تفاعل الجميع في أصقاع الأرض بأشكال مختلفة، مع لبنان عقب التفجير المخيف الذي ضرب مرفأ بيروت وألحق أضراراً بشرية ومادية كبيرة جداً. وحاز اللبنانيين على تعاطف الشعوب ودعمها، وهذا طبيعي في ظل هول الفاجعة وعامل المفاجأة والسرعة، إنما هناك أيضاً أشكال مغايرة من التفاعل فرضتها الفواجع السابقة المماثلة في بلدان أخرى لم تتخطَ نكباتها المتتالية حتى الآن. ففي خضم السيل الكبير من التضامن والدعم لبيروت، سأل صديق عراقي على “فايسبوك”، لماذا يتفاعل العالم هكذا مع بيروت ولا يفعلها مع بغداد على رغم أوجاعها ودمائها وتفجيراتها؟
وكتب سوري، “وأنا أتابع التضامن الكبير مع لبنان بعد التفجير أشعر كما لو أنه لم تكن هناك تفجيرات أو تدمير ولا دماء ولا إرهاب في سوريا على مدار سنوات؟”. وربما كرر هذا القول أحد ما في اليمن وآخر في ليبيا وربما آخرون أيضاً في مدن أخرى هنا وهناك في هذا الوطن العربي الذي قطعت أوصاله وأنهكته الحروب وغطرسة حكامه وفسادهم.
مشهد تجاوز كل حدود الدراما التي ألفناها على قسوتها ومرارتها وكشف بوضوح كم أن الجروح غائرة في منطقتنا، وأن الجحيم لم يعد يحتاج انتظار القيامة حتى نراه ونلمسه ما دام هذا واقع حال الكثير من المدن والعواصم العربية اليوم، قد تختلف الأشكال والأسباب، لكن الصورة الدامية واحدة.
كيف لا يخجل حكام العرب من هذه المشاهد؟
كيف يتمسكون بالكراسي أكثر فأكثر وهم يرون شعوب العالم تتسابق في ما بينها على إنجازات بلدانهم العلمية والمعرفية والاقتصادية فيما يتنافس نظراؤهم العرب حول مستويات السقوط والدمار التي لحقت بهم وأيهم أحق بالشفقة والعطف؟
أي سقوط بعد هذا سيكون كفيلاً بتحريك عجلة هؤلاء الحكام إما للرحيل أو الانتصار الحقيقي الصادق لأوطانهم وشعوبهم؟
لم يكن سؤال الأصدقاء هذا تشفياً في جرح بيروت ولا رفضاً للتضامن الواسع مع مصابها بقدر ما كان صرخة مدوية لهذا العالم، بأنهم أيضاً داخل حمم النار والدم، لم يكن سوى نداء مضمونه، “التفتوا إلى مصابنا الكبير القديم الجديد، لا تدفعوننا للتعايش مع هذا الموت البطيء الذي يثقل أرواحنا ونستشعره في كل يوم ومع كل تفصيل صغير من حياتنا، لا تصالحونا مع الدمار والقتلة بحجة تتالي التفجيرات وانتشار القنابل والقتلى والجرحى في شوارعنا، لا تجعلوه واقع أيامنا اللاحقة أيضاً”. وهذا السؤال قد يبدو في ظاهره غضباً أو استنكاراً لحجم التعاطف مع بيروت ولكن التمعن قليلاً يجعلنا ندرك أنه من أجل بيروت أيضاً، لأن التجارب المريرة لسقوط عواصم ومدن عربية كثيرة رافقتها دائماً موجات هائلة من التعاطف والتضامن، لكنها تضاءلت تدريجاً حتى اختفت وتركت هذه الشعوب تواجه مصيرها وحيدة والأمثلة هنا لا حصر لها.
أي سقوط بعد هذا سيكون كفيلاً بتحريك عجلة هؤلاء الحكام إما للرحيل أو الانتصار الحقيقي الصادق لأوطانهم وشعوبهم؟
سقوط بغداد في 9 نيسان/ أبريل 2003 كان حدثاً مزلزلاً مدوياً، ولقي تعاطفاً كبيراً ومنذ ذلك التاريخ أخذت الحرب في هذه العاصمة والبلد برمته أشكالاً أكثر عنفاً، ودُمِّرت مدن وأحياء بسبب الحرب الطائفية وأصبحت التفجيرات والقتل عناوين يومية لهذا البلد، في الأثناء تراجع صدى ذلك التعاطف حتى تلاشى وبقي الشعب العراقي يواجه مصيره وحيداً. على رغم بشاعة الحرب والتفجيرات والدمار والإرهاب التي ألمّت بالعراقيين وما زالت، إلا أن الاكتراث بهذه الجروح تراجع وخفت وهجه، ما دام حكام هذا البلد لا يضيرهم سقوط هذا القدر من القتلى وتسلط ميليشيات الموت التي تحمي وجودهم على الكراسي.
بعد بغداد جاء دور سوريا التي تحولت في أقل من 10 سنوات إلى حطام دولة ومستنقع لمسلحين من كل صوب وحدب، وكما هي الحال مع بغداد بكينا عذابات السوريين، الذين انتشروا تحت وطأة التفجيرات والقنابل على حدود دول الجوار وفي قوارب الموت بحثاً عن الأمان في دولة أوروبية. في السنوات الأولى كان التعاطف على أشده ولكن مرة أخرى أخمد طول الفترة وتتالي الأحداث ذاتها هذه الموجة وأصبح الحديث عن الكارثة السورية يمر كغيره من الكوارث المألوفة، وكأن التفجّع على القتل والموت والتفجير يقتصر على البدايات، ثم يتلاشى مع الوقت.
لم يكن الحال أفضل بعد سقوط صنعاء وعدن وطرابلس وبنغازي فالتفاعل الأول ذاته، وما تلاه من نسيان أو برودة في التعاطي مع الوضع بعد حين. ولن تكون بيروت استثناء عربياً في ظل توفر معطيات موضوعية لا سبيل لتجاهلها أو غض البصر عنها، وأهمها استمرار طبقة سياسية فاسدة على سدة الحكم. سيندمل الجرح تدريجاً ويعود المتسببون في الكارثة إلى سالف نفوذهم وسيجدون الدعم ذاته من هذا المحور وذاك ما دامت البوصلة معدلة على قياس مصالحهم، وسيواصل اللبنانيون ترميم أوجاعهم بمفردهم وينساهم المتعاطفون كما نسوا بغداد وحلب وصنعاء وطرابلس، ما دام مسببو الداء يرتعون من دون رادع دون محاكمة حقيقية عن أفعالهم، ولا يغادرون أماكنهم خجلاً وأسفاً على أوطان قطعوا أوصالها.
ولهذا على رغم مرارة أسئلة صديقيّ العراقي والسوري ورجاحتهما أيضاً، إلا أن واقع الحال يتطلّب ألا نغضب أو نحاسب دولاً أو شعوباً عن تغيير أشكال تعاملها مع مصائب وحروب هذه الدول ما دام المشهد فيها يأبى أن يتغير، ما دامت حروب الأخوة الأعداء لا تتوقف، ما دام الحكام قد باعوا الأوطان وقبضوا الثمن، ما دامت روائح الفساد تعلو على الروائح الأخرى، ما دام النسيج الاجتماعي هو الآخر تآكل بسبب ما سلف ذكره، كيف يمكن في ظل هذا كله طلب المساعدة أو استجداء العاطفة أو الشفقة أو الالتفات إلى واقع عواصمنا القابعة تحت ركام الحرب؟