تخشى حكومة المهندس مصطفى مدبولي أن تعلن أرقام الفقراء في مصر؛ في حين تكشف تقارير البنك الدولي التي تُجرى كل عامين، هذه الأرقام، إضافة إلى معدلات الدخل والإنفاق. ورغم ذلك لا تتناقلها وسائل الإعلام المصرية، فتظل في شبه تعتيم وتجاهل. كما تقدّم الحكومة المصرية تعريفاً خاصاً لمحدودي ومتوسطي الدخل، في إعلان وزارة الإسكان حول وحدات سكنية جديدة.
اختفاء؛ أو للدقة، إخفاء أرقام الفقر الأخيرة، دفعنا إلى طرح عدد من الأسئلة والبحث عن إجاباتها: كم يبلغ عدد الفقراء في مصر؟ ومن هم محدودو ومتوسطو الدخل؟ وما هو بحث الدخل والإنفاق الذي يحدد رقم الفقراء في مصر؟ ومن هم الفقراء في الأساس؟ هل من يحصل على وجبة طعام في اليوم؟ أم من يتعلم ويتمتع بتأمين صحي ويرتدي ملابس جديدة مرة كل عام؟
تعريف الفقر ودرجاته
نحن نعرف أن الفقير هو من لا يملك قوت يومه، ويمد يده طلباً للمساعدة، أو الذي لا يكفيه عمله لإطعام نفسه وأسرته، بينما يُعرَّف الفقر المدقع وفقاً للأمم المتحدة، بأنه العيش بأقل من 2.15 سنت للشخص الواحد في اليوم، وفقاً لمعيار القوة الشرائية لعام 2017، بينما تُعرّف الحكومة المصرية من خلال موقع جهاز التعبئة العامة والإحصاء، الفقر المادي بأنه “عدم القدرة على توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية للفرد أو الأسرة”، والاحتياجات الأساسية هي الطعام والمسكن والملبس والتعليم والصحة والمواصلات.
يقيس الإحصاء مستوى الفقر من خلال “خط الفقـر القومي”، الذي يندرج تحت سقفه من يملك تكلفة الحصول على السلع والخدمات الأساسية للفرد أو الأسرة.
ووفقاً لتصنيف الحصول على هذه الاحتياجات والإمكانات، فالجهاز يعتبر أن الفقـراء هم “السكان الذين يقلّ استهلاكهم الكلي عن تكلفة خط الفقـر القومي”، أما الـفقر المدقع فهو عبارة عن نسبة السكان الذين يقلّ استهلاكهم الكلي عن خط الفقـر الغذائي، وهو الحد الأدنى لتكلفة البقاء على قيد الحياة، أي الذين يحصلون على طعامهم فقط.
متى كان آخر رقم رسمي؟
آخر ظهور للفقراء في أرقام الحكومة أو أي بيان رسمي، كان في بحث الدخل والإنفاق لعام 2020، الذي رصد المؤشرات تحديداً حتى شهر آذار/ مارس 2020، أي قبل فترة تطبيق الحظر الصحي بأيام، تفادياً لانتشار وباء كورونا. حينها، أوقفت أنشطة تجارية عدة، وتم تقليل ساعات العمل، وكذلك أوقات التجول والتسوق. تلتها حرب روسيا وأوكرانيا، وما كان لهما من تأثير سلبي على النشاط الاقتصادي العالمي بشكل عام، وبخاصة على الأنظمة الاقتصادية الضعيفة، كغالبية دول الشرق الأوسط والعالم النامي، ومن ضمنها مصر التي تعتمد اعتماداً كبيراً على الاستيراد بالدولار الأميركي، وعلى القروض وتسديدها بفوائد عالية. فكان من المتوقع أن نرى هذا التأثير على أرقام دخول الأسر وتغيّر سلوك إنفاقهم ومعدلات الفقر، في بحث الدخل والإنفاق لعام 2022، إلا أن هذا البحث لم تظهر مؤشراته ولا تفاصيله حتى لحظة كتابة هذا التقرير، وكأنه سر خطير.
ما أهمية بحث الدخل والإنفاق؟
في عام 1955، تم إجراء أول بحث تجريبي سُمي آنذاك “ميزانية الأسرة”، ونفذه ما كان يُسمى حينها بلجنة الإحصاء في المجلس الدائم للخدمات العامة، وكان لعينات من أسر محافظة الجيزة. ثم في عام 1958، أُعيد إجراء البحث نفسه ولكن على محافظات الجمهورية كلها، وأيضاً مرة ثالثة في عام 1965، ثم توقف لمدة عشر سنوات لظروف الحرب، وتم إجراؤه مجدداً في عام 1975. لم يسر البحث بوتيرة زمنية متتالية ومحددة، بل كل ثلاثة أو أربعة أعوام، حتى عام 2009 حيث بدأ الانتظام في تنفيذه كل عامين، وحصل آخر بحث قياس عامي 2019/2020.
