أُنجز هذا التقرير بدعم من برنامج “قريب” الذي تنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الإعلامية CFI وتموله الوكالة الفرنسية للتنمية AFD.
شكّلت جريمة قتل عبير رحّال محطة مأساوية إضافية في حياة النساء، اللاتي يخترن أن يغيّرن واقعهنّ عبر اللجوء إلى القضاء بهدف الانفصال عن أزواجهن. لكن المجرم لم يرض بهذا الإجراء فخطّط لجريمة قتل بدم بارد وأقدم على سرد قصة مطولة عن الأسباب التي أدت به إلى اتخاذ قراره بالقتل المتعمد رابطاً فعلته بأسباب كلاسيكية كالخيانة المتكررة.
وفي معرض مونولوجه السمج، الذي أقدم على بثّه على وسائل التواصل الاجتماعي، يعترض القاتل على قول عبير إنها تعرضت للعنف ليقول إنه ضربها مرتين “هني كفين بس…”. وكأن على المرأة أن تُسحل وتُكسر أضلاعها لكي تطلب الطلاق بسبب العنف.
الواقعة أن امرأة متزوجة قررت الانفصال عن زوجها واختارت مساراً قانونياً للانفصال. لكن المجرم قرر الانتقام، وفي انتقامه هذا لم يكن القتل كافياً، بل استمزج سرد قصة مقرفة ممزوجة بتوجيه تحيات وكأنه مقدم على انتصار ما!
حديث طويل لم يهدف منه إلا قتل عبير معنوياً في رأسه ليبرر لنفسه جريمة مع سبق الإصرار والترصد. ولم يكتف بسرد تبريرات القتل في رأسه فقط، بل ارتأى أن يخرج إلى العلن ليؤكد سرديته لعله يحشد المناصرة لقتله أم أطفاله بدم بارد ومن ثم الإقدام على الانتحار.
لم يفكر للحظة بمصير أطفاله إلا في سياق انتقام إضافي عندما حرّض عائلته على طلب الوصاية، مدعياً أن عار عائلة الأم سيلحق بالأطفال. أي عار يتحدث عنه مجرم؟
لسنا هنا في معرض التحليل النفسي ولا الأسباب البسيكولوجية التي أدت بالمجرم إلى القتل. فهذا الأمر يقوم به المختصصون/ات. مع العلم أن التحليل النفسي ينغمس أحياناً في سياق تبريرات أيضاً طالما أن من يقوم بالتحليل يتبنى سردية القاتل في سياق ذكوري محض. نحن هنا أمام جريمة قتل أقدم عليها مجرم لم يردعه كونه أباً لـ 3 أطفال عن فعلته ولم يفكر لحظة بأثر فعلته عليهم. بل ربما تراءى له ألا بأس بالانتقام من الأطفال عبر تيتيمهم وتشويه صورة الأم، أو ربما بحث عن نفس عبير الأخير وصورة أطفالها تلتمع في عينيها!
أثر الجريمة على الأطفال
يواجه الأطفال الذين يفقدون والدتهم نتيجة جريمة قتل النساء تحديات نفسية وعاطفية واجتماعية عميقة. غالباً ما يتفاقم هذا الصراع بسبب عنصر المفاجأة والطبيعة العنيفة للفقدان، بالإضافة إلى كون الوالد هو مرتكب الجريمة. ورغم أنه وفي كثير من الأحيان، يشهد الأطفال والطفلات على عنف متواصل ومتعدد الأبعاد ما قبل الجريمة، إلا أن فاجعة الفقد لا يمكن تخيلها، فكيف إذا ترافقت مع إشهار علني يتعمد الإساءة إلى الأم حتى بعد قتلها وكأن جريمة واحدة لا تكفي؟!
غالباً ما يلجأ مقدمو/ات الرعاية إلى الصمت وتجنب الحديث عن الجريمة كوسيلة يظنون أنها مراعاة لمشاعر الأطفال والطفلات، ولكنها في كثير من الأحيان تعمّق المشكلة وتفتح الباب لتأويلات وتحاليل، لا سيما أن وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دوراً أساسياً في تحريف المعلومات، لاسيما بعد تداول تسجيل القاتل شحذاً للدعم الذي وجد فضاء رحباً له.
أهمية السردية للتعاطي مع الصدمة
تؤثر القصص التي تُسرد للأطفال عن وفاة والدتهم بشكل كبير على قدرتهم على مواجهة الصدمة والتعامل معها. تشير الدراسات إلى ضرورة أن يركز مقدمو/ات الرعاية والمتخصصون/ات على بناء سرد صادق يناسب أعمارهم. يجب أن يتجنب السرد التفاصيل المروعة، لكنه يكون واضحاً لا لبس فيه، يدين الجريمة ويتيح للأطفال والطفلات بناء مسافة بينهم وبين الوالد الذي ارتكب الجريمة. هذه المسافة لا تلغي صفة الوالدية، ولكنها تتيح للأطفال والطفلات خيار الانفصال عن عملية القتل.
لا بدّ أيضاً من مقاربة سردية أن الأب هو القاتل بموضوعية وصدق، وتجنّب التقليل من فداحة الجريمة مع وضعها في سياق خيار عنفي غير مبرر ينزلق إليه البعض نتيجة تراكم اجتماعي ثقافي ذكوري يبرر للرجال أفعالاً مماثلة.
هدف السردية أن تساعد الأطفال والطفلات على فهم الحدث مع الحفاظ على كرامة الضحية، وتوضيح الموروثات الثقافية والاجتماعية التي لطاما بررت ذكورية ما تظن نفسها فوق العدالة والقانون.
ثقافة الصمت
في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة، أصدرت هيئة الأمم المتحدة للمرأة ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC)، تقريراً أشار إلى أنه تم قتل 85,000 امرأة وفتاة عمداً في عام 2023. وتُظهر البيانات أن 140 امرأة وفتاة يفقدن حياتهن يومياً على يد شريك أو قريب مقرب، ما يعني أن امرأة أو فتاة تُقتل كل 10 دقائق.
تشير الإحصاءات إلى أن 40 في المئة فقط من النساء اللواتي يتعرضن للعنف يبلّغن عنه، وغالباً ما يتم تجاهل شكاويهن أو التعامل معها بشكل سطحي. ويُعتبر الحديث عن العنف “عيباً” أو “فضيحة” تُلام المرأة عليها. علماً أن الصمت هنا ليس خياراً بل هو قيد يُفرض على المرأة خوفاً من العار. كل لحظة صمت هي فرصة أخرى للمعتدي للاستمرار، وفرصة أخرى للمجتمع ليفشل في حماية من يحتاجون الى الحماية.
في هذا السياق، تقول جيزيل بيليكو عن خيارها في محاكمة علنية لزوجها وشركائه في اغتصابها، أنها قررت تصويب معادلة العار لأن العار يسكن في إقدام زوجها وكل من اغتصبها على جريمتهم. وتؤكد جيزيل بيليكو أن زوجها وشركاءه الخمسين في الجريمة هم أي رجل عادي يحوم حولنا ويعيش بيننا ويخترع سردية ما ويجد من يصدقه!
وحدها الإدانة العلنية قادرة على ردع هذا الرجل العادي الذي تحدثت عنه جيزيل بيليكو. فهل نحن مستعدون ومستعدات لتعريته أم ما زلنا في مرحلة التواطؤ الضمني؟
صمتنا وقت مستقطع يقتل عبير التي فينا في كل لحظة.