على موقع شركة “مصر للغزل والنسيج” في مدينة المحلة الكبرى، يصدح صوت سناء منصور في فيديو ترويجي قائلةً: “ويستمر نهر العطاء الوطني في التدفق داخل الشركات التابعة للشركة القابضة للقطن والغزل والنسيج، ويظل التفاني في العمل هو السمة المشتركة لكافة الشركات التابعة للشركة القابضة، يعزفون جميعاً أعظم سيمفونية للعطاء والإخلاص، يواصلون الليل بالنهار من أجل الحفاظ على سمعة المنتج الوطني”. لكن على الرغم من تأكيد منصور أن العمال يواصلون الليل بالنهار لإنجاز العمل، إلا أن أجورهم لا تليق بسمعة المنتج الوطني.
تتبع “مصر للغزل والنسيج” وزارة قطاع الأعمال، وعلى الرغم من أنها إحدى شركات الدولة إلا أنها استُثنيت من قرار رفع الحد الأدنى للأجور، الذي أقره الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. واختار محافظ الغربية هذا الوقت لزيارة معرض للسلع الغذائية في الشركة، ربما لأن هذه السلع من اختصاص النساء، وتكتوي العاملات بأسعارها يومياً.
تأجّج غضب عاملات مصانع الملابس في شركة “مصر للغزل والنسيج” بعد زيارة محافظ الغربية، وبدأن إضراباً عن العمل احتجاجاً على استثناء قطاع الأعمال الذي تتبع له الشركة من قرار رفع الحد الأدنى للأجور إلى 6 آلاف جنيه، على رغم الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها مصر، وارتفاع أسعار المواد الغذائية، بعدما هتفن في وجه المحافظ أثناء حضوره معرض “أهلاً رمضان”: “واحد اتنين… قرارات الريس فين”.
بعدها أعلن العمال في الوردية ذاتها الإضراب، ولحق بهم عمال الوردية التالية ما عدا الأقسام التي تنفّذ طلبيات التصدير. واحتجّ العمال في الميدان الذي يحمل اسم طلعت حرب الذي أسس هذه الشركة قبل مائة عام. لم يُعجب الأمن الوطني بمحافظة الغربية إضراب عدد من العاملات والعاملين في الشركة، فاعتقل الكثير منهم وأطلق سراح البعض بعد ذلك. وعلى الرغم من انتهاء الإضراب، إلا أنه لا يزال يحتجز ثمانية من العمال بحسب صفحة حركة الاشتراكيين الثوريين.
زيادة تساوي سعر كيلوغرام لبن يومياً!
أنهى العمال والعاملات الإضراب يوم الخميس 29 شباط/ فبراير، بعد قرار وزير قطاع الأعمال رفع الحد الأدنى للأجور للعاملين بقطاع الأعمال الى 6 آلاف جنيه. وتعهدت إدارة الشركة بدراسة مطلب آخر للعمال بدءاً من نيسان/ أبريل المقبل، والخاص بزيادة بدل الوجبة الشهري من 210 جنيهات إلى 900 جنيه، بما يوازي سعر كيلوغرام لبن يومياً. جدّد إضراب “غزل المحلة” الأمل لدى البعض، ورأوا فيه شرارة الثورة، وتمنى البعض الآخر أن يثور نيابة عنهم، ذلك لأن للشركة تاريخاً طويلاً من الإضرابات والكفاح العمالي.
حسين المصري، منسّق برامج التدريب في دار الخدمات النقابية والعمالية، يقول لـ”درج”: “تاريخياً، كانت المحلة نجمة الصناعة المصرية، لذا فهناك تركيز على إضرابات العمال فيها سواء إعلامياً أو من بقية العمال في القطاع، ولها دائماً وضع استثنائي. وقد كان إضراب 2006 الأشهر في الوقت الحديث، والذي قام به العمال لصرف الأرباح السنوية، وقد نجحوا من خلاله في الحصول على الأرباح السنوية، ناهيك بصرف منحة أخرى لعمال الشركات القابضة”.
يضيف المصري: “أزمة العمال بالشركة في 2024 تمحورت حول سؤال: هل سيطبّق الحد الأدنى للأجور على قطاع الأعمال الذي تتبعه شركة غزل المحلة أم لا، وهو ما دفع الى الإضراب الذي ينطوي على مطلب شرعي يتوازى مع ارتفاع الأسعار ونسب التضخم بسبب الأزمة الاقتصادية التي نعيش فيها. بالتالي، هناك مشروعية لطلب العمال برفع الحد الأدنى للأجور سواء في القطاع الخاص أو قطاع الأعمال لسد الفجوة بين الأجور والأسعار”.
يختم المصري حديثه قائلاً، إن الأزمة انتهت بصدور قرار وزير قطاع الأعمال بتطبيق الحد الأدنى للدخل، وهو 6 آلاف جنيه على قطاع الأعمال العام، واستجابة العمال للقرار وفضّ الإضراب، مؤكداً أن “العاملات كن موجودات طوال الوقت على الأرض كقيادات عمالية سواء في إضراب 2006 أو 2017 أو 2024، لكن تمثيلهن داخل النقابة طفيف، ذلك لأن العمال بالأساس لا يرون أن النقابة تعبّر عنهم”.
غزل المحلة… صنع بدم العمال
في رواية “الرحلة” التي كتبها العامل فكري الخولي، يحكي عن فترة مهمة في تاريخ مصر المعاصرة، وهي الفترة التي نشأت فيها الصناعة المصرية الحديثة أيام طلعت باشا حرب وشركات المحلة. تقول مقدمة الكتاب، إن الأدب المصري تجاهل الآلام والضحايا المصرية التي صاحبت الصناعة المصرية، ذلك لأن الصناعة في مصر نشأت في صراع مع صناعة الاستعمار الأجنبي، فكان طابعها الوطني يمنع الرأي العام المصري والعمال المصريين من التشهير بآثامها، في مجتمع زراعي في الدلتا تحديداً في مدينة المحلة الكبرى، التي ستكون في ما بعد معقلاً للحركة العمالية.
في عام 1927، أسس طلعت باشا حرب شركة “مصر للغزل والنسيج”، وفي 1928 سافر فكري الخولي قادماً من قرية كفر الحما بالغربية إلى المحلة ليعمل في المصنع. وهي قرية يشتهر أهلها بالزراعة، ولم يعتادوا العمل في المصانع ولم يتدربوا على التعامل مع الماكينات، حتى أنهم كانوا يعتبرون “ماكينات الطحين” نذير شؤم، بالتالي لم يكن أحد يهتم بفكرة أمان العمال وسلامتهم.
يحكي الخولي في روايته “الرحلة”، عن مآسي العمال داخل المصنع، وجثثهم التي تعلق بين سيور الماكينات، والعربات التي تأتي محمّلة بمئات العمال من القرى المجاورة، هؤلاء العمال الذين سيشاهدون جثث زملائهم “تفرمها” الماكينات يومياً، العمال الذين يقفون وراء الماكينات من الساعة السابعة صباحاً حتى الثامنة مساءً، لا يجدون مكاناً يبيتون فيه إلا في حظيرة البهائم، أو في حجرة يؤجرها صاحبها “بالراس”، أي لأكبر عدد من العمال.
أين كانت النساء؟
في عام 2006، شهدت مصر إضرابات عمالية واسعة اعتراضاً على تدني الأجور، بدايةً من مصانع شركة الغزل والنسيج الى شركة الإسمنت وغيرهما. ومن “غزل المحلة”، كانت العاملات هنّ الشرارة أيضاً، عندما هتفن “الرجالة فين… الستات أهم”، وانضمّ عمال المصنع إليهن بعد ثلاثة أيام. هؤلاء العاملات لم يكن مسيسات بالمعنى الضيق لكلمة سياسة، لكن وجودهن في الإضراب كان لافتاً للأنظار، وبرزت أسماء لقيادات نسائية عمالية مثل وداد الدمرداش.
تذكر الباحثة منى عزت في دراسة بعنوان “العلاقة بين مشاركة العاملات في الاحتجاجات العمالية وتبني مطالب النساء في أماكن العمل”، والتي صدرت عام 2010، أن العمالة النسائية في شركة الغزل والنسيج بدأت تسجَّل منذ الستينات بأعداد قليلة، وتركزت غالبيتها في مصانع الصوف التي لا تحتاج الى قوة بدنية. وبلغ عدد العاملين بالشركة حوالى 24000 في عام 2010، وبلغ متوسط العمالة النسائية ما بين 5000 إلى 6000 عاملة. لكن عدد العمال حالياً أخذ في التناقص بعد حلول الماكينات محل الأيدي العاملة، إذ يبلغ عدد العمال حالياً 14 ألف عامل، و3700 عاملة.
تذكر منى عزت في دراستها، أنه على الرغم من مشاركة النساء البارزة في الاحتجاجات وتنوّع أدوارهن، إلا أنهن لم ينلن أي مطالب مرتبطة بوضعهن الاجتماعي من إجازات الأمومة ورعاية الطفل، وتوفير دور حضانة داخل أماكن العمل، وهو ما يشكل عبئاً جسدياً ومادياً عليهنّ.
في ندوة لحزب العيش والحرية لمناقشة موجة الإضرابات العمالية الحالية وفرص تحوّلها إلى محطة جديدة للمقاومة الاجتماعية، تلفت عزت الى أن حقوق النساء مثل إجازات الأمومة والتمييز ضد عاملات الغزل اللواتي يعملن فقط في أقسام بعينها داخل الشركة بدعوى أنها ملائمة للنساء بسبب عدم احتياجها الى قدرة بدنية…هذه الأزمات كلها لم تكن مطروحة بشكل بارز على أجندة الحركات العمالية بجانب مطلب الحد الأدنى للأجور. وعلى رغم أن العاملات يتصدرن دائماً الاحتجاجات لسبب أو لغيره إلا أنه عندما يتحقق مطلب الأجور تُنسى مطالب النساء ولا تتوقف الماكينات من أجلهن.