fbpx

لماذا يأكل الصينيون الحشرات والحيوانات البرية؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قد يكون إقبال الصينيين على أكل القوارض البرية والحشرات الغريبة تركّز في المجاعات التي عاشتها البلاد بسبب الحروب.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

وصف الصينيون منذ القدم “براز الخفافيش” بأنه “الحجر الكريم المضيء في ظلام الليل”. تحظى الخفافيش في التاريخ والحاضر الصيني بمكانة خاصة ومميزة، وتعد رمزاً للحياة، ومصدراً للنعم الخمس ففي كل بيت صيني أيقونة لخمسة خفافيش متشابكة، تجلب بحسب معتقداتهم المتوارثة عبر الأجيال: الثروة، الصحة، طول العمر، الفضيلة، الصفاء.

تعود جذور حب تناول الحيوانات البرية في الصين إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وكان الفيلسوف الصيني الشهير مينسيوس، شكا مرات عدة في مقالاته التي نشرها آنذاك من صعوبة اختياره وجبته المفضلة قائلاً: “أنا احب أكل السمك، كما أنني مولع بأكل اخفاف الدببة. ولكن إذا لم أستطع الحصول على الاثنين معاً، فسأختار أخفاف الدببة”. وتعد أخفاف الدببة من الأكلات المفضلة في التقاليد الصينية، وهي أيضاً واحدة من 8 أطعمة أخرى يصفها الأطباء علاجاً لبعض الأمراض في الطب الصيني التقليدي منذ آلاف السنين.

حملت هذه الوجبات من الأطعمة المعدة من لحوم القوارض أسماء جذابة وواعدة لتشجيع الناس على تناولها في حياتهم اليومية. ووفقاً لدراسات خاصة عن أصول الطعام الصيني، فإن عشيرة “تجورشين” التي استوطنت في منطقة منشوريا في تلك الفترة هي التي أدخلت لحوم القوارض إلى المطبخ الصيني. وكانت تحكم هذه المنطقة التي عرفت باسم مملكة تشينغ إمبراطورية تشينغ العظيمة، وكانت آخر ممالك الصين، التي حكمت من 1644 وحتى 1912، مع محاولة استعادة فاشلة وقصيرة للحكم عام 1917. وكانت سبقتها في الحكم أسرة مينغ وجاءت بعدها جمهورية الصين. 

تسود في أوساط الصينيين عبر التاريخ فلسفة خاصة عن الغذاء والصحة، ولهذا فإن الشعوب الصينية المتعددة تربط بين الأطعمة والوجبات الغذائية والطب الصيني التقليدي. والصينيون من مختلف القوميات والأعراق يولون بحسب بعض الباحثين اهتماماً خاصاً بتناول الخضروات، ويقللون من أكل اللحوم والأطعمة الغنية بالدهون، التي تسبب صعوبة في الهضم، ويبتعدون من تناول السكريات، لكونها تستهلك من طاقة الهضم، ويحرصون خلال الوجبات الغذائية اليومية على شرب الكثير من الشاي الأخضر الذي يؤكدون أنه ينظف الجسم من السموم المتراكمة.

تحظى الخفافيش في التاريخ والحاضر الصيني بمكانة خاصة ومميزة، وتعد رمزاً للحياة.

غالباً ما تسمع الكثير من الناس وهم يرددون منذ وقت طويل وبنوع من السخرية والدعابة أن الصينيين يأكلون كل الكائنات الحية التي تمشي فوق الأرض أو تطير في الجو أو تعوم في الماء، وهذا الأمر يشمل الحيوانات والنباتات والحشرات، وكل شيء حرفياً. وكان موقع “دويتشه فيلله” الألماني نقل عن صحيفة (بيلد) نكتة يتداولها الألمان وهي أن سائحاً صينياً عاد إلى بلده بعد زيارة إلى ألمانيا مندهشاً ليخبر رفاقه في العمل أنه وجد أنواعاً كثيرة من علب اللحوم والأكياس الكبيرة التي عليها صور وقطط وكلاب في محلات السوبر الماركت في ألمانيا، ولكنه أثار سخريتهم لأنه لم يكتشف أنه كان في الجزء المخصص لأطعمة الحيوانات الأليفة.

ينفي الكثير من الصينيين المعلومات التي تروج في وسائل التواصل الاجتماعي والميديا حول العالم عن أنهم الوحيدون في العالم الذين يتناولون لحوم الكلاب والقطط، ويقولون إن الكثير من الشعوب الآسيوية تتناول لحوم الكلاب والقطط وفي مقدمتهم الكوريون والفييتناميون ويستدركون بأن الكلاب والقطط ليست ضمن وجبات الطعام في كل المقاطعات في البلاد.

القوارض البرية الملاذ في المجاعات

يرى الكثير من الباحثين أن إقبال الصينيين على أكل القوارض البرية والحشرات الغريبة تركّز في المجاعات التي عاشتها البلاد بسبب الحرب مع اليابان خلال عام 1894، والتي استمرت حتى عام 1895. وكذلك الحرب الأهلية الصينية، من دون تجاهل المجاعة التي حصلت بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949 والتي استمرت لثلاث سنوات متتالية. وكانت البداية الموثقة بحسب هؤلاء لحالات أكل شاذة عن طبيعة البشر عام 108 قبل الميلاد، وتواصلت زيادتها بنسب متفاوتة حتى عام 1911، إذ وقعت في تلك الفترة 1828 مجاعة في اماكن مختلفة من الصين، في غالبيتها كانت محصورة في مناطق محددة وليس على نطاق البلاد ككل. إلا أن حدوث هذه المجاعات بصورة كثيرة، أدى إلى أزمات كبيرة في الموارد الغذائية تسببت في حالات موت جماعي، ما دفع بعض المقاطعات إلى اللجوء إلى الحيوانات البرية والحشرات والزواحف المختلفة. ومن ثم وبحكم العادة وتنامي الإمكانات المادية، تحولت إلى تقليد اجتماعي بخاصة مع الزيادات الهائلة في أعداد السكان التي قادت بدورها إلى بروز الاطباق المختلفة المرتبطة بالموروث الاجتماعي والطب الصيني التقليدي، فضلاً عن أن تناول الحيوانات البرية أصبح يعد مؤشراً على المكانة الاجتماعية والرفاه والثروة. 

والمثير للاستغراب أن الصينيين يصرون على تناول هذه الأطعمة الشاذة، على رغم بحوث علمية وطبية وبيولوجية أثبتت بالأدلة والبراهين العلمية أنها تتسبب في أمراض فايروسية قاتلة، وهو تقليد أو بالأحرى اعتقاد ترسخ خلال عقود طويلة في اذهانهم بأن هذه الكائنات أنقذتهم من أهوال المجاعات التي عانت منها البلاد على مر عقود، ولهذا فهم يتجاهلون الانتقادات والدعوات إلى التوقف عن هذا الفعل. ويرى باحثون أن هناك اعتقاداً سائداً في ذهنية المواطن الصيني بأن حياته لن تكون سليمة وخالية من دون تلك الوجبات، إضافة إلى اعتقاد راسخ عبر الأجيال بأن ذلك الطريق الوحيد للبقاء والاستمرار في الحياة، وهذا كله تم توثيقه في كتاب “مجاعة ماو الكبرى” الفائز بجائزة “صامويل جونسون”.

علاقة أسطورية بين المطبخ الصيني والفايروسات

العلاقة الأسطورية بين الطعام الصيني والمرض ليست جديدة ولا ترتبط بفايروس “كورونا” وحسب، فعام 1968 كتب الدكتور روبرت هو مان كووك رسالة إلى مجلة “نيو إنغلاند” الطبية وصف فيها بطريقة قصصية سلسلة من الأعراض المرضية التي ظهرت عليه بعد تناوله الطعام الصيني، ومنذ ذلك الوقت بدأ تعبير متلازمة المطعم الصيني الانتشار على نطاق واسع. وعام 1993 دخل هذا المصطلح قاموس ويبستر. إلا أن صحيفة “الإندبندنت” العربية أشارت إلى أن تحقيقاً استقصائياً كان أعدّه الصحافي مايكل بليندغ كشف أن الدكتور مان كووك الذي وقع على الرسالة التي نشرتها “نيو إنغلاند” لا وجود له، إنما هو اسم مستعار استخدمه جراح العظام هوارد ستيل، الذي اعترف لاحقاً بأن الرسالة كانت مجرد خدعة كتبها للفوز برهان مع زملاء له، وبأنه حاول التكفير عن هذا الذنب، إذ اتصل بمحرر المجلة فرانز انغلفنغر وأقر له بالكذبة، ولكن الأخير لم يتخذ أي إجراء بتنبيه قراء المجلة ومتابعيها بذلك، واختار الصمت ربما لإنقاذ نفسه ومجلته من الإحراج ومن خسارة صدقيتها العلمية.

تناول الحيوانات البرية أصبح يعد مؤشراً على المكانة الاجتماعية والرفاه والثروة. 

إلا أن هذه الخدعة غير البريئة كشفت التطورات اللاحقة عن صحتها عندما تبين للعلماء أن العلاقة بين الحيوانات البرية والفايروسات صحيحة، وان الطبيب الذي قام بمزحته لم يكن يعلم بذلك، فلقد جاءت الدراسات العلمية والطبية التي قام بها كبار العلماء والباحثين في العالم لتكشف حقيقة العلاقة بين انتشار الفايروسات القاتلة خلال العقود الأخيرة بالمطبخ الصيني، والحيوانات البرية والحشرات التي تباع في الاسواق الصينية في انحاء الصين، والتي تعد الآن الحاضنة والمصدر الأساسي للأمراض الفايروسية الجديدة. وفي تقرير أعده ستيفن لي مايرز لصحيفة “نيويورك تايمز”، قال إن السوق العادي في الصين يحتوي على محلات لبيع الخضروات والفواكه ولحم البقر والخنزير والخرفان ودجاج منتوف الريش والسلطعون الحي والسمك الذي يسبح في الصهاريج. كما تباع في أسواق خاصة قوارض برية مثل الثعابين والسلاحف وسيكادا والخنازير البرية وجرذان الخيزران والغرير والقنافذ. وتبيع أسواق أخرى حيوانات مفترسة مثل القطط الآسيوية والذئاب الصغيرة. واشار إلى أن الاسواق هي أهم مظهر للحياة في المدن الصينية، وأصبحت لمرات كثيرة ومنذ أكثر من عقدين مصدراً لأوبئة أثارت الخوف وأتعبت بيروقراطية الحزب الشيوعي. وكشفت عن المخاطر الوبائية التي يمكن أن تنتشر من الأماكن التي تمتزج فيها الحياة البرية مع البشر. وقال العالم البيولوجي ونائب رئيس قسم البحوث في “إيكوهيلث ألايانس” كيفن جي اوليفال، وهي منظمة غير ربحية متخصصة بمتابعة انتشار الأوبئة، “نشاهد ظهور أمراض جديدة لم تمر على الناس من قبل”. وعلى رغم عدم تحديد الأسباب ومسار المرض ومنشئه، إلا أن المسؤولين الحكوميين والباحثين العلميين في الغرب رأوا أن الطبيعة المعدية تتشابه بقدر عال مع انتشار وباء “سارس” من الصين أو أعراض ضيق التنفس الحاد الذي ظهر عام 2002 وقتل 800 شخص وأصاب آلافاً حول العالم.

الغابات والاستثمار في المزارع الاصطناعية

وفقاً لموقع “ذا كونفيرسيشن” الفرنسي فإن ظهور فايروس “كورونا” المستجد يسلط الضوء على المخاطر التي يُمكن أن تمثلها الحيوانات على البشر، باعتبارها مصدراً للفايروسات الجديدة. وأشار إلى أن “فايروس كورونا المتسبب في المتلازمة التنفسية الحادة الشديدة النوع 2″، مرتبط بـ”السوق الرطب” لتجارة الحيوانات البرية بمدينة ووهان في الصين، على رغم أنه ليس مؤكداً في أي حال من الأحوال أن هذا هو مصدر النسخة البشرية من الفايروس، ولكن تم تحديد الخفافيش على أنها الحيوانات التي تحمل النوعية الأكثر مطابقة لهذا الفايروس، ومع ذلك، لسنا متأكدين بعد ما إذا كان الخفاش هو المصدر المباشر لفايروس كوفيد 19.

يكاد يجمع علماء الانتربولوجيا والسوسيولوجيا على فكرة أن الصناعات تساهم في تغيير الموائل الطبيعية، ويقوم الناس بتهديم منظومات البيئة ويقتربون أكثر فأكثر من مصادر الأمراض الفايروسية. وتولي معاهد البحوث الانتروبولوجية أهمية خاصة لدراسة العلاقة بين الصناعة أو الزراعة البيولوجية وانتشار الأوبئة الفايروسية. وبحسب الخبيرة في العلوم الانتربولوجية والأستاذة في جامعة أوروبا الوسطى جانا تسونيفا، إن “العلماء الذين يدرسون فايروس كورونا ينفون بشكل قاطع إمكان صنعه أو تركيبه في المختبرات السرية”. وقالت تسونيفا: “توجد أنواع كثيرة من الفايروسات في الطبيعة وغالبيتها ما زالت غير معروفة من العلماء، ولهذا عندما تنتشر عدوى بسرعة فائقة وتتسبب في موت الالاف من الناس، فإن أول رد فعل سريع للناس هو رد المرض إلى عالم شرير قادر على أن يتحكم بكل شيء”. وتضيف: “للأسف حتى الآن وبسبب طبيعة الفايروسات وتكوينها بسلالاتها المختلفة لم يتمكن العلماء من إيجاد وسيلة مثل المضادات الحيوية التي تقضي على أنواع مختلفة من الباكتيريا، وتعتبر اللقاحات السلاح الأقوى ضد الفايروسات ولكن العلم لم يكتشف لقاحاً يمكن استخدامه كعلاج وقائي ضد كل أنواع الفايروسات”.

إن الفايروسات كما تشير الدكتورة تسونيفا متقدمة خطوة وربما خطوات على العلم، ولهذا فهي تتيح المجالات لمروجي نظريات المؤامرة والرؤى الخيالية، ولكن لا يمكن تجاهل حقيقة العلاقة المتبادلة المعقدة بين الصناعات الغذائية المعاصرة والاختلالات التي تسببها للطبيعة والمناخ.

يتضح من الدراسات والبحوث الانتروبولوجية حول الرابطة الوثيقة بين الفايروسات والحيوانات البرية، أنه في الفترة ما بعد الأزمة المالية والاقتصادية التي حدثت في الولايات المتحدة وأوروبا عام 2008، سارعت البنوك الاستثمارية الأميركية والأوروبية إلى ضخ مليارات الدولارات في قطاع تربية الحيوانات في الصين، الذي كان يشهد نمواً وتطوراً منذ أواسط التسعينات. هذا أدى بدوره إلى اضطرار المزارعين ومربي الحيوانات الصغار إلى التوجه إلى الغابات للعمل، وذلك لانعدام قدرتهم على منافسة الشركات الكبرى. وفي الغابات تنتشر الخفافيش بكثرة بأمراضها وفايروساتها التاجية المتنوعة. وقالت تسونيفا، إن “آلاف المزارعين والرعاة أمام ضغوط اللاعبين الكبار تحولوا إلى العمل في صيد الحيوانات البرية، وبيعها في الأسواق، ليس هذا فقط، بل بدأت الشركات الكبرى هي الأخرى اقتحام الغابات النظيفة وغير الملوثة، وهي عملية قادت في نهاية المطاف إلى قيام البشر بنقل الفايروسات ونشرها، مثلما حصل مع عدوى ايبولا المميتة”.

 تدمير الغابات الطبيعية وزيت النخيل

إن عمليات ازالة الغابات في دول غرب أفريقيا حدثت بسبب الطلب المتزايد على زيت النخيل، المستخدم في كل شيء من السمن الصناعي النباتي إلى الشامبو. وكانت 4 دول في أفريقيا ضمن قائمة تضم 10 دول تسارع معدل فقدان الأشجار فيها إلى أقصى درجة. وعلى الصعيد العالمي، أظهرت صور الأقمار الصناعية التي نشرتها المنظمة العالمية لمراقبة الغابات أن 18 مليون هكتار فُقدت العام الماضي لأسباب من صنع الإنسان وأخرى طبيعية. وقال الباحثون الذين حللوا البيانات في معهد الموارد العالمية بالولايات المتحدة إنهم فوجئوا بما اكتشف في غرب أفريقيا. ومن بين الدول العشر في القائمة المذكورة سيراليون وغينيا وبيساو وليبيريا ومدغشقر التي خسرت العام الماضي 2 في المئة من مساحتها الكلية للغابات في الزراعة والتعدين وصناعة الأخشاب.

وقد أظهرت بيانات المعهد أن فقدان الأشجار لم يعد مشكلة قاصرة على البرازيل وإندونيسيا، بل تعداهما إلى البلدان الأصغر التي عادة ما تحصل على اهتمام أقل بكثير من الجماعات المدافعة عن البيئة. ويشير تحليل معهد الموارد العالمية إلى أن النمو السريع لصناعة زيت النخيل هو أحد أكبر العوامل المساهمة في التغيير. وعلى رغم أن زيت النخيل كان ينتج على نطاق صغير في المنطقة لسنوات عدة، إلا أن الحكومات الآن تبيع مساحات شاسعة من الأراضي لشركات القطاع الخاص التي تتطلع إلى الاستفادة من الطب المتزايد عليه. وأكدت تسونيفا أن “هذه العملية جذبت خفافيش الفاكهة باتجاه المزارع الكبرى التي بدأت تضخ فايروساتها للناس، كما أن استنزاف التنوع البيولوجي هو الذي يدعم الحياة على كوكب الارض، ولهذا فإن خسارة التنوع البيولوجي يمكن أن تكون لها آثار مهمة ومباشرة على صحة الإنسان إذا أصبحت خدمات النُظم الإيكولوجية غير كافية لتلبية الاحتياجات الاجتماعية، وانعدامه يحمي الفايروسات ويحررها من تعقيدات منظومات البيئة. وبينت تسونيفا أن “علماء الانثربولوجيا يساعدوننا على فهم أفضل للأوبئة والجوائح كالحالية، كونهم يدرسون ويبحثون بعمق في العلاقة المتبادلة بين البشر والطبيعة”.

 في حملة على منصات التواصل الإجتماعي دعت إلى تغيير المعتقدات الراسخة في المجتمعات الصينية وإبعادها من تناول القوارض البرية، وجذبت إليها 45 مليون مشاهد، تحت “هاشتاغ”، “ارفضوا لحوم الصيد”، وقالت مقدمة البرامج التلفزيونية في مدينة نانجينغ، جنوب الصين، جين سيشن: “إن تناول لحوم الصيد لن يشفي من العقم ولا يشفي من الأمراض بل يجعلك وعائلتك والناس مرضى”. ونبهت إلى أن “من يتناول لحوم الحيوانات المفترسة هو مريض في عقله ويريد الظهور واستعراض ثروته”. ودعا 19 باحثاً علمياً صينياً الحكومة إلى عمل المزيد لتنظيم التجارة، وطلبوا من الناس التوقف عن أكل الحيوانات المفترسة والبرية. ودعت “جمعية حماية الحياة البرية في نيويورك” إلى حظر دولي على بيع الحيوانات البرية بخاصة في الأسواق الصينية، مشيرة إلى أن الوباء الجديد يثبت خطرها على الصحة.

شهدت عملية صيد لحوم القوارض البرية وتصنيعها أو بيعها وهي حية رواجاً كبيراً خلال العقود الأخيرة، وتحولت إلى تجارة مربحة تدر المزيد من الأرباح.

تعرف السلطة الشيوعية الحاكمة في بكين أن إشكالية تناول الحيوانات البرية في البلاد لا ترتبط بالعادات والتقاليد الثقافية والمعتقدات والخرافات فقط، بل أيضا بمافيا لها أضلع في الحزب الحاكم وقيادات فاسدة في الدولة ومؤسساتها تتاجر بالقوارض البرية على مستوى عالمي، وتتوافر معلومات عن شركات ورجال أعمال كبار يتولون الاتجار بهذه الحيوانات، ولهم نفوذ كبير ولوبيات ضغط كبيرة داخل الحزب والسلطة. ويقول الدكتور بيتر لي، خبير الحياة البرية الصيني، إن العاملين في تلك الصناعة أقنعوا قيادة بكين بأنها ستساهم في التوظيف وتنقذ الأرواح وتحمي الطبيعة، لافتاً إلى أن الدولة بكاملها كانت رهينة في يد المجموعة المسيطرة على هذه السوق والصناعة. يروي البروفيسورلي في جامعة هيوستن أنه عندما كان طفلاً في الصين قبل أن يهاجر إلى الولايات المتحدة، عاش في مقاطعة تشنجيانغ الواقعة في شرق البلاد، “كان الناس يتناولون الضفادع والسلاحف والقواقع مرات عدة في السنة، وكانت تجمع من الحقول والأنهار، وفي الصباح تباع في الأسواق”. وأضاف: “لم نأكل أبداً الثعابين والزرافات والدببة والنمور والبنغولين”. ووفقاً للدكتور لي فإن الصينيين لم يتعودوا على تناول القوارض البرية قبل 40 عاماً، ولكن الطلب عليها تزايد بعد حملات ترويج لإقناع الناس بأن أكل الافاعي يزيد من القوة الجنسية وأن تناول النساء لحم البنغولين يجعلهن قادرات على الحصول على المزيد من الحليب لإرضاع الأطفال حديثي الولادة لفترة طويلة”. 

شهدت عملية صيد لحوم القوارض البرية وتصنيعها أو بيعها وهي حية رواجاً كبيراً خلال العقود الأخيرة، وتحولت إلى تجارة مربحة تدر المزيد من الأرباح. ووفقاً لتقرير صادر عن الأكاديمية الصينية للهندسة الحيوانية “حققت صناعة تربية الحيوانات البرية في الصين 75 مليار دولار عام 2016 ووظفت 14 مليون عامل، وتتم تربية الحيوانات في المزارع من أجل الفراء والأكل والطب الصيني والأبحاث. فيما حققت صناعة تربية الحيوانات البرية لأغراض الأكل واللحوم فقط نحو 18 مليار دولار عام 2016 مع تشغيل 6.63 مليون شخص. وأشار لي إلى أن استهلاك الحيوانات البرية في الصين أصبح شيئاً محبباً عند الفئات الثرية التي نمت وتطورت وتوسعت أعدادها بعد النمو والتطور الاقتصادي خلال العقود الأربعة الأخيرة في الصين”. كما ويحقق مربو الحيوانات وأصحاب الشركات التي تقوم بتربية هذه الأنواع من الحيوانات أرباحاً كبيرة أخذت تجتذب المزيد من الاستثمارات الخارجية”.

"درج" | 27.09.2024

“إشعال السماء”: ماذا خلف ألسنة اللهب السامة التي تسمح بها شركات النفط العملاقة ؟

تٌعد شركات النفط العملاقة في غرب أوروبا مثل "بريتيش بتروليوم ـ بي بي" وشركة "إيني" الإيطالية "الوكالة الوطنية للمحروقات" و"توتال إنرجيز" و"شل"، من بين أكبر عشرة مصادر للتلوث في أفريقيا والشرق الأوسط نتيجة عمليات حرق الغاز. وتشارك هذه الشركات في إطلاق السموم في السماء وتلويث البيئة والإضرار بصحة الناس. هذا ما كشفه تحقيق "إشعال السماء"،…
21.04.2020
زمن القراءة: 11 minutes

قد يكون إقبال الصينيين على أكل القوارض البرية والحشرات الغريبة تركّز في المجاعات التي عاشتها البلاد بسبب الحروب.

وصف الصينيون منذ القدم “براز الخفافيش” بأنه “الحجر الكريم المضيء في ظلام الليل”. تحظى الخفافيش في التاريخ والحاضر الصيني بمكانة خاصة ومميزة، وتعد رمزاً للحياة، ومصدراً للنعم الخمس ففي كل بيت صيني أيقونة لخمسة خفافيش متشابكة، تجلب بحسب معتقداتهم المتوارثة عبر الأجيال: الثروة، الصحة، طول العمر، الفضيلة، الصفاء.

تعود جذور حب تناول الحيوانات البرية في الصين إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وكان الفيلسوف الصيني الشهير مينسيوس، شكا مرات عدة في مقالاته التي نشرها آنذاك من صعوبة اختياره وجبته المفضلة قائلاً: “أنا احب أكل السمك، كما أنني مولع بأكل اخفاف الدببة. ولكن إذا لم أستطع الحصول على الاثنين معاً، فسأختار أخفاف الدببة”. وتعد أخفاف الدببة من الأكلات المفضلة في التقاليد الصينية، وهي أيضاً واحدة من 8 أطعمة أخرى يصفها الأطباء علاجاً لبعض الأمراض في الطب الصيني التقليدي منذ آلاف السنين.

حملت هذه الوجبات من الأطعمة المعدة من لحوم القوارض أسماء جذابة وواعدة لتشجيع الناس على تناولها في حياتهم اليومية. ووفقاً لدراسات خاصة عن أصول الطعام الصيني، فإن عشيرة “تجورشين” التي استوطنت في منطقة منشوريا في تلك الفترة هي التي أدخلت لحوم القوارض إلى المطبخ الصيني. وكانت تحكم هذه المنطقة التي عرفت باسم مملكة تشينغ إمبراطورية تشينغ العظيمة، وكانت آخر ممالك الصين، التي حكمت من 1644 وحتى 1912، مع محاولة استعادة فاشلة وقصيرة للحكم عام 1917. وكانت سبقتها في الحكم أسرة مينغ وجاءت بعدها جمهورية الصين. 

تسود في أوساط الصينيين عبر التاريخ فلسفة خاصة عن الغذاء والصحة، ولهذا فإن الشعوب الصينية المتعددة تربط بين الأطعمة والوجبات الغذائية والطب الصيني التقليدي. والصينيون من مختلف القوميات والأعراق يولون بحسب بعض الباحثين اهتماماً خاصاً بتناول الخضروات، ويقللون من أكل اللحوم والأطعمة الغنية بالدهون، التي تسبب صعوبة في الهضم، ويبتعدون من تناول السكريات، لكونها تستهلك من طاقة الهضم، ويحرصون خلال الوجبات الغذائية اليومية على شرب الكثير من الشاي الأخضر الذي يؤكدون أنه ينظف الجسم من السموم المتراكمة.

تحظى الخفافيش في التاريخ والحاضر الصيني بمكانة خاصة ومميزة، وتعد رمزاً للحياة.

غالباً ما تسمع الكثير من الناس وهم يرددون منذ وقت طويل وبنوع من السخرية والدعابة أن الصينيين يأكلون كل الكائنات الحية التي تمشي فوق الأرض أو تطير في الجو أو تعوم في الماء، وهذا الأمر يشمل الحيوانات والنباتات والحشرات، وكل شيء حرفياً. وكان موقع “دويتشه فيلله” الألماني نقل عن صحيفة (بيلد) نكتة يتداولها الألمان وهي أن سائحاً صينياً عاد إلى بلده بعد زيارة إلى ألمانيا مندهشاً ليخبر رفاقه في العمل أنه وجد أنواعاً كثيرة من علب اللحوم والأكياس الكبيرة التي عليها صور وقطط وكلاب في محلات السوبر الماركت في ألمانيا، ولكنه أثار سخريتهم لأنه لم يكتشف أنه كان في الجزء المخصص لأطعمة الحيوانات الأليفة.

ينفي الكثير من الصينيين المعلومات التي تروج في وسائل التواصل الاجتماعي والميديا حول العالم عن أنهم الوحيدون في العالم الذين يتناولون لحوم الكلاب والقطط، ويقولون إن الكثير من الشعوب الآسيوية تتناول لحوم الكلاب والقطط وفي مقدمتهم الكوريون والفييتناميون ويستدركون بأن الكلاب والقطط ليست ضمن وجبات الطعام في كل المقاطعات في البلاد.

القوارض البرية الملاذ في المجاعات

يرى الكثير من الباحثين أن إقبال الصينيين على أكل القوارض البرية والحشرات الغريبة تركّز في المجاعات التي عاشتها البلاد بسبب الحرب مع اليابان خلال عام 1894، والتي استمرت حتى عام 1895. وكذلك الحرب الأهلية الصينية، من دون تجاهل المجاعة التي حصلت بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949 والتي استمرت لثلاث سنوات متتالية. وكانت البداية الموثقة بحسب هؤلاء لحالات أكل شاذة عن طبيعة البشر عام 108 قبل الميلاد، وتواصلت زيادتها بنسب متفاوتة حتى عام 1911، إذ وقعت في تلك الفترة 1828 مجاعة في اماكن مختلفة من الصين، في غالبيتها كانت محصورة في مناطق محددة وليس على نطاق البلاد ككل. إلا أن حدوث هذه المجاعات بصورة كثيرة، أدى إلى أزمات كبيرة في الموارد الغذائية تسببت في حالات موت جماعي، ما دفع بعض المقاطعات إلى اللجوء إلى الحيوانات البرية والحشرات والزواحف المختلفة. ومن ثم وبحكم العادة وتنامي الإمكانات المادية، تحولت إلى تقليد اجتماعي بخاصة مع الزيادات الهائلة في أعداد السكان التي قادت بدورها إلى بروز الاطباق المختلفة المرتبطة بالموروث الاجتماعي والطب الصيني التقليدي، فضلاً عن أن تناول الحيوانات البرية أصبح يعد مؤشراً على المكانة الاجتماعية والرفاه والثروة. 

والمثير للاستغراب أن الصينيين يصرون على تناول هذه الأطعمة الشاذة، على رغم بحوث علمية وطبية وبيولوجية أثبتت بالأدلة والبراهين العلمية أنها تتسبب في أمراض فايروسية قاتلة، وهو تقليد أو بالأحرى اعتقاد ترسخ خلال عقود طويلة في اذهانهم بأن هذه الكائنات أنقذتهم من أهوال المجاعات التي عانت منها البلاد على مر عقود، ولهذا فهم يتجاهلون الانتقادات والدعوات إلى التوقف عن هذا الفعل. ويرى باحثون أن هناك اعتقاداً سائداً في ذهنية المواطن الصيني بأن حياته لن تكون سليمة وخالية من دون تلك الوجبات، إضافة إلى اعتقاد راسخ عبر الأجيال بأن ذلك الطريق الوحيد للبقاء والاستمرار في الحياة، وهذا كله تم توثيقه في كتاب “مجاعة ماو الكبرى” الفائز بجائزة “صامويل جونسون”.

علاقة أسطورية بين المطبخ الصيني والفايروسات

العلاقة الأسطورية بين الطعام الصيني والمرض ليست جديدة ولا ترتبط بفايروس “كورونا” وحسب، فعام 1968 كتب الدكتور روبرت هو مان كووك رسالة إلى مجلة “نيو إنغلاند” الطبية وصف فيها بطريقة قصصية سلسلة من الأعراض المرضية التي ظهرت عليه بعد تناوله الطعام الصيني، ومنذ ذلك الوقت بدأ تعبير متلازمة المطعم الصيني الانتشار على نطاق واسع. وعام 1993 دخل هذا المصطلح قاموس ويبستر. إلا أن صحيفة “الإندبندنت” العربية أشارت إلى أن تحقيقاً استقصائياً كان أعدّه الصحافي مايكل بليندغ كشف أن الدكتور مان كووك الذي وقع على الرسالة التي نشرتها “نيو إنغلاند” لا وجود له، إنما هو اسم مستعار استخدمه جراح العظام هوارد ستيل، الذي اعترف لاحقاً بأن الرسالة كانت مجرد خدعة كتبها للفوز برهان مع زملاء له، وبأنه حاول التكفير عن هذا الذنب، إذ اتصل بمحرر المجلة فرانز انغلفنغر وأقر له بالكذبة، ولكن الأخير لم يتخذ أي إجراء بتنبيه قراء المجلة ومتابعيها بذلك، واختار الصمت ربما لإنقاذ نفسه ومجلته من الإحراج ومن خسارة صدقيتها العلمية.

تناول الحيوانات البرية أصبح يعد مؤشراً على المكانة الاجتماعية والرفاه والثروة. 

إلا أن هذه الخدعة غير البريئة كشفت التطورات اللاحقة عن صحتها عندما تبين للعلماء أن العلاقة بين الحيوانات البرية والفايروسات صحيحة، وان الطبيب الذي قام بمزحته لم يكن يعلم بذلك، فلقد جاءت الدراسات العلمية والطبية التي قام بها كبار العلماء والباحثين في العالم لتكشف حقيقة العلاقة بين انتشار الفايروسات القاتلة خلال العقود الأخيرة بالمطبخ الصيني، والحيوانات البرية والحشرات التي تباع في الاسواق الصينية في انحاء الصين، والتي تعد الآن الحاضنة والمصدر الأساسي للأمراض الفايروسية الجديدة. وفي تقرير أعده ستيفن لي مايرز لصحيفة “نيويورك تايمز”، قال إن السوق العادي في الصين يحتوي على محلات لبيع الخضروات والفواكه ولحم البقر والخنزير والخرفان ودجاج منتوف الريش والسلطعون الحي والسمك الذي يسبح في الصهاريج. كما تباع في أسواق خاصة قوارض برية مثل الثعابين والسلاحف وسيكادا والخنازير البرية وجرذان الخيزران والغرير والقنافذ. وتبيع أسواق أخرى حيوانات مفترسة مثل القطط الآسيوية والذئاب الصغيرة. واشار إلى أن الاسواق هي أهم مظهر للحياة في المدن الصينية، وأصبحت لمرات كثيرة ومنذ أكثر من عقدين مصدراً لأوبئة أثارت الخوف وأتعبت بيروقراطية الحزب الشيوعي. وكشفت عن المخاطر الوبائية التي يمكن أن تنتشر من الأماكن التي تمتزج فيها الحياة البرية مع البشر. وقال العالم البيولوجي ونائب رئيس قسم البحوث في “إيكوهيلث ألايانس” كيفن جي اوليفال، وهي منظمة غير ربحية متخصصة بمتابعة انتشار الأوبئة، “نشاهد ظهور أمراض جديدة لم تمر على الناس من قبل”. وعلى رغم عدم تحديد الأسباب ومسار المرض ومنشئه، إلا أن المسؤولين الحكوميين والباحثين العلميين في الغرب رأوا أن الطبيعة المعدية تتشابه بقدر عال مع انتشار وباء “سارس” من الصين أو أعراض ضيق التنفس الحاد الذي ظهر عام 2002 وقتل 800 شخص وأصاب آلافاً حول العالم.

الغابات والاستثمار في المزارع الاصطناعية

وفقاً لموقع “ذا كونفيرسيشن” الفرنسي فإن ظهور فايروس “كورونا” المستجد يسلط الضوء على المخاطر التي يُمكن أن تمثلها الحيوانات على البشر، باعتبارها مصدراً للفايروسات الجديدة. وأشار إلى أن “فايروس كورونا المتسبب في المتلازمة التنفسية الحادة الشديدة النوع 2″، مرتبط بـ”السوق الرطب” لتجارة الحيوانات البرية بمدينة ووهان في الصين، على رغم أنه ليس مؤكداً في أي حال من الأحوال أن هذا هو مصدر النسخة البشرية من الفايروس، ولكن تم تحديد الخفافيش على أنها الحيوانات التي تحمل النوعية الأكثر مطابقة لهذا الفايروس، ومع ذلك، لسنا متأكدين بعد ما إذا كان الخفاش هو المصدر المباشر لفايروس كوفيد 19.

يكاد يجمع علماء الانتربولوجيا والسوسيولوجيا على فكرة أن الصناعات تساهم في تغيير الموائل الطبيعية، ويقوم الناس بتهديم منظومات البيئة ويقتربون أكثر فأكثر من مصادر الأمراض الفايروسية. وتولي معاهد البحوث الانتروبولوجية أهمية خاصة لدراسة العلاقة بين الصناعة أو الزراعة البيولوجية وانتشار الأوبئة الفايروسية. وبحسب الخبيرة في العلوم الانتربولوجية والأستاذة في جامعة أوروبا الوسطى جانا تسونيفا، إن “العلماء الذين يدرسون فايروس كورونا ينفون بشكل قاطع إمكان صنعه أو تركيبه في المختبرات السرية”. وقالت تسونيفا: “توجد أنواع كثيرة من الفايروسات في الطبيعة وغالبيتها ما زالت غير معروفة من العلماء، ولهذا عندما تنتشر عدوى بسرعة فائقة وتتسبب في موت الالاف من الناس، فإن أول رد فعل سريع للناس هو رد المرض إلى عالم شرير قادر على أن يتحكم بكل شيء”. وتضيف: “للأسف حتى الآن وبسبب طبيعة الفايروسات وتكوينها بسلالاتها المختلفة لم يتمكن العلماء من إيجاد وسيلة مثل المضادات الحيوية التي تقضي على أنواع مختلفة من الباكتيريا، وتعتبر اللقاحات السلاح الأقوى ضد الفايروسات ولكن العلم لم يكتشف لقاحاً يمكن استخدامه كعلاج وقائي ضد كل أنواع الفايروسات”.

إن الفايروسات كما تشير الدكتورة تسونيفا متقدمة خطوة وربما خطوات على العلم، ولهذا فهي تتيح المجالات لمروجي نظريات المؤامرة والرؤى الخيالية، ولكن لا يمكن تجاهل حقيقة العلاقة المتبادلة المعقدة بين الصناعات الغذائية المعاصرة والاختلالات التي تسببها للطبيعة والمناخ.

يتضح من الدراسات والبحوث الانتروبولوجية حول الرابطة الوثيقة بين الفايروسات والحيوانات البرية، أنه في الفترة ما بعد الأزمة المالية والاقتصادية التي حدثت في الولايات المتحدة وأوروبا عام 2008، سارعت البنوك الاستثمارية الأميركية والأوروبية إلى ضخ مليارات الدولارات في قطاع تربية الحيوانات في الصين، الذي كان يشهد نمواً وتطوراً منذ أواسط التسعينات. هذا أدى بدوره إلى اضطرار المزارعين ومربي الحيوانات الصغار إلى التوجه إلى الغابات للعمل، وذلك لانعدام قدرتهم على منافسة الشركات الكبرى. وفي الغابات تنتشر الخفافيش بكثرة بأمراضها وفايروساتها التاجية المتنوعة. وقالت تسونيفا، إن “آلاف المزارعين والرعاة أمام ضغوط اللاعبين الكبار تحولوا إلى العمل في صيد الحيوانات البرية، وبيعها في الأسواق، ليس هذا فقط، بل بدأت الشركات الكبرى هي الأخرى اقتحام الغابات النظيفة وغير الملوثة، وهي عملية قادت في نهاية المطاف إلى قيام البشر بنقل الفايروسات ونشرها، مثلما حصل مع عدوى ايبولا المميتة”.

 تدمير الغابات الطبيعية وزيت النخيل

إن عمليات ازالة الغابات في دول غرب أفريقيا حدثت بسبب الطلب المتزايد على زيت النخيل، المستخدم في كل شيء من السمن الصناعي النباتي إلى الشامبو. وكانت 4 دول في أفريقيا ضمن قائمة تضم 10 دول تسارع معدل فقدان الأشجار فيها إلى أقصى درجة. وعلى الصعيد العالمي، أظهرت صور الأقمار الصناعية التي نشرتها المنظمة العالمية لمراقبة الغابات أن 18 مليون هكتار فُقدت العام الماضي لأسباب من صنع الإنسان وأخرى طبيعية. وقال الباحثون الذين حللوا البيانات في معهد الموارد العالمية بالولايات المتحدة إنهم فوجئوا بما اكتشف في غرب أفريقيا. ومن بين الدول العشر في القائمة المذكورة سيراليون وغينيا وبيساو وليبيريا ومدغشقر التي خسرت العام الماضي 2 في المئة من مساحتها الكلية للغابات في الزراعة والتعدين وصناعة الأخشاب.

