“بدون النسيان، لا يمكن أن تكون هناك أي سعادة أو مستقبل”
هرب بشار الأسد مؤمنّاً نفسه مالياً، وصعد إلى الطائرة من دون إبلاغ أقرب المقربين إليه، متجاهلاً ومهملاً ما يرتبط بجوانبه الشخصية العميقة، مثل صوره الشخصية وصور طفولته وصباه، بالإضافة إلى صور والديه وأصدقائه. هذا النسيان، وإن بدا عفوياً، يحمل أبعاداً نفسية ويعكس قراراً قصده الأسد من دون أن يشعر. بشار الأسد، بلا شك، ينتمي إلى عائلة منفصلة عاطفياً، حيث تشير التقارير إلى وجود صراعات داخلية مريرة: أخوان حاولا قتل حبيب أختهما الذي أصبح زوجها؛ آصف شوكت، وأخوان اتسم أحدهما بالقسوة المفرطة والآخر، وفق التقارير، اشتهر بسلوكيات أقرب للنيكروفيلية، وتوثيقه مع قواته صوراً لجثث صيدنايا خلال الإضراب بكاميرات وحركات باردة أمام الجثث. أما الأب، فغالباً ما كان ناقداً وسلبياً تجاهه، في حين وُصفت الأم ببرودها العاطفي.
هذا الإرث العاطفي المثقل هو ما هرب منه بشار الأسد. نسيانه ألبوم الصور ليس مجرد سهو، بل يعبر على الأرجح عن انفصال عاطفي عن العائلة ومحاولة واعية لقطع صلاته بذاكرته الشخصية. إنه فعل نفسي توكيدي ينطوي على رسالة مفادها أن تاريخ العائلة لا يعنيه، وأن العائلة كقيمة لا تحمل أي أهمية في نظره. يظهر هذا النسيان أيضاً أن بشار يرى العائلة كعبء رمزي، كرمز سلبي يرتبط بالفشل أو القيد بدلاً من الدعم، مما يعكس رفض القيم أو العواطف المتصلة بالتاريخ الشخصي.
من منظور فرويد، يمكن تفسير نسيان ألبوم الصور كعملية نفسية معقدة تجمع بين الوعي واللاوعي. على مستوى اللاواعي، يعكس النسيان محاولة لقمع ذكريات الطفولة والشباب، التي قد تُظهر تناقضاً مع صورته الحالية كرئيس قوي ومسيطر. الألبوم، بما يحمله من رمزية إنسانية وعاطفية، يُعتبر تهديداً لهوية السلطة التي سعى إلى ترسيخها. أما على المستوى الواعي، فإن ترك الألبوم قد يكون قراراً مقصوداً وسابقاً بمدة طويلة لفعل الهروب، حيث يُعبر عن رغبة واضحة في التخلص من الماضي والانفصال عن أي إرث شخصي يُضعف صورته التي وصل إليها.

بينما يوجّه الكثيرون أصابع الاتهام إليه بإهمال الطائفة العلوية، إلا أن هذا التحليل يشير إلى أن إهماله الأساسي يتجاوز الطائفة ليشمل كل ما هو خارج ذاته بدءاً من عائلته. نسيان الألبوم لم يكن مجرد غفلة، بل كان فعلاً يهدف إلى خلع ذاكرته الرجعية وتدميرها، في محاولة لإعادة تشكيل نفسه كشخصية خالية من أي ارتباط عاطفي أو إنساني بماضيه، وترسيخ صورة الحاضر كرمز مطلق للسلطة.
وفقاً لفكرة نيتشه “بدون النسيان، لا يمكن أن تكون هناك أي سعادة أو مستقبل”، فإن نسيان بشار الأسد يمثّل محاولة لتجاوز ذاته، لكنه يفعل ذلك بطريقة تعكس نسياناً سلبياً يعبر عن ضعف وإنكار، وليس نسياناً حيوياً خلاقاً يُعيد تشكيل الذات بقوة. إنه يواجه ذاته القديمة بضعف، رامياً بها كعبء لا يستطيع تحمله، في هروب من الماضي بدلاً من مواجهته بشجاعة لإعادة بناء ذاته على أسس جديدة.
نسيان العهود والالتزامات هو أخطر أشكال النسيان، لأنه يُعيد المجتمع إلى حالة الفوضى، حيث يصبح العقد الاجتماعي بلا معنى. هوبز
فرح الناس بانكشاف صور العائلة الأسدية، إذ كشفت الصور عن التعرية الرمزية لجوانب من حياة خاصة، كانت تُحاط بهالة من المثالية والهيمنة. ظهرت العائلة في مواقف بسيطة وساذجة نعيشها جميعاً وقد نصورها، بين صور مريبة وأخرى تُظهرهم كبشر عاديين أو حتى بُلهاء. ما كان يُنظر إليه كقدسية رمزية في شخصية حافظ الأسد، الذي صُوِّر لعقود كـ”الولي الصالح”، بدا هشاً وغير رسمي، حتى إنه ظهر مرتدياً البيجاما. أما النرجسية المنهارة للعائلة، فقد تحولت إلى مادة للسخرية، مما وفر شعوراً جماعياً بالعلاج النفسي، للناس الذين رأوا في ذلك فرصة لتفريغ قهرهم.
ظهرت صور بشار الأسد في أوضاع يومية عادية، مثل ارتدائه الكيلوت أو لحظات لعبه، مما فكك الصورة الرسمية التي سعى النظام لترسيخها كرمز للقوة. تداول الناس هذه الصور على نطاق واسع مصحوبة بالسخرية، مما حولها إلى ذاكرة ساخرة جماعية أضعفت الرمز السلطوي للعائلة وأعادت صياغة العلاقة بين الشعب والسلطة.
في سياق آخر، ظهر اللباس الداخلي لعدد من الزعماء العالميين والعرب في صور تعكس رغبة في تعزيز صورة عفوية، تُكسر فيها الهالة الرسمية بين الزعيم وشعبه. هذه الصور تمزج بين البساطة الظاهرة والبُعد النرجسي، حيث تُقدم القائد كإنسان عادي، لكنها تُمهد لاستعادة الهيبة من خلال صور أخرى تُبرز القوة، مثل ارتدائه البدلة العسكرية. السادات، على سبيل المثال، جمع بين البساطة الأوروبية والرمزية الوطنية الفرعونية التي تعكس تاريخاً وهيبة خاصة. أما بشار الأسد، فقد حافظ على صورته بالبدلة العسكرية القديمة من دون تحديث، بينما حاول الحفاظ على صورة الرئيس الشاب من خلال تعديلات تجميلية ومعايرة نفسية لنفسه.
لكن صورة الكيلوت تحولت إلى مادة سخرية انتقامية هائلة، جسدت من خلالها الجماهير قهرها ورغبتها في تفكيك الصورة الرمزية، التي حاول الأسد ترسيخها لعقود. في لحظة واحدة، تحول الكيلوت إلى رمز ساخر يعيد تشكيل الذاكرة الجماعية، كاشفاً ازدواجية النظام بين المثالية المصطنعة والهشاشة الفعلية. لقد أنهى كيلوت بشار العقد الاجتماعي السوري، إذ تفككت الصورة التي ترمز للهيبة والسيطرة، وتفسخت بشكل لا رجعة فيه.
هذه الصورة، التي أصبحت رمزاً للمرحلة الأسدية، رافقتها كلمات ساخرة مثل “جيش الشحاطة”، “جيش الرشى”، و”جيش الكبتاغون”، مما جسد تحولاً جذرياً في السرديات الشعبية.
هذا الاختلاف الحاد بين رمزية الهيبة المصطنعة والسخرية الحديثة شكّل صدمة بصرية، جعلت الكيلوت أداة لتجسيد النهاية الكارثية للهيبة التي سعى الأسد لترسيخها طوال 24 عاماً. أصبح نسيان صور العائلة ذاكرة لفضيحة جماعية في سوريا، دخلت في نسيج التاريخ الشعبي كسرديات تعكس السخرية من السلطة ورموزها. في هذا المناخ، بدا أن كل شيء يجب أن يتغير، حتى السوريون أنفسهم لم يكونوا مستعدين لإبدال بشار الأسد فيزيائياً، بل لجأوا إلى تفكيكه رمزياً من خلال استعراض ساخر لصورته وصور عائلته. ورغم ذلك، فإن التفكك الرمزي لم يكن كافياً لتحقيق عدالة حقيقية أو تهدئة الرغبة في القصاص.

النسيان هو غفلة عن الوجود، حيث يغيب الإنسان عن ذاته الأصلية، وينغمس في السطحية التي يفرضها الهم اليومي.
هايدغر
الأكثر غرابة كان نسيان أسماء الأسد لهويتها السورية الشخصية الورقية، حيث لم تملك سوريا في نظرها سوى هوية السلطة وسردياتها، ولم تُتح لها فرصة لتطوير هوية وطنية حقيقية. انعكس ذلك في انفصام دوراني، حيث تعيش أسماء تناقضاً عميقاً بين أدوارها الممكنة، كزوجة للرئيس من جهة، وبين رمزية وطنية مفقودة من جهة أخرى، وسيدة الياسمين وضحية من جهة أخرى. كان هذا التناقض بمثابة تنصل ضمني من هويتها الورقية ورمزيتها، وتخلٍ عن الشعور الحقيقي بالانتماء إلى سوريا كشعب وأرض، مقابل الانتماء إلى السلطة ككيان مجرّد.
النسيان هنا ليس مجرد فقدان للذاكرة، بل غفلة عن الوجود الأصيل، حيث تتلاشى العلاقة مع الجذور الحقيقية للهوية لصالح سرديات سطحية فرضها الهم اليومي للسلطة. تتحول الهوية من تذكّر عميق يربط الماضي بالحاضر والمستقبل إلى قناع يخفي اغتراباً عن الذات وعن الأرض. سوريا، في هذا السياق، لم تكن شعباً وأرضاً، بل رمز فارغ للهيمنة، مما جعلها لا تحمل الهوية الوطنية أبداً، بل أن تنساها في المنزل فلم تتسع حقائبهاً لهوية لا يتجاوز حجمها الخمسة سنتيمترات.
خضع السوريون لكل كوارث الامحاء في ذاكرتهم، فقدوا في القصف بيوتهم وحاراتهم وأماكن صلاتهم، بالإضافة إلى هوياتهم الشخصية وصورهم ومقاطع الفيديو التي وثقت حياتهم. لكنهم انتقلوا نفسياً إلى مرحلة أخرى بعد يوم من هروب الأسد، عندما كشفت صور العائلة عن انهدام السلطة التي هيمنت لعقود. هوية السوريين الممزقة، التي تحطمت بفعل الحرب، ترممت بطرق غير متوقعة، إذ إن من حرمهم الصور والذكريات أصبح مكشوفاً ومتفسخاً عبر صوره وذكرياته. تحول الأسد من رمز قمعي إلى مُنتهك بصدمة بصرية، لا بالحرق أو التلف.
حجم التأويلات لما شوهد في القصر كان مفتوحاً: رسائل شخصية من بشرى إلى أخيها باسل، صور فكاهية للأصدقاء، أو فيديوهات العرس للرئيس في بيت مزدحم وصغير أشبه ببيت مافيا. هذه التفاصيل مزقت العائلة الأسدية وأنهتها رمزياً، وجعلت السوريين يرون بوضوح هشاشة النظام الذي حاول تصوير نفسه ككيان لا يُقهر.
في خلقه لذاته وفي نسيانه لماضيه، كشف بشار الأسد جوانب كثيرة من شخصيته، وليس آخرها كونه رئيساً يكره عائلته، وزوجة تغسل يديها من هويتها الشخصية. أي عائلة مفككة تلك؟ لقد علمتنا هذه الصور أن السلطة التي بدت متماسكة لعقود كانت، في حقيقتها، هشة وعاجزة عن مواجهة كشف بسيط لحقيقتها الداخلية.
إقرأوا أيضاً: