تقول الحكاية إن “خرافة” كان رجلاً من بني عذرة، غاب عن أهل قبيلته لفترة طويلة، وحين عاد قال إن الجنّ تلبّسه، وإنه رأى أعاجيب وغرائب، بدأ يقصّها عليهم… ولأنّ الناس كشفوا أمره ولم يصدّقوا ترهاته، أطلقوا على الحكايا الكاذبة “خرافات” أو يقال مثلاً “أكذب من خرافة”.
هذه القصة إن حصلت بالفعل ولم تكن واحدة من خرافات العرب، فهي حدثت قبل قرون طويلة، فقبيلة بني عذرة وردت في الكتابات الرومانية القديمة وكان من أبرز شعرائها جميل بثينة الذي عاش في العصر الأموي أي قبل أكثر من 1300 سنة، وهذا يعني أن الخرافة الأولى، إن صح التعبير، حصلت قبل إنشاء المدارس والعلوم المعاصرة والطب والاكتشافات التكنولوجية، وربما حتى قبل اكتشاف الأديان والفلسفة الحديثة.
لكنّ الناس على رغم قلة حيلتهم ومحدوديتهم وجهلهم وقلة وعيهم، إذا ما قورنوا بعصرنا الراهن، إلا أنهم استطاعوا تكذيب خرافة…
أما اليوم، فقد حلّ زمن الخرافة مرة أخرى على ما قال إرنسيت كاسيرر، الفيلسوف والمورّخ الألماني في كتابه “خرافة الدولة”. خرافة أن يخرج رجل من وسط ركامنا اللبناني ويقول إنه نبيّنا الجديد، الحكيم نشأت مجد النور. بجانب السيد نشأت تجلس وصيفة النبي الأولى، عالمة الفلك كارمن شمّاس، وهي تدعمه بكل ما يبشرنا به، تخبرنا عن الأمراض التي بإمكانه أن يشفينا منها، وتهزّ برأسها دليلاً على موافقتها على كل ما يدلي به الرجل الذي هددنا بعصا غليظة، قائلاً: “ما حدا يحكي عالرئيس، ممنوع حدا يجيب سيرة الرئيس”. النبي الجديد المبشّر بالخير والمحبّة، أتى ليدافع عن رئيس تحقق أكبر دمار اقتصادي واجتماعي في عهده، إضافة إلى واحد من أكبر الانفجارات في التاريخ. إنه نبي مضحك حد البكاء، فاصل فكاهيّ وسط هذا الكم من الانهيار.
يأتي النبي الجديد في منتصف سقوطنا، كجزء من مسارنا الانحداري، إذ تبدو هذه الخرافة كشرط ضروري لتحقيق انهيار كامل وممتد من الاقتصاد إلى البنى المجتمعية، وصولاً إلى الفكر والسلامة النفسية والعقلية للأحياء فوق هذه الجزيرة المعزولة، حيث لا كهرباء ولا خدمات، فقط مجموعة بشر تعتقلهم زمرة من القتلة والسارقين والمشعوذين.
“في جميع اللحظات المهمة في حياة الإنسان الاجتماعية، لم تعد القوى العقلانية التي تقاوم صعود المفاهيم الخرافية القديمة واثقة من نفسها. وفي هذه اللحظات، حل زمن الخرافة مرة أخرى”، يقول كاسيرر.
قد حلّ زمن الخرافة مرة أخرى على ما قال إرنسيت كاسيرر، الفيلسوف والمورّخ الألماني في كتابه “خرافة الدولة”. خرافة أن يخرج رجل من وسط ركامنا اللبناني ويقول إنه نبيّنا الجديد، الحكيم نشأت مجد النور.
من نوستراداموس إلى الحكيم
إن كان البعض يعتقد أن زمن النبوءة قد اختتم مع المنجم الفرنسي نوستراداموس الذي قضى عام 1556 أو العرافة البلغارية العمياء الشهيرة بابا فانغا (توفيت عام 1996)، اللذين ما زالت توقعاتهما تنتشر وتُحلل وتستعيد رونقها في بداية كل عام، فإننا الآن في زمن الحكيم نشأت مجد النور… وهذا من حسن حظنا نحن اللبنانيين، على ما تقول السيدة شماس، وهي تتلو لنا خطاباً تمهيدياً، تعلن فيه ولادة نور جديد أشرق على العالم.
لكن هذا السقوط الفكري المدوّي لا يتمثّل حصراً بالسيد نشأت العبوس الغضوب، صاحب الرسوم الغريبة فوق الجبين، الآتي من كوكب الزهرة، على ما يخبرناـ فللسقوط عناصر أخرى، كتزايد المساحات التي يشغلها المنجمون وقارئو الكف وأوراق الترو والمشعوذون، في وسائل التواصل الاجتماعي وعلى شاشات التلفزيون وغيرها من وسائل الإعلام…
والمفارقة أن عصر الخرافة الجديد يأتي في ظل حاجة البشرية جمعاء إلى تصديق العلم لمكافحة جائحة “كورونا” وأمراض أخرى. لكن في لبنان المفلس الذي تأكله العتمة وينهشه الفساد، نفذت مجموعة من المواطنين اعتصاماً ضد إلزامية التلقيح ضد “كوفيد- 19″، واصطحب هؤلاء معهم عدداً من رجال الدين الذين اعتبروا أن اللقاح ضدّ الله وأن الوباء إشاعة للسيطرة على البشرية والقضاء عليها!
إقرأوا أيضاً:
سابقاً، غالباً ما كانت الظواهر الطبيعية تفسر على أنها تدخل إلهي في حياة البشر أو إشارة سماوية بحدوث أمر ما، ثم أتى العلم بعد ذلك ليثبت أنها أمور طبيعية، مثل الرعد والبرق، إذ اتضح أنها كهرباء مثلاً. واعتبرت الأمراض في عصور سابقة غضباً من الإله أو قصاصاً ربانياً لأن الشخص خاطئ أو نجس. كما أثارت الحقائق الفلكية الجدل في الكنيسة في العصور الوسطى، وقد واجه علماء كثر المتاعب والسجن مثل كريستوف كولومبوس وسواه، وما زال النقاش مفتوحاً بين العلم والدين حتى اللحظة. هل نصلّي أم نشتري دواء؟
لكن السرد التاريخي السريع لمثل هذه الأحداث، ليس إلا لطرح سؤال حقيقي عن تطوّر الفكر البشري وحقيقة إيمانه بالعلم والمنطق، وعدم اكتراثه لحركة النجوم ومدّعي النبوءة والمعرفة والقدرات الخارقة والحاسة السادسة وتلك السابعة. هل حقاً تطوّرت البشرية؟ هل فعلاً وصلنا إلى الفضاء؟ هل نحن من أنجز كل هذه الاختراعات وجعل العالم قرية صغيرة؟ هل يعقل أن تكون البشرية التي صنعت التكنولوجيا وناطحات السحاب، هي ذاتها التي ما زالت تفبرك أنبياء على شاكلة السيد نشأت؟
سقوط واحد
بالعودة إلى هنا، إلى لبنان، منتج فكرة السيد نشأت وغيره من المنجّمين والعرافين الذين يظهرون بربطات عنق أحياناً حيناً أو بأزياء عجيبة أحياناً أخرى، فإن السقوط واحد، إنما في أودية مختلفة، وقد بدأ قبل سنوات وقد اشتدّ حصاره الآن، وكأن هذه النهاية تحتاج تحديداً إلى هذا النبي، هؤلاء المنجمين، هؤلاء الجهلة، هذه النهاية تحتاج تحديداً إلى هذه الخرافة!
إقرأوا أيضاً: