fbpx

لم أُسقط الأسد وابن العمّ لم يأبه لشيء خارج زنزانته

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم أُسقط حافظ الأسد، كما توّعدتُ في بيروت. أسقطني هو بعد سنتين حافلتين بأحداث متسارعة كانت تجعلنا في كلّ يوم نحبس أنفاسنا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في هذه الحلقة، يسرد الكاتب وائل السوّاح، في سيرته عن اليسار السوري الجديد، كيف انقسم هذا التيار نهاية السبعينات حول الحراك المدني وخلطه بتحرك الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين.

كانت أيامي في بيروت تشارف على الانتهاء. خلال التصويت بعد نقاش عاصف، فاز مشروع العودة إلى دمشق بأغلبية ضئيلة. وبدأت أستعدّ نفسياً للعودة، بحزم أفكاري وانفعالاتي. في الاجتماع نفسه، قدّمتُ للهيئة المركزية اقتراحاً بدا غريباً أول الأمر. كانت المركزية تضاءلت من 11 رفيقاً إلى 7، ولن يكون العدد كافياً لمساءلة لجنة العمل، كما سيكون من غير العملي أن يجتمع 7 رفاق يومياً أو بضع مرات في الأسبوع في الظروف الأمنية. اقتراحي كان تقليص عدد الهيئات المركزية إلى 5 ودمج مهماتها بمهمات لجنة العمل. بدا الاقتراح مقنعاً وعملياً لدرجة أن أحداً لم يعارضه. وكان علينا أن نختار من سيبقى ومن سيخرج. أجرينا تصويتاً سرياً، وفاز كل من أصلان وفاتح ومنيف ونهاد بسبعة أصوات. وفزت أنا بستّة أصوات فقط. توقّعت أن يكون كامل صوّت لنفسه، أو ربما أحمد، وتفهّمت ذلك، ولكن أصلان الذي كان دوماً يحبّ أن يكون مباشراً إلى حدّ الفجاجة في صراحته قال لي:

“أنا لم أصوّت لك. صوّتّ لأحمد.

  • لست مضطراً لتقول لي ذلك، كما تعلم.
  • صحيح، ولكنني أريد أن أقول لك ذلك”. وصمتَ لحظة كأنه ينتظر مني أن أسأله لماذا، وحين لم أفعل تطوّع بالإجابة:

“لم أصوّت لك، لأن أسلوبك في الكتابة أسلوب صحافي أكثر من حزبي”.

ثمّة أشياء صغيرة تعيش معك إلى الأبد: كلمة أحياناً أو لفتة أو تربيتة على الكتف. كانت تلك واحدة من هذه الأشياء التي لا تريد أن تفارقني بعد أربعة عقود كاملة. ودّعت طاقم الجريدة وأبا بشار وهالة الجميلة وديانا الآسرة. وودّعت مقاهي الهورس شو، مقهى محمود درويش المفضّل، و “مودكا” ودولشي فيتا، حيث كنت ألتقي أحمد جمّول، الذي كان ترك سوريا واستقرّ في بيروت، وفيه التقيت أوّل مرّة حازم صاغية الذي كان نجمه بدأ يسطع بقوّة في عالم الكتابة والصحافة. وودّعت بيروت.

استقبلتني دمشق كما يليق بها، جميلة، متحفّظة، وخائفة. كان هواء الخريف يتسلّل بخبث من نافذة السيّارة وهي تدخل المدينة من بوّابة الربوة ذاك المساء التشريني الفاتن. لم يكن طريق بيروت الجديد عبر الديماس قد افتتح بعد، فكان على السيارة أن تمرّ بالهامة وقدسيا، ثمّ دمّر البلد، حيث كان بيتي الأخير على ضفّة النهر. مرّ البيت بخاطري، ومرّ أيضاً علي الكردي الذي تقاسمت معه غرفة هناك، وهو الآن في زنزانة رطبة فاسدة الهواء، فرانت عليّ كآبة شفيفة. كانت أمي تقول لي: “اتّقِ البرد في أوله”، وكنت أسمع نصيحتها دوماً، فألف حول عنقي شالاً خفيفاً.

أسقطني الأسد!