وقد أظهرت بيانات المعهد أن فقدان الأشجار لم يعد مشكلة قاصرة على البرازيل وإندونيسيا، بل تعداهما إلى البلدان الأصغر التي عادة ما تحصل على اهتمام أقل بكثير من الجماعات المدافعة عن البيئة. ويشير تحليل معهد الموارد العالمية إلى أن النمو السريع لصناعة زيت النخيل هو أحد أكبر العوامل المساهمة في التغيير. وعلى رغم أن زيت النخيل كان ينتج على نطاق صغير في المنطقة لسنوات عدة، إلا أن الحكومات الآن تبيع مساحات شاسعة من الأراضي لشركات القطاع الخاص التي تتطلع إلى الاستفادة من الطب المتزايد عليه. وأكدت تسونيفا أن “هذه العملية جذبت خفافيش الفاكهة باتجاه المزارع الكبرى التي بدأت تضخ فايروساتها للناس، كما أن استنزاف التنوع البيولوجي هو الذي يدعم الحياة على كوكب الارض، ولهذا فإن خسارة التنوع البيولوجي يمكن أن تكون لها آثار مهمة ومباشرة على صحة الإنسان إذا أصبحت خدمات النُظم الإيكولوجية غير كافية لتلبية الاحتياجات الاجتماعية، وانعدامه يحمي الفايروسات ويحررها من تعقيدات منظومات البيئة. وبينت تسونيفا أن “علماء الانثربولوجيا يساعدوننا على فهم أفضل للأوبئة والجوائح كالحالية، كونهم يدرسون ويبحثون بعمق في العلاقة المتبادلة بين البشر والطبيعة”.

 في حملة على منصات التواصل الإجتماعي دعت إلى تغيير المعتقدات الراسخة في المجتمعات الصينية وإبعادها من تناول القوارض البرية، وجذبت إليها 45 مليون مشاهد، تحت “هاشتاغ”، “ارفضوا لحوم الصيد”، وقالت مقدمة البرامج التلفزيونية في مدينة نانجينغ، جنوب الصين، جين سيشن: “إن تناول لحوم الصيد لن يشفي من العقم ولا يشفي من الأمراض بل يجعلك وعائلتك والناس مرضى”. ونبهت إلى أن “من يتناول لحوم الحيوانات المفترسة هو مريض في عقله ويريد الظهور واستعراض ثروته”. ودعا 19 باحثاً علمياً صينياً الحكومة إلى عمل المزيد لتنظيم التجارة، وطلبوا من الناس التوقف عن أكل الحيوانات المفترسة والبرية. ودعت “جمعية حماية الحياة البرية في نيويورك” إلى حظر دولي على بيع الحيوانات البرية بخاصة في الأسواق الصينية، مشيرة إلى أن الوباء الجديد يثبت خطرها على الصحة.

شهدت عملية صيد لحوم القوارض البرية وتصنيعها أو بيعها وهي حية رواجاً كبيراً خلال العقود الأخيرة، وتحولت إلى تجارة مربحة تدر المزيد من الأرباح.

تعرف السلطة الشيوعية الحاكمة في بكين أن إشكالية تناول الحيوانات البرية في البلاد لا ترتبط بالعادات والتقاليد الثقافية والمعتقدات والخرافات فقط، بل أيضا بمافيا لها أضلع في الحزب الحاكم وقيادات فاسدة في الدولة ومؤسساتها تتاجر بالقوارض البرية على مستوى عالمي، وتتوافر معلومات عن شركات ورجال أعمال كبار يتولون الاتجار بهذه الحيوانات، ولهم نفوذ كبير ولوبيات ضغط كبيرة داخل الحزب والسلطة. ويقول الدكتور بيتر لي، خبير الحياة البرية الصيني، إن العاملين في تلك الصناعة أقنعوا قيادة بكين بأنها ستساهم في التوظيف وتنقذ الأرواح وتحمي الطبيعة، لافتاً إلى أن الدولة بكاملها كانت رهينة في يد المجموعة المسيطرة على هذه السوق والصناعة. يروي البروفيسورلي في جامعة هيوستن أنه عندما كان طفلاً في الصين قبل أن يهاجر إلى الولايات المتحدة، عاش في مقاطعة تشنجيانغ الواقعة في شرق البلاد، “كان الناس يتناولون الضفادع والسلاحف والقواقع مرات عدة في السنة، وكانت تجمع من الحقول والأنهار، وفي الصباح تباع في الأسواق”. وأضاف: “لم نأكل أبداً الثعابين والزرافات والدببة والنمور والبنغولين”. ووفقاً للدكتور لي فإن الصينيين لم يتعودوا على تناول القوارض البرية قبل 40 عاماً، ولكن الطلب عليها تزايد بعد حملات ترويج لإقناع الناس بأن أكل الافاعي يزيد من القوة الجنسية وأن تناول النساء لحم البنغولين يجعلهن قادرات على الحصول على المزيد من الحليب لإرضاع الأطفال حديثي الولادة لفترة طويلة”. 

شهدت عملية صيد لحوم القوارض البرية وتصنيعها أو بيعها وهي حية رواجاً كبيراً خلال العقود الأخيرة، وتحولت إلى تجارة مربحة تدر المزيد من الأرباح. ووفقاً لتقرير صادر عن الأكاديمية الصينية للهندسة الحيوانية “حققت صناعة تربية الحيوانات البرية في الصين 75 مليار دولار عام 2016 ووظفت 14 مليون عامل، وتتم تربية الحيوانات في المزارع من أجل الفراء والأكل والطب الصيني والأبحاث. فيما حققت صناعة تربية الحيوانات البرية لأغراض الأكل واللحوم فقط نحو 18 مليار دولار عام 2016 مع تشغيل 6.63 مليون شخص. وأشار لي إلى أن استهلاك الحيوانات البرية في الصين أصبح شيئاً محبباً عند الفئات الثرية التي نمت وتطورت وتوسعت أعدادها بعد النمو والتطور الاقتصادي خلال العقود الأربعة الأخيرة في الصين”. كما ويحقق مربو الحيوانات وأصحاب الشركات التي تقوم بتربية هذه الأنواع من الحيوانات أرباحاً كبيرة أخذت تجتذب المزيد من الاستثمارات الخارجية”.