fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

لماذا الإصرار على تقسيم السوريين أكثريّة وأقليّة؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أفكر بمبدأ التقسيم إلى مجموعات، وأشعر أنه قاصر عن وصف وضعنا كشعب كان مضغوطاً بطغمة استبداد، كان يفضل كنس كل الخلافات تحت سجادة “الفسيفساء الوطنية المنسجمة”، رفعت عنه كل الضغوط فجأة ودفعة واحدة، فأصبح يغلي باختلافاته وألوانه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة السورية، أصرّ العالم الغربي على تقسيمنا فوراً إلى أكثرية وأقلية، وركز الإعلام الغربي على طائفة الرئيس المخلوع، وشرح وأسهب في الفروق بين الطوائف والأعراق ونسبها وتوزّعها على الجغرافية السورية. وكنا كلما حاولنا مواجهة هذه النظرة، اضطررنا إلى الخوض في التفاصيل الطائفية، ما جعل الكثيرين منا يعزف عن المناقشة ويفضّل ترك الغربيين في جهلهم. 

منذ خروجي من سوريا وأنا أتعرض لمواقف تدهشني، يشرح لي فيها أحد المحاورين الذين لم يزوروا سوريا، سوء فهمي لتركيبة بلدي أو خطأ تحليلي لطبيعة الثورة التي أدافع عنها. وقد تصل الجرأة ببعضهم الى إخباري بأنني ربما أجهل واقع سوريا، أو لا أعلم عما أتحدث. 

نواجه سيلاً من الخطابات التي ترفض النظر إلينا كوحدة متكاملة، والنظر في الأسباب الطبقية التي لعبت برأيي دوراً أعمق بكثير في الثورة من الأسباب الطائفية والعرقية، كما تتجاهل الضغط الدولي ودور الإعلام العالمي في تقسيمنا إلى فئات ومجموعات. وفي خضم ذلك كله، لم أكن أستطيع أن أرى حقيقة ما كان يتحدث عنه المجتمع الغربي، وكنت أفضل تقسيمنا سياسياً إلى منحازين الى الثورة ومنحازين الى النظام وغالبية صامتة. 

انقسامات داخل الثورة

داخل الأوساط الثورية، التي أظهرت تنوّع سوريا وتلوّنها بمجرد أن تخففنا من عبء القمع، انقسمنا أيديولوجياً إلى كل الأطياف السياسية، كما انقسم الشارع الثوري بحدة عندما اتخذت الثورة خيار حمل السلاح، إذ رأت الفئة السلمية أن التفوق الأخلاقي للثورة سيخسر الكثير بمجرد الدخول في معارك في مواجهة النظام، بالإضافة إلى وجهة النظر التي اعتبرت أن تفوق سلاح النظام وامتلاكه الطيران سيسحقان الثورة، فيما دافعت الفئة التي اختارت الانحياز إلى السلاح عن شرعية مقاومة النظام وإجرامه بكل الوسائل، وعدم إمكانية إسقاطه سلمياً.

 شهدت السنوات المتأخرة من الثورة، ولا سيما تلك التي تبعت استرجاع النظام مدينة حلب، انقسامنا إلى فئتين، فئة مُتشائمة، اعتبرت أن خسارة حلب هي نهاية الثورة واختارت إما الانشغال بنعي الثورة والندب على مصيرها، أو الانسحاب من الشأن العام والتفرغ لحياتها الخاصة، لاسيما في حالة اللاجئين في الدول المتقدمة، والتي أغرقت لاجئيها بالأعمال البيروقراطية.

أما الفئة الثانية فهي المتفائلة، وهي التي كانت ترى ألا حياة للسوري من دون المتابعة في طريق إسقاط الأسد مهما طال الطريق أو قصر، وأزعم أني كنت من هذه الفئة، على رغم أن الشك في شهود لحظة سقوط النظام كان يغزو قلبي. 

انقسامات ما بعد الأسد

بعد سقوط النظام، عدنا للانقسام الحاد إلى مجموعات عابرة للطوائف والأعراق، توزعت على فئات أربع. الفئة الأولى هي فئة المنتصرين، فئة ارتد إليها الحق وشعرت بأنها حققت كل ما كانت تتمناه بالقوة، ويغلب عليها جانب غضّ النظر عن التجاوزات أو الخلافات.

أما الثانية فهي فئة المذعورين الذين يخشون من انجرار البلد إلى حرب طائفية أو من انزلاقها إلى التشدّد الإسلامي أو من نفق أسود طويل ندخل فيه ولا نخرج منه إلا بفنائنا.  وثالثاً فئة المتشككين التي لا تثق بمسار ولا بأحد ولكنها ليست مذعورة كفاية للانضمام إلى المجموعة المتشائمة، وتمتاز هذه الفئة بأنها الفاعلة في الحوار وهي التي تضيء من دون توقف على كل النقاط المقلقة وتحاول البحث في أسبابها واقتراح الحلول.

 أما الفئة الأخيرة فهي فئة تفضّل العمل والانخراط في الشأن العام بغض النظر عن موقفها منه، وقد تضم أفراداً برؤية من كل الفئات السابقة، لكنها قررت تنحية كل المخاوف والقلق والتشاؤم ونشوة الانتصار لصالح الحلول التي يحتاجها المجتمع اليوم كي ينهض. 

هل يكفي أن نكون “الشعب السوري” فقط!

أعيد النظر في تقسيماتي السابقة، فأكتشف أنني وقعت في مطب المجتمع الغربي نفسه، إذ لا ينفصل تقسيمنا إلى فئات ومجموعات عن السقوط في فخ التعميم وجمع الأفراد المختلفين الملونين، والذين يمتاز كل منهم عن الآخر في حزمة واحدة موحدة. 

وأتساءل عن تلك الصفة التي تدفعنا إلى جمع الشعب ثم إعادة تقسيمه، هل يسهل ذلك علينا النظر إليه؟ هل يساعدنا أن ننظر إلى كل مجموعة على حدة بدل النظر إلى كتلة الشعب السوري الهائلة المتنوعة؟ أم أننا نحتاج إلى مجموعة نستطيع الانتماء إليها؟ لعل رفضي القاطع للتقسيمات الغربية سببه أنني لا أجد نفسي أنتمي إلى مجموعة بناء على دين أو عرق. 

يشغلني أيضاً أن الخلافات الأيديولوجية لم تحضر بعد سوى في الانقسام إسلاميين/علمانيين، إلا أن الاختلاف بين ليبراليين واشتراكيين أو بين ديمقراطيين ومحافظين وغيرها من التقسيمات لم تظهر بعد، لا سيما أن قانون تشكيل الأحزاب لن يعلن قبل القيام بخطوات عدة، منها الحوار الوطني وإعلان الدستور. 

أفكر بمبدأ التقسيم إلى مجموعات، وأشعر أنه قاصر عن وصف وضعنا كشعب كان مضغوطاً بطغمة استبداد، كان يفضل كنس كل الخلافات تحت سجادة “الفسيفساء الوطنية المنسجمة”، رفعت عنه كل الضغوط فجأة ودفعة واحدة، فأصبح يغلي باختلافاته وألوانه. وأسأل نفسي: هل من الضروري أن ننقسم؟ ألا يمكننا أن نجد ما يوحّدنا اليوم؟ لعل الإجابة الوحيدة والتي لا تخلو من ابتذال، هي كوننا بمجموعنا نشكل الشعب السوري، فقط، وبهذه البساطة. 

11.02.2025
زمن القراءة: 4 minutes

أفكر بمبدأ التقسيم إلى مجموعات، وأشعر أنه قاصر عن وصف وضعنا كشعب كان مضغوطاً بطغمة استبداد، كان يفضل كنس كل الخلافات تحت سجادة “الفسيفساء الوطنية المنسجمة”، رفعت عنه كل الضغوط فجأة ودفعة واحدة، فأصبح يغلي باختلافاته وألوانه.

منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة السورية، أصرّ العالم الغربي على تقسيمنا فوراً إلى أكثرية وأقلية، وركز الإعلام الغربي على طائفة الرئيس المخلوع، وشرح وأسهب في الفروق بين الطوائف والأعراق ونسبها وتوزّعها على الجغرافية السورية. وكنا كلما حاولنا مواجهة هذه النظرة، اضطررنا إلى الخوض في التفاصيل الطائفية، ما جعل الكثيرين منا يعزف عن المناقشة ويفضّل ترك الغربيين في جهلهم. 

منذ خروجي من سوريا وأنا أتعرض لمواقف تدهشني، يشرح لي فيها أحد المحاورين الذين لم يزوروا سوريا، سوء فهمي لتركيبة بلدي أو خطأ تحليلي لطبيعة الثورة التي أدافع عنها. وقد تصل الجرأة ببعضهم الى إخباري بأنني ربما أجهل واقع سوريا، أو لا أعلم عما أتحدث. 

نواجه سيلاً من الخطابات التي ترفض النظر إلينا كوحدة متكاملة، والنظر في الأسباب الطبقية التي لعبت برأيي دوراً أعمق بكثير في الثورة من الأسباب الطائفية والعرقية، كما تتجاهل الضغط الدولي ودور الإعلام العالمي في تقسيمنا إلى فئات ومجموعات. وفي خضم ذلك كله، لم أكن أستطيع أن أرى حقيقة ما كان يتحدث عنه المجتمع الغربي، وكنت أفضل تقسيمنا سياسياً إلى منحازين الى الثورة ومنحازين الى النظام وغالبية صامتة. 

انقسامات داخل الثورة

داخل الأوساط الثورية، التي أظهرت تنوّع سوريا وتلوّنها بمجرد أن تخففنا من عبء القمع، انقسمنا أيديولوجياً إلى كل الأطياف السياسية، كما انقسم الشارع الثوري بحدة عندما اتخذت الثورة خيار حمل السلاح، إذ رأت الفئة السلمية أن التفوق الأخلاقي للثورة سيخسر الكثير بمجرد الدخول في معارك في مواجهة النظام، بالإضافة إلى وجهة النظر التي اعتبرت أن تفوق سلاح النظام وامتلاكه الطيران سيسحقان الثورة، فيما دافعت الفئة التي اختارت الانحياز إلى السلاح عن شرعية مقاومة النظام وإجرامه بكل الوسائل، وعدم إمكانية إسقاطه سلمياً.

 شهدت السنوات المتأخرة من الثورة، ولا سيما تلك التي تبعت استرجاع النظام مدينة حلب، انقسامنا إلى فئتين، فئة مُتشائمة، اعتبرت أن خسارة حلب هي نهاية الثورة واختارت إما الانشغال بنعي الثورة والندب على مصيرها، أو الانسحاب من الشأن العام والتفرغ لحياتها الخاصة، لاسيما في حالة اللاجئين في الدول المتقدمة، والتي أغرقت لاجئيها بالأعمال البيروقراطية.

أما الفئة الثانية فهي المتفائلة، وهي التي كانت ترى ألا حياة للسوري من دون المتابعة في طريق إسقاط الأسد مهما طال الطريق أو قصر، وأزعم أني كنت من هذه الفئة، على رغم أن الشك في شهود لحظة سقوط النظام كان يغزو قلبي. 

انقسامات ما بعد الأسد

بعد سقوط النظام، عدنا للانقسام الحاد إلى مجموعات عابرة للطوائف والأعراق، توزعت على فئات أربع. الفئة الأولى هي فئة المنتصرين، فئة ارتد إليها الحق وشعرت بأنها حققت كل ما كانت تتمناه بالقوة، ويغلب عليها جانب غضّ النظر عن التجاوزات أو الخلافات.

أما الثانية فهي فئة المذعورين الذين يخشون من انجرار البلد إلى حرب طائفية أو من انزلاقها إلى التشدّد الإسلامي أو من نفق أسود طويل ندخل فيه ولا نخرج منه إلا بفنائنا.  وثالثاً فئة المتشككين التي لا تثق بمسار ولا بأحد ولكنها ليست مذعورة كفاية للانضمام إلى المجموعة المتشائمة، وتمتاز هذه الفئة بأنها الفاعلة في الحوار وهي التي تضيء من دون توقف على كل النقاط المقلقة وتحاول البحث في أسبابها واقتراح الحلول.

 أما الفئة الأخيرة فهي فئة تفضّل العمل والانخراط في الشأن العام بغض النظر عن موقفها منه، وقد تضم أفراداً برؤية من كل الفئات السابقة، لكنها قررت تنحية كل المخاوف والقلق والتشاؤم ونشوة الانتصار لصالح الحلول التي يحتاجها المجتمع اليوم كي ينهض. 

هل يكفي أن نكون “الشعب السوري” فقط!

أعيد النظر في تقسيماتي السابقة، فأكتشف أنني وقعت في مطب المجتمع الغربي نفسه، إذ لا ينفصل تقسيمنا إلى فئات ومجموعات عن السقوط في فخ التعميم وجمع الأفراد المختلفين الملونين، والذين يمتاز كل منهم عن الآخر في حزمة واحدة موحدة. 

وأتساءل عن تلك الصفة التي تدفعنا إلى جمع الشعب ثم إعادة تقسيمه، هل يسهل ذلك علينا النظر إليه؟ هل يساعدنا أن ننظر إلى كل مجموعة على حدة بدل النظر إلى كتلة الشعب السوري الهائلة المتنوعة؟ أم أننا نحتاج إلى مجموعة نستطيع الانتماء إليها؟ لعل رفضي القاطع للتقسيمات الغربية سببه أنني لا أجد نفسي أنتمي إلى مجموعة بناء على دين أو عرق. 

يشغلني أيضاً أن الخلافات الأيديولوجية لم تحضر بعد سوى في الانقسام إسلاميين/علمانيين، إلا أن الاختلاف بين ليبراليين واشتراكيين أو بين ديمقراطيين ومحافظين وغيرها من التقسيمات لم تظهر بعد، لا سيما أن قانون تشكيل الأحزاب لن يعلن قبل القيام بخطوات عدة، منها الحوار الوطني وإعلان الدستور. 

أفكر بمبدأ التقسيم إلى مجموعات، وأشعر أنه قاصر عن وصف وضعنا كشعب كان مضغوطاً بطغمة استبداد، كان يفضل كنس كل الخلافات تحت سجادة “الفسيفساء الوطنية المنسجمة”، رفعت عنه كل الضغوط فجأة ودفعة واحدة، فأصبح يغلي باختلافاته وألوانه. وأسأل نفسي: هل من الضروري أن ننقسم؟ ألا يمكننا أن نجد ما يوحّدنا اليوم؟ لعل الإجابة الوحيدة والتي لا تخلو من ابتذال، هي كوننا بمجموعنا نشكل الشعب السوري، فقط، وبهذه البساطة.