لم أُسقط حافظ الأسد، كما توّعدتُ في بيروت. أسقطني هو بعد سنتين حافلتين بأحداث متسارعة كانت تجعلنا في كلّ يوم نحبس أنفاسنا. زادت الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين، بعد مجزرة مدرسة المدفعية في حلب، عملياتها المسلحة ضدّ النظام، ولكن مدى تلك العمليات تجاوز مساحة النظام والمخابرات والجيش إلى فضاء الشارع في عمليات عدّة، كان أسوأها على الإطلاق مجزرة الأزبكية في مدينة دمشق. ولئن كانت مجزرة حلب كبيرة بحدّ ذاتها، فإن وقوعها في مدرسة عسكرية بعيدة من السكان المدنيين جعل أثرها محدوداً بالنسبة إلى الناس. بالمقابل، جاء تفجير سيارة مفخخة في قلب دمشق، في حيّ الأزبكية، ليهزّ أرجاء المدينة مادياً ومعنوياً. قضت العملية على 64 سورياً، ولكنها قضت أيضاً على آخر أواصر المودّة الخفية التي كانت نشأت بين الإخوان المسلمين والسوريين في السنوات السابقة.

كانت الأشهر الأولى لعودتي إلى دمشق حاسمة في إعادة تشكيل وعيي السياسي. في تلك الفترة، زاد الإخوان المسلمون وطليعتهم المقاتلة من تطرّفهم الراديكالي المعروف كلّما سنحت لهم الفرصة. ولوهلة بدا أن الإسلاميين يمسكون زمام المبادرة ويدفعون بالنظام إلى مواقع الدفاع. وحاول النظام، من جانبه، مغازلة الإسلاميين. وقام نائب المراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين أمين يكن بوساطة بين الجماعة والأسد، وبدا الأسد ضعيفاً في تلك اللحظة، واستجاب لطلب يكن بإطلاق سراح 500 معتقل إسلامي، وحاول إجراء تعديلات رئيسية في طريقة حكمه، فجاء بمهندس محترم هو عبد الرؤوف الكسم لتشكيل حكومة تكنوقراط، وألقى بسلسلة لا متناهية من الخطابات، أكّد فيها أنه مسلم يؤدّي فروض الدين، بل إنه التقى ببعض قيادات الإخوان – إذا صدّقنا نائب الرئيس فاروق الشرع في مذكّراته – ولكن “مطالبهم تجاوزت دور المشاركة في الحكم إلى تغيير كامل فيه”.

استقبلتني دمشق كما يليق بها، جميلة، متحفّظة، وخائفة. كان هواء الخريف يتسلّل بخبث من نافذة السيّارة وهي تدخل المدينة من بوّابة الربوة ذاك المساء التشريني الفاتن.

إلى جانب صراع الأسد والإخوان المسلمين، نشأ تطور اجتماعي سياسي في سوريا، لم نلقِ له بالاً كما كان ينبغي. بدأ الحراك تشكيل لجنة للحريات في نقابة المحامين، وانتقل بعدها إلى اتحاد الكتاب العرب ونقابات الأطباء والمهندسين والصيادلة. وبلغ ذروته في آذار/ مارس 1980، حين نفذت “نقابة المحامين السوريين” إضراباً عاماً في المدن السورية احتجاجاً على السياسية القمعية والاعتقالات العشوائية التي انتهجها النظام حينها. تضامنت نقابتا الأطباء والمهندسين مع نقابة المحامين. وأصدرت النقابات المهنية سلسلة من المواقف والبيانات والندوات الداخلية، طالبت فيها بإلغاء قانون الطوارئ وعودة الحياة الديموقراطية للبلاد ووقف الممارسات القمعية لأجهزة النظام، وبخاصة سرايا الدفاع التي كان يقودها شقيق حافظ الأسد الفاشي رفعت والتي أصبحت رمزاً للتسلط والإذلال. وكذلك فعل اتحاد الكتاب العرب الذي عقد مع قيادة الجبهة الوطنية التقدمية اجتماعاً عاصفاً تحدّث فيه الكتاب بجرأة غير مسبوقة منذ تسلّط البعث على مقادير الأمور في سوريا. وبرز من بين المتحدثين من الكتّاب وقتها الشاعر والمسرحي الراحل ممدوح عدوان الذي ألقى كلمة نارية تناقلها السوريون مسجّلة على شريط كاسيت، سرّاً كما كانوا يتناقلون الجرائد السرية المعارضة.

سكِرت، ومعي كثيرون، وأنا استمع لكلمات صديقي وشريك الغداءات اللطيفة في مطعم مجدولين، مع علي الجندي، وهو يؤنّب أعضاء وفد قيادة الجبهة الذي ترأّسه وقتها نائب رئيس الجبهة محمود الأيوبي. “أنا أشتغل في إعلام أخجل منه”، قال ممدوح بصوت متهدّج، متوجّس، ولكن مثابر، “لأنه يكذب بهذا المقدار. يكذب بدرجة الحرارة. يكذب بإخفاء الكوليرا، هل هناك أحد يخفي الكوليرا؟ يكذب بالتستّر على اللصوص، وعلى التجار والمرتشين وشركائهم، ويشكك بي وبكم حين كنتم تقولون إن الفساد قائم”. ثمّ سأل، “لماذا يكذب النظام؟ ولماذا يكذب الحزب؟ ولماذا تكذب فئة ما؟ الكذب ينطلق من الخوف، الخوف من الآخرين. والسلطات التي تكذب، هي سلطات تخاف الشعب، وتخاف أن يراها على حقيقتها (…) كلنا في هذا الاجتماع تجنبنا الحديث عن مسائل معينة. لا أحد تحدّث عن سرايا الدفاع. لا أحد تحدث عن المخابرات. لا أحد تحدث، إنْ لم نقلْ عن الوجه الطائفي للسلطة، فعلى الأقل عن الممارسة الطائفية لبعض العناصر في السلطة (…) في الماضي كان أحدهم يهتف في الشارع: حرامي! فيركض ألف مواطن لإلقاء القبض عليه. الآن يُقتل الإنسان في وضح النهار، بطلقات مسدس، ويسير القاتل، ولا أحد يدلّ عليه”. وفتنني وهو يلج منطقة المحرّمات: سرايا الدفاع، التي كان مجرّد ذكر اسمها يثير الرعب في قلوبنا جميعا. “أنا عندي سؤال أريد الجواب عليه الآن: اشرحوا لي ما هي سرايا الدفاع هذه؟ لماذا امتيازاتها؟ لماذا امتيازات جندي في سرايا الدفاع أكثر من ضابط في القوات العاملة؟ ولماذا لا نجرؤ على الحديث عنها؟ لماذا يتحدث الناس عنها وشوشة وهمساً فقط، وأنتم تعرفون هذا، بل إنكم أنتم أنفسكم تتحدثون عنها وشوشة وهمساً؟”.

رأيت ممدوحاً بعد أيام قليلة من كلمته المرعبة. سألته إن لم يشعر بالخوف وهو يلقي كلمته. أجابني وهو يطلق ضحكته المجلجلة التي كنت أخشى أن تصدّع جدران المكان من حولنا فتتهاوى فوق رؤوسنا:

“ارتعبت. ما بس خفت”. ثمّ جرع من كأسه جرعة كبيرة، والتفت إليّ يقول:

“بتعرف. هدول جبناء. هلق ما فيّن يعملوا شي معي”.

ترافق تحرّك النقابات المهنية مع تحرّك مديني في معظم المدن السورية، حيث أضربت الأسواق التجارية، وعمّت شوارع المدن، باستثناء دمشق، التي يتهمها محمد جمال باروت بأنها هي من كسر الإضراب. ولم يكن موقف جماعة الإخوان المسلمين من ذلك الحراك الشعبي واضحاً في تلك المرحلة. يحاول الإخوان دائماً أن يكون لهم قصب السبق، ولم يكن يسعدهم أن تتسيّد المشهدَ الشعبي النقاباتُ المهنية والتجار.

خلال شتاء 1980، ازداد نظام حافظ الأسد بؤساً، وأظهر الأسد نفسه مراراً على شاشة التلفزيون وفي اللقاءات الجماهيرية التي كان حزبه ومخابراته يرتّبونها لدرجة أنه بدأ يثير سخرية السوريين. وكان أكثر ما سخروا منه خطابه في يوم 8 آذار احتفالاً بالذكرى السابعة عشرة لانقلاب “حزب