بداية العمل في البحث التجريبي لمحافظة الجيزة، كانت جمع معلومات وبيانات من عينة ضمّت 750 أسرة، أما الآن فتُجمع بيانات من 26 ألف أسرة تمثّل فئات الجمهورية جميعها. وحسب ما يقوله جهاز التعبئة والإحصاء، فإن هذا البحث يجمع متوسط أنماط الإنفاق الاستهلاكي للأسر والأفراد، وإنشاء قواعد معلومات لقياس الفقر بدرجاته، وكذلك متوسط دخل الأسر ومصادر هذا الدخل، لذلك هو مهم كمؤشر للدولة لتغطي احتياجات الفقراء وتدعمهم، وإعلانه هو حق للمواطن الذي يتحمّل الكثير من تبعات السياسة الاقتصادية التي تطبّق عليه بشكل مباشر.
بلغ معدل الفقر 29.7 في المئة، في آخر نسخة منشورة من بحث الدخل والإنفاق، أما قيمة خط الفـقر لعام 2019/2020 فبلغت 10 آلاف و279 جنيهاً، ما يعادل 210 دولارات للفرد سنوياً، (856 جنيهاً أو 17.4 دولار شهرياً) ، أي من يقلّ دخله عن هذا المبلغ في عام 2020 فهو فقير، بينما بلغت قيمة “خط الفقر المدقع” 6 آلاف و604 جنيهات (أو 135 دولاراً للفرد سنوياً). الملاحظ أن هذه الأرقام تعود الى ما قبل كورونا وحرب روسيا وأوكرانيا. فهل لا يزال الرقم كما هو؟ أم أن كثيرين نزلوا من درجة: فقراء يحصلون بالكاد على احتياجاتهم الأساسية، إلى ما تحت خط الفقر المدقع والذين يأكلون وجبة أو اثنتين في اليوم ويعيشون على الكفاف؟
إشادة ثم تعتيم
حين صدر بحث الدخل والإنفاق في عام 2020، احتفت وسائل الإعلام بأن نسبة الفقر تراجعت من 32.5 في المئة في عام 2018 لتصبح 29.7 في المئة للمرة الأولى منذ 20 عاماً، بينما تغافلت وسائل الإعلام نفسها عن تأخر إعلان نتائج البحث بعده بعامين. ولكن أثناء فاعليات المؤتمر العلمي الدولي السابع لاتحاد الإحصائيين العرب في القاهرة في أيار/ مايو 2023، سأل صحافي في موقع “الشروق” عن نتائج البحث، فأجاب رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء اللواء خيرت بركات، أن “نتائج بحث الدخل والإنفاق في 2022، ستُعلن خلال النصف الثاني من عام 2023″، مضيفاً أن “البحث يستغرق من أربعة إلى ستة أشهر، لتجهيز النتائج وإعلانها بمجرد الانتهاء من الإجراءات اللازمة”، ولكنها لم تعلن مطلقاً، بينما تم تقديمها للبنك الدولي، ما يعني أن الأرقام موجودة بالفعل لدى الحكومة وجهاز التعبئة العامة والإحصاء.
وسائل الإعلام أيضاً لم “تهتم” بإعلان البنك الدولي حول ارتفاع معدلات الفقر مرة أخرى إلى 32.5 في المئة في نيسان/ أبريل الماضي. وقال البنك في تقرير، إن الحكومة المصرية أوضحت له أن “معدل الفقر الوطنى لديها بلغ 32.5 في المئة، ضمن طلب قدمته للحصول على تمويل برنامج الإنتاج الزراعى المرن لتغيّر المناخ، بقيمة 250 مليون دولار”، موضحاً أن “التفاوتات المكانية لا تزال قائمة، بخاصة بين المناطق الريفية والحضرية، وأن نحو 66 في المئة من الفقراء يعيشون فى مناطق ريفية، مع وصول معدلات التضخم السنوى فيه إلى 42.6 في المئة، وهو أعلى من معدل التضخم على مستوى البلاد”.
وفى نهاية أيلول/ سبتمبر الماضي، كشف أحمد كمالي نائب وزير التخطيط، معلومة جديدة في البحث”السري”، قائلاً إن “التقديرات الأولية لخط الفقر الجديد في بحث الدخل والإنفاق 2021-2022، ارتفعت بنحو 63 في المئة لتصل إلى 1400 جنيه أو 28.5 دولار مقابل 856 جنيهاً، ما يعادل 17.4 دولار في مسح 2019-2020″، أي من يقل دخله الشهري عن 1400 جنيه فهو في فقر مدقع.
من هم محدودو الدخل؟
إذا عرفنا أن نسبة الفقراء ارتفعت مرة أخرى حسب ما قاله البنك الدولي، يعني أن الحكومة قدّمت لنا تعريفاً لمحدودي الدخل في أحد إعلاناتها، من دون أن تدري.
مؤخراً، طرحت وزارة الإسكان من خلال صندوق الإسكان الاجتماعي أكثر من 78 ألف وحدة سكنية، ضمن مبادرة سكن لكل المصريين، المرحلة الخامسة على مستوى الجمهورية. وبقراءة الإعلان المنشور لتوضيح تفاصيل التقديم والشروط والمواعيد، لفت انتباهنا أن المبادرة استهدفت خلال الإعلان: “منخفضي ومتوسطي الدخل” فمن هم هؤلاء؟
تم توضيح هذا الشرط للمتقدمين لامتلاك وحدات سكنية، في الإعلان نفسه، بأن منخفض الدخل هو الفرد الذي لا يزيد دخله السنوي عن 144 ألف جنيه ما يعادل 2938 دولاراً، أو 12 ألف جنيه/245 دولاراً شهرياً، ومتوسط الدخل الذي لا يزيد دخله السنوي عن 240 ألف جنيه/4900 دولار أو 20 ألف جنيه/408 دولارات شهرياً، بينما متوسط دخل الفرد سنوياً هو 17 ألف جنيه ما يعادل 347 دولاراً، وفقاً لأرقام بحث الدخل والإنفاق الأخير لعام 2020.
لا يزال التضخم يرتفع
في ميعاده الشهري، أعلن جهاز التعبئة العامة والإحصاء ارتفاع معدل التضخم الشهري لأسعار الوقود والغاز والكهرباء، بنسبة 7.2 في المئة مقارنة بالشهر السابق، أما معدل التضخم نفسه فقد سجل 26.3 في المئة.
وكانت الحكومة قد رفعت الشهر الماضي، أسعار بنود مختلفة من الوقود بنسب تصل إلى 17 في المئة، استجابة لمطالبات صندوق النقد الدولي، الذي ينتظر أن يتمم مراجعته الرابعة لاتفاق القرض المبرم مع مصر منذ 2022، ويسجل التضخم السنوي ارتفاعاً منذ ثلاثة أشهر، إذ سجل في أيلول/ سبتمبر الماضي 26 في المئة، بسبب زيادة أسعار الغذاء، مع تعهد الحكومة بتحرير أسعار الكهرباء التزاماً ببرنامجها الإصلاحي مع صندوق النقد.
وقال جهاز التعبئة والإحصاء، الأحد الماضي في بيانه، إن “أسعار مجموعة اللحوم والدواجن ارتفعت في تشرين الأول/ أكتوبر 3.3 في المئة، والأسماك والمأكولات البحرية 2.1 في المئة، مقارنة بالشهر السابق، لكن التضخم الشهري لتشرين الأول/ أكتوبر انخفض 1.5 في المئة مقارنة بـ 2.3 في المئة في أيلول/ سبتمبر. أما التضخم السنوي فقد سجل 26.3 في المئة مقارنة بتشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي الذي كان 38.5 في المئة.
في نيسان/ أبريل 2019، أشار البنك الدولي في إطار إعلانه تمديد استراتيجيته في مصر لمدة عامين، إلى أنه “على الرغم مما تحقق من نتائج مهمة في المجالات التالية، وهي: القدرة على تحمّل أعباء الديون، وإعادة توجيه الموارد القليلة للموازنة، إلى برامج اجتماعية جديدة تستهدف المواطنين الفقراء والأكثر احتياجاً، وسن تشريع مهم لدعم البيئة المواتية لأنشطة الأعمال، وتقليص العقبات البيروقراطية التي تحول دون ممارسة أنشطة الأعمال”.
لكن لا تزال هناك ثغرات، وحاجة إلى بذل مزيد من الجهود لتسريع الاحتواء الاقتصادي واستيعاب القوى العاملة المتنامية. فحوالى 60 في المئة من سكان مصر إما فقراء وإما عرضة للفقر، كما أن عدم المساواة آخذ في الازدياد. واقترب معدل الفقر الوطني من 30 في المئة عام 2015، ارتفاعاً من 24.3 في المئة عام 2010، كما ورد في إطار الشراكة. وهناك تباينات جغرافية مذهلة في معدلات الفقر، إذ تتراوح من 7 في المئة في محافظة بورسعيد إلى 66 في المئة في بعض محافظات الصعيد. علاوة على ذلك، أثّرت الإصلاحات الاقتصادية على الطبقة الوسطى، التي تواجه ارتفاع بعض تكاليف المعيشة كنتيجة.
كان هذا قبل تأثير الحظر الصحي وحرب روسيا وأوكرانيا اقتصادياً على مصر، حتى أن روسيا بدأت تتعافى من تداعيات الحرب، فمنذ أيام أعلن نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك، خلال مشاركته في المنتدى الاقتصادي الروسي، المنعقد في مدينة تشيليابينسك، أن نمو الاقتصاد الروسي سيبلغ في نهاية 2024، 3.9 في المئة، وبحلول العام 2027 سينمو بنسبة 13 في المئة مقارنة بالعام 2024، فما هو الوضع الحقيقي الآن؟ ومتى تُعلن الأرقام الرسمية للمواطنين الذين يدفعون هم فقط، فوائد قروض البنك الدولي؟.
إقرأوا أيضاً: