لترتيب رأسي والخروج من الحالة الروبوتية التي كنت فيها، هل هي “اوتو بايلوت”؟ لا أدري. كانت حقيقية مخيفة لكن لم أكترث آنذاك، إذ كنت فيها بلا حول ولا قوة.
رحلة “الهايك” الجبلية والمنظر الخلاب
للوهلة الأولى، كانت المناظر خلابة بالفعل، كان الذهاب إلى حامات مع مجموعة من “الهايكرز” أو مع محبّي رحلات المشي الجبلية، خياري، وجدت الإعلان على “إنستاغرام”، قلت لم لا؟ أرسلت الإعلان لصديقتي، فوافقت.
ذهب ثلاثتنا، أنا وهي وصديقنا، كان “الهايك” متوسّط الصعوبة، حاولت ألا أغضب من العجوز التي كانت معنا، ربما لم تكن كذلك، لكنها لم تكن تعلم بمستوى صعوبة هذه الرحلة، لم يضف المُعلن جورج هذه المعلومة، المهم كانت موجودة وهي تبطئ من هم خلفها طيلة الوقت، إلا أن صديقَي كانا لطيفين كثيراً، لم أستطع سوى المراقبة ومساعدتهما وقت الحاجة.
الكثير من الأشجار والهدوء، وكان هنالك الكثير من الأشخاص لا شك، لكن الهدوء النسبي ذاك في وسط الطبيعة كان شعوراً مختلفاً، سماء صافية، حجر طبيعي من دون باطون، تراب أحمر وليس أبيض، صوت الزيزان والعصافير وحفيف الشجر وصمت المجموعة التي قاربت ال30 شخصاً، كان ذلك رائعاً، أفكاري في ذلك الوقت كانت فقط حول هذه التجربة.
مشينا كثيراً، بعد قرابة الساعة، وصلنا إلى حافة وادي، ورأيت منظراً خلاباً لم أستطع أن أنساه إلى اليوم، هضبة عالية مثيرة وتحتها البحر، والإثارة هنا هي لشتى أفكار القفز التي كنت أحلم بها، حفّزت فكرة واحدة لا شريك لها، القفر مع أثقال لا أعود فيها إلى السطح أبداً.
ثوان قليلة، خرجت فيها من الخارج وعدت بها إلى داخل رأسي. تذكرت نثراً عن حلم رأيته وكتبته عنه سابقاً:
…
“أتذكّر في ليلةٍ من الليالي،
لم أتذكّر الآن؟
ربما من أيام أو من شهور
رأيتني أحاول الهروب
أخذت قدماي، كل على حدة، تجري إلى أسفل الوادي
وما إن حاولت التوقف عند حافة كتلٍ من الحصى
حتى بدأت أطوف
كالبالون
الوادي والبحر تحتي
لا أجيد السباحة
الوادي والبحر تحتي
كلّ جهدٍ، للسيطرة والهبوط
لم يجدِ نفعاً
استيقظتُ وعيناي على النافذة
أأرمي بنفسي؟”
تساءل صديقاي إذا ما كنت بخير طوال المسافة المتبقية من الطريق، قليل من المزاح مع صديقتي عن فكرة القفز من مكان كهذا، سخرية، لم أكن أسخر، إنها حقيقة، لكن القفز ما كان ليبقى فكرة هكذا فقط، أرادت الفكرة الخروج، فأخرجتها.
عدنا إلى المشي في النفق على طريق سكة الحديد المخصصة للقطار، الذي كان يجب أن يصل سوريا بلبنان بفلسطين، لكنه لم يستعمل وتوقف العمل فيه، فأضحى مقصداً سياحياً… يا للسخرية، من بيروت إلى طرابلس، 82 كم بحاجة إلى ساعة ونصف في السيارة.
لمعت فكرة دغدغت مشاعري “ماذا لو كان هذا القطار يعمل، ونحن في الطريق إلى آخره فيأتي ويدهسنا جميعاً؟”، عاودت التفكير فيها، رأيتها ملأى بالصراخ والعويل والخوف، ليس جميعنا يتمنى الاختفاء، تخليّت عنها، ثم دغدغتني بقوة فكرة القفز عن الحافة، أحست صديقتي أنني لست بخير، فبقيت معي إلى حين أنهينا هذه الرحلة الجبلية التي رأيتها مخيفة ورائعة.
الصراع مع الذات والعزلة
الشباك اللعين لا يفتح، والتدخين في غرفة المستشفى ممنوع.
لا يسمح بالتدخين في الغرفة، حاولتُ بشدة أن أتماسك لكني لست بخير، ولا أريد البكاء. لا يمكن الفصل بين السيجارة والبكاء، ولا يمكن فصلهما عن الكحول، النبيذ تحديداً، لكن الكحول محرّم الحديث عنه هنا، ناهيك بالشجار الانفعالي غير المقصود مع الممرضين/ات والمرضى الآخرين إذا ما تحدثوا معي. صقيع داخل الغرفة، الإضاءة خافتة أكاد لا أشعر بي، وها أنا أشعر بكلّي.
ها أنا في الصالون اللعين أيضاً، وغير المريح، يتقاطر من حولي مرضى وممرضات وممرضين فأعجز عن الاختلاء بنفسي مع القليل من السجائر العفنة… تحدثت مع نفسي لوهلة: “لا عليك، أنا هنا فقط، وحدنا فقط، هل تريدين التحدث عن الخطة أ وب وج؟ أم تريدين أن… لحظة”، العربة المربعة لتوزيع الأدوية ترنّ أمامي، صوتها كالكهرباء يصفع كيفما يشاء في دماغي، تصل مع الممرضَين.
“نجاح، بدك تاخدي الدوا أو مننطرك لتخلصي السيجارة؟” يسألان، “ح خلصها قبل”، أجيب. الساعة لا تزال الثامنة والنصف، وموعد الدواء في العاشرة.
يبدو أن انفعالي اتجاه الممرض لم يكن لطيفاً، كلّ ما قلته له ألا يضيء الغرفة، ثم سألني أأريده في الصالون أم يذهب؟ أجبته أن يفعل ما يريد…
في يوم ١٧ تموز/يوليو، الساعة التاسعة ليلاً، يوم الأربعاء تحديداً، وسط الأسبوع، وكأنه منتصف الطريق، حافة ما بين الأمس والغد، كنتُ أتأرجح ما بين أن ألفظني أو تلفظني الحياة، خيط رفيع كان يفصلني عن القفز من على حافة الصخرة في منطقة حامات. منظر جميل تخيلته خلال رحلة المشي الجبلية الشهر الماضي، “يمكنني أن أقف هنا، البحر تحتي، أحتاج إلى أثقال كثيرة، أقل جلبة ممكنة، الغرق هو الحل الأقل جلبة، ولكي لا تعوم هذه الجثة فيجدها أحدهم، مكان بعيد قلّما يأتي أحد إليه، والأكيد لن يقفز أحد للسباحة من مكان مرتفع كهذا”.
بدت الفكرة مقنعة، بقيت في رأسي منذ ذلك الوقت، في الخامس عشر من يوليو/ تموز، أي ثلاثة أيام قبل موعدي مع طبيبتي النفسية، كان شعور الضياع هو كل ما يشغل رأسي “هل أذهب؟ هل أبقى؟ هل أقول كل ما أفكر فيه حقاً أم أبقيه لنفسي؟”. لم تقبل معالجتي النفسية “ثيرابيست” أن أقوم بجلسات علاج أخرى من دون العودة إلى تناول الأدوية، في الجلسة الأولى معها كنت قد أمضيت 3 أشهر من دون تناول أي نوع من المهدّئات أو مضادات الاكتئاب، فكانت النتيجة: لا طبيبة نفسية = لا جلسات علاج.
“الأفكار الانتحارية هذه لا يمكننا الخوض فيها من دون أخذ العلاج المناسب في الوقت نفسه، اتخذي القرار، ثمّ يمكنك حجز موعد آخر معي”، هكذا أنهت معالجتي النفسية الجلسة الأولى، وأنا في نفسي أقول: “اللعنة على الثانية التي ارتجلت خوض التجربة من جديد، لكني كالجرو أخذت موعداً آخر لتناول الأدوية”.
ربما من الأفضل أن أغرق نفسي في هذا الطريق المرهق مجدداً! أدوية تشتت أفكاري وتخدّر جسدي؟ ربما هذا أفضل من أن أقفز! لم لا أحاول؟
أخذت الموعد المحدد في السادس عشر من يوليو/ تموز الساعة الحادية عشرة صباحاً، لم أكن أعلم ما القرار الأكثر صواباً، فالملل وكره النفس وعدم إيجاد أي متعة خارجية وكأن الحياة أمامي هي مفترق طريقين لا ثالث لهما، إما المحاولة من جديد، وإما القفز. هكذا فقط، هذا ما وجدته منطقياً.
في الساعة الخامسة مساءّ يوم الجمعة، أخبرتني طبيبتي النفسية أنه من الأفضل أن أبقى في المستشفى حتى صباح يوم الاثنين، أرادت أن تتأكد من أن الأفكار السوداء في رأسي قد أصبحت أقل حدة، أخبرتها أن العيادة النفسية التي أذهب إليها، تغطي كلفة خمسة أيام فقط، حقيقة لم أهتم، أردت الخروج فقط، الأفكار لا تزال تطرق في رأسي بين حين وآخر، أردت المغادرة في حينها، لكنها فضّلت أن أبقى في المستشفى، قالت إنها ستتكفل بالأيام الأخرى مع “إمبريس”، العيادة التي تتكفل بعلاجي، لم أمانع في الدفع، كل ما أردته هو الخروج، لكنها أقنعتني أن أنهي ما تبقى من الأسبوع هنا، حتى تتأكد من حالتي.
يوم آخر في المستشفى
التعرق والملل الذي أشعر به لم يعد بالحدة نفسها كما كان يوم أمس، كما وصل ثلاثة مرضى جدد، ما زلت أشعر بأنني جرو يختنق بلا حول منه ولا قوة، رائحته نتنة، أحدهم كان امرأة لافتة للنظر، كانت تقف عند مكتب الاستقبال في الطابق، أما الآخران، فالأول كان في المستشفى بسبب توقفه عن الهيروين وحاجته إلى مكان ليتحسن فيه من عوارض الانسحاب المرافقة، رجل يبلغ من العمر 40 عاماً، وهو أب لطفلين “الآن أريد التوقف نهائياً من أجلهما”، قال لي، بدا لطيفاً بعد التحدث معه لبضع دقائق، المريض الثاني، يبلغ من العمر 22 عاماً، جاء نتيجة اتفاق أبرمه أهله مع القاضي، حدث ذلك بعد أن قبض عليه بعدما تم ضبطه مع “الكريستال ميث” المخدر في جسده قبل ثمانية أيام، حاصله أن يكمل الأسبوعين اللذين تبقيا في هذا الطابق بدل السجن، رأيت فيه غروراً ونرجسية بعد حديثنا لساعات عديدة.
لكن المرأة التي جاءت، لم أعتقد في البداية أن تكون من ثلّة المرضى، طويلة ونحيلة وجميلة وأنيقة، اتضح أنها هنا للعلاج أيضاً، لديها قطتان في المنزل، تبلغ من العمر 36 عاماً، قالت لي إن وجودها هنا كان بسبب تعاطي الحشيش والاكتئاب، وأنها ستحضر جلسة استماع في المحكمة في ديسمبر/ أيلول بعدما ضبطت معها في عام 2019. أرادت أن تتعافى قبل ذلك الوقت.
“لا أدري لم فتحوا هكذا ملف من ال 2019 الآن، حتى أنني لا أستطيع استيعاب كم من المسؤولين السياسيين اللعينين المنخرطين في سرقات لا تعد ولا تحصى يبقون في مكانهم هكذا لا أحد يقترب منهم”، قالت لي هذا، وأنا أفكر في الوقت نفسه، هل حقاً “الحشيش” والمحكمة والاكتئاب هو السبب الحقيقي الخفي؟ الإدمان يشبه كثيراً الهروب من الأفكار والمواقف أو أي شيء آخر، مثلما أهرب من ألمي ومعاناتي عبر الكحول والفاليوم، الإدمان هو أكثر من مجرد عرض لمشكلة أسفل السطح، تحدثنا، كانت لدينا مشاكل طفولة مشابهة، هل يجب أن أسميه ارتباطاً بصدمات كانت ثقيلة؟.
الآن صباحاً، مكيف الهواء يعمل جيداً، الطقس حار ورطب في الخارج، أحصل هنا على ما أحتاجه، يقدمون لي الطعام، الأدوية في الوقت المحدد، وبعضهم يستمع إلي فعلاً، هذا جزء صعب حقاً من الوظيفة. عندما كنت أتحدث أمس مع الممرضة، في نوبة الليل، تبدو في الخمسينيات من عمرها، كانت تعاني من مشاكل في ساقيها مما يجعلها دائماً في ألم، أخبرتني أن لديها 20 عاماً من الخبرة، ومع ذلك تتقاضى 600 دولار فقط، ويشمل ذلك التنقل، كنتُ مصدومة بشدة، كم هو ظالم وقاسٍ هذا الواقع الذي نعيشه، نحن نتحدث عن مستشفى محترم في هذا البلد السيئ.
توقفت عن الكتابة لأحصل على بعض القهوة وأتمشى قليلاً، الآن الساعة 8:32 صباحاً، لا أعرف إذا كانت الفترة القادمة من الاكتئاب ستعود بالحدة نفسها أو أقل، هذا كل ما يجول في رأسي الآن. هل يمكنني حقاً الاستمرار في العيش؟ البقاء بدون كحول مع ممارسة كيفية استخدام “آليات التأقلم الصحية” البالية التي يخبرني بها كل طبيب نفسي ألتقي به، وأيّ نوع من الممارسات التي لا تشمل الفاليوم، الكحول، المخاصمات غير المقصودة/المقصودة وإيذاء النفس.
“القراءة، الرسم، القهوة، التزلج، العفرتة… أي شيء من “الآليات السليمة”…قرف التأقلم مع الأوضاع السياسية والاقتصادية غير سليم، هذا ما أعرفه. كلا، ليس تأقلماً، بل الترويض للتكيّف، كأن كلاً منا حيوان عليه بالعصا حتى يتعلّم الجلوس وعدم الحركة. أفكّر بكل هذا وأجد أنني لست بمجنونة أو مريضة، فما يحدث خارج إطار “الطبيعي”.
الحال في المستشفى
لم يكن من المفترض أن أدخل المستشفى ليعطيني الممرضين/ات الدواء حبوباً، ظننتهم سيمررونها من خلال المصل كما فعلوا بالفاليوم 10مغ، كان الغضب يأكل كل جزء مني، إذ إن قبولي بالدخول هو لتجنب أذية نفسي وتمرير الدواء بنمطية متسارعة مختلفة عن العادة، حتى أشعر بتحسّن، ظني أن الكيميائيات في دماغي هي المشكلة… حاولت تناسي الموضوع والتعامل مع هذه الفترة المفترض أن تكون 7 أيام، كالنقاهة، أفكر من خلالها بما أريد أن أفعل في حياتي، وكيف يمكن أن أستعيد القليل من الشغف للبقاء على قيد الحياة قدر الاستطاعة، غرفتي كانت مكان مناجاتي الوحيدة.
في البداية كنا ثلاثة مرضى، ينام الجميع وأبقى وحدي في صالون التدخين، أجلس على علّية منخفضة وأتأمل الخارج مع علب السجائر بجانبي، من دون الحاجة إلى الالتزام بدوام النوم المخصص للمرضى، أي عند 12 ليلاً، حيث على الجميع أن يكون نائماً ولو اضطروا إلى إعطائه حبوباً منومة فوق المعطاة، لكن هذا لم يحدث معي، لم أكن أصدر أي جلبة، أجلس وأفكر وأدخّن، كانت الأيام الثلاثة الأولى منتجة بالفعل، فكرت في الكتابة والرسم في أوقات الهلوسات والاكتئاب الحاد، لكن الأمور اختلفت بعد مجيء مرضى آخرين.
كنت في الأوقات السابقة أدردش عند الحاجة مع الممرضين وأسألهم عن أحوالهم، كنت في حينها الوحيدة في الطابق التي أتت بملء إرادتها حتى لا تقوم بالقفز، لم يجلبني أحد، لم يسأل عني أحد، أخبرت أسرتي أنني عند صديقتي، وأن هنالك مكيّفاً بشكل دائم، يقيني من الحرّ في الخارج، لم أجرؤ على القول إنني في المستشفى حتى لا أشغل بال أحد، أردت البقاء في حال من الكذب والصمت، فلا يمكنهم سوى العويل والحزن والبكاء، والجواب الوحيد لأي حال أنا بها “عليك بالصلاة والإيمان كما فعلت برمضان، أتذكرين؟ كنت بخير”.
في رمضان كنت بخير وجاءتني فكرة كباقي الأفكار الاندفاعية، بالتوقف عن تناول أي نوع من الأدوية والبقاء لله، ظننت أن ذلك سيساعدني في وحدتي وشقاء وجودي العبثي، شهر واحد انقضى ثم عدت بحال أسوأ مما كنت عليها، رأيتني أكذب على نفسي، إذ لا معنى لكلّ ما يحدث، من نحن في هذا الكون اللا متناهي؟ من نحن عبر التاريخ؟ من أكون؟ ولماذا أكون؟ وماذا يعني أن أكون؟ لم أختر هذا المكان ولا الجسد ولا دماغي كيف يتبعثر بين كلّ فينة وأخرى.