كأنها الآن.
أمشي في الشارع الخالي من مسجد محمد الأمين في وسط بيروت نزولاً صوب تمثال الشهداء. يجذبني صوت، كأني أعرفه، يؤدّي نشيداً ارتبط بالإسلاميين: “سوف نبقى هنا… سوف… سوف”.
لم أحفظ الكلمات يوماً، ولا الآن. لكن، في ذلك اليوم المرح من العام ٢٠١٢، كان الصوت الذي يغنّي النشيد بلا موسيقى، عذباً إلى درجة السحر، إلى درجة أن صمتاً سرى فوق اعتصامين متضادّين تماماً، الأول للشيخ أحمد الأسير وجماعته، والثاني لجماعات موالية لبشّار الأسد وبعثه. بين الاعتصامين أسلاك شائكة فاصلة، وقوى الأمن الداخلي، ووزير الداخلية حينها مروان شربل، بكامل لطفه ونحوله وتفاؤله بلبنان جديد، كلّه أغانٍ وعناقيد، يمشي على الأرض بين التجمّعين بخطى عصفور ودود، لا يريد إلا الحفاظ على سلمية التحرّكين، وتفادي حرب أهلية جديدة هنا الآن، والله يحمي ترابك يا لبنان.
يا لعذوبة الصوت. يجذبني صوبه وأُفاجأ، كما كلّ مرّة، أنه صوت فضل شاكر. خدعني فضل من جديد. يكون الراديو على إذاعة ما والأغاني اللبنانية العادية تلعب الواحدة تلو الأخرى، راغب علامة وإليسا ونجوى كرم والبقية الباقية، فجأة يأتي صوت حنون في واحدة من روائع صباح، أجفل وأفكّر للحظة قد يكون قبل أن انتبه إلى أنه، ما غيره، فضل شاكر.
الآن لا أتمالك نفسي من الابتسام، وفضل يغنّي لجمهور غريب في شكله عن ذاك الذي يقصد المطرب الحنون. لحى وجلابيب على مدّ العين والنظر، أو على الأقلّ على مدّ المساحة الصغيرة التي وقفوا وجلسوا فيها. بعيداً عنهم، في الخلف، منقّبات متّشحات بالسواد حتى رؤوس الأظفار، الملوّن الوحيد فيهن هو الموبايلات، يلتقطن بها الصور. وهو؛ فضل، قد خرج أخيراً من الخزانة، فحفّ الشارب وأرخى اللحية، ومع أنه يُنشد، إلا أن كلّ ما فيه، أو ما أراه أنا وأسمعه، هو أنه يردّد، بمتعة تامّة، “يانا يانا” على مدرّج جرش، والجمهور يتمايل معه، والنسوة يذبن في هذا الصوت الرائع.
الانطباع المرح الذي خلّفه ذاك اليوم في ذاكرتي، وكتبته لليوم التالي للجريدة، الغائبة منذ بداية ٢٠١٧، “السفير”، كان مردّه على الأرجح إلى رشاقة الوزير وابتسامته الوديعة التي تصلح لمسلسل لبناني خفيف، يؤدّي فيه دور مختار طيّب كلّ همّه إصلاح ذات البين، بين أهالٍ منقسمين في ضيعة رحبانية متخيّلة.
مظاهرة البعثيين بدورها لم تجافِ الكوميديا. هذه المجموعة من الذكور الكورال المدرسي، ينزلون من الباصات التي جلبتهم بانتظام، يحملون اللافتات التي وُزّعت عليهم بانتظام، يردّدون الهتافات بانتظام، ثم عندما يقرع جرس عروبة ما، ضدّ مؤامرة كونية ما، يعودون إلى الباصات بانتظام. هكذا، بكلّ ما في المشهد من كرتونية يمكن بسهولة استحضارها ذهنياًَ.
الأسير، الشيخ أحمد الأسير الحسيني، كان وجماعته حينها، أقرب إلى أبو سليم الطبل وفرقته، منهم إلى جماعة دينية متشدّدة شكّلت قافلة طويلة وهاجرت في الزمن، من الفتنة الكبرى أيّام أمّ المؤمنين سيدتنا عائشة، والخلفاء عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم وأرضاهم، إلى أيّامنا هذه، لتُصلح حال الأمّة وتشيل عنها الغمّة. الشيخ، بطول سيقانه وطول لحيته الفارعين، ولهجته الصيداوية، وأدائه المسرحي المبالغ في دراميته على المنبر، ثم راكباً درّاجة هوائية تكاد ركبتاه تحفّان بالإسفلت لصغر حجمها، ثم قافزاً كراقص باليه على ثلوج فاريا، وحوله الأخوات والإخوان يؤدّون جماعياً لوحة بحيرة البجع، هذا الشيخ لم يكن ليُؤخذ على محمل الجدّ، بل على العكس، كان يستجلب الهزل والضحك الكثيرين. الحالة كلّها كانت مضحكة، إلا فضل شاكر.
كان أحلى ما في فضل أنه شديد الخجل أمام الكاميرا، له فم يغني وليس له فم يحكي. خجل الفنّانين المرضي إزاء الظهور العامّ، يجعلهم من الهشاشة والضعف اللذين لا يمكن للجمهور إلا التعاطف معهم، وقبولهم كأنهم الشخص الأرقّ، والأكثر حاجة للدراية والاهتمام بين أبناء العائلة.
ما له فضل ولهذا الشيخ الهزلي؟ لماذا يفعل بنفسه ما يفعله بنفسه؟ كان السؤال شبه هاجس شخصي. أعني، ولنعترف، الصوت الحلو هو الهبة القصوى التي تمنحها الطبيعة للأكثر حظّاً من البشر، وقد نشلته موهبته من طفولة وشباب كنّا نعرف، في حينها، وقبل عقدين أو أكثر من مسلسل “يا غايب” على “شاهد”، أنها بائسة. كنّا نعرف أنه بدأ بالغناء في أعراس على أسطح مخيّم عين الحلوة، قبل أن يصير نجماً يتقدّم بخطى ثابتة، ليحتلّ الصدارة بين كبار مجايليه على مستوى العالم العربي من شرقه إلى أقصى غربه. ما الذي ساق نجماً واعداً مثله إلى السير خلف شخص بخفّة الأسير، استغلّ نجومية الفنّان حتى عصرها عصراً من أجل نجوميته الشخصيّة، الشيخية؟
كان أحلى ما في فضل أنه شديد الخجل أمام الكاميرا، له فم يغني وليس له فم يحكي. خجل الفنّانين المرضي إزاء الظهور العامّ، يجعلهم من الهشاشة والضعف اللذين لا يمكن للجمهور إلا التعاطف معهم، وقبولهم كأنهم الشخص الأرقّ، والأكثر حاجة للدراية والاهتمام بين أبناء العائلة. كذلك كانت وظلّت فيروز، وكذلك هو فضل. مغنٍ رقيق خجول بصوت عذب، لا شبيه له في تاريخ الغناء العربي، إلا ذاك الأيقوني عبد الحليم حافظ، يخرج فجأة في فيديو ركيك مصوّر بموبايل، مسلّحاً، فوق الدكّة، معلناً بغبطة لا مثيل لها مقتل “فطيستين”. ما هذا!
في حينها، وصل فضل شاكر إلى القعر. قعر برّره بتفصيل أساسي في وثائقي “يا غايب”، بأنه لم يقصد عسكريين من الجيش اللبناني بل من “سرايا المقاومة”، الميليشيا المتعدّدة الطوائف والأحزاب التي اخترعها “حزب الله” في حينه، لغاية سياسية في نفسه، كمساحة لإعادة تدوير كلّ من ليس في الهيكل الحزبي العسكري، لكنّه مع ذلك مناصر للخطّ، ويمكنه أن يُطلق النار داخلياً لغاية الحزب المحلّية نفسها. جائزة ترضية بحسب اليانصيب الوطني اللبناني المقاوم.
هل كان تبرير فضل في حينها، والآن، مهمّاً، أو يغيّر شيئاً في الفكرة الأصلية أنه لم يكن مضطرّاً إلى كلّ هذا من الأساس؟ سأقول إنه لم يكن مضطرّاً. كان يمكنه أن يمضي في الحياة الرمادية للنجم النموذجي، المثالي، ذاك المنفصل تماماً عن الواقع، لا يعلم ما الذي يجري حوله، في عقر داره اللبناني السوري، أو أنه يتجاهل ما الذي يحدث، ولا يفعل إلا أن يغني “يانا يانا” بأحلى أسلوب ممكن، ويوزّع ابتساماته المصطنعة لجمهوره، ثم يتوارى عن الأنظار حتى الحفل التالي.
في “يا غايب” نرى طفلاً كبر قبل أوانه، وهذا؛ من دون منازع، أقسى ما يحدث لطفل. أن يكون في فقر مدقع، يعيش في ميتم لأن والديه حيّان يُرزقان غير قادرين على تأمين حاجيّاته الأساسية، مأكله وملبسه ومدرسته. عائلته، البديهيّات، الألف باء، كلّ ما عاشه فضل شاكر بعد أخذه إلى الميتم، وهو ليس يتيماً، بُني على لحظة اليتم الغريبة تلك. هناك انكسر الطفل، وهناك سيظلّ انكساره.
فضل بقي عالقاً في اللحظة الخرافية. في أن أمّه وأباه تركاه في مكان بارد موحش وحيداً، طفلاً، وأخوته الباقون في دفء بيتهم، وهو على الأرجح أصغرهم. كلّ ما بناه فضل في حياته، كان على هذا الحجر الصلد من الإحساس العميق بقلّة الأمان والغبن، بغربته عن العالم وغربة العالم عنه. الشهرة والنجومية والمال لم تخرجه من غربته، ولما ظنّ أن السماء ستنقذه، انجرف في تديّن ساذج قاده إلى شيخ أقرب إلى زعيم جماعة Cult، منه إلى رجل دين أو سياسي. إيمان فضل المطلق بقضية كبرى لردم فراغ في داخله لا يُردم، بهذه الطريقة. فضل ليس أوّل نجم يحطّم نفسه شرّ تحطيم وهو في مجده. لا تنتهي حكايات النجوم الغربيين الذين ذهبوا إلى حتفهم بالمخدرات أو الكحول أوالمسكّنات أو الشراهة. فضل ذهب لنصرة قضيّة من باب عاطفي وتطرّف في نصرتها حتى أودت به، وإن كان نجا بحياته منها.
الوثائقي كان بوحاً طويلاً، كأن فضل جالس على كنبة معالج نفسي. بوح تأخّر طويلاً، من أيّام مكوثه في الميتم، وفي طول الحرب الأهلية وعرضها. بوح كان من سوء حظّ فضل أن شيخاً أخرق كالأسير، هو الذي استمع إليه، وحاول مداواته بطرقه الغريبة، بدلاً من اختصاصي نفسي.
لماذا فعل بنفسه ما فعله بنفسه؟ لقد حكى الحكاية كلّها أخيراً.
إقرأوا أيضاً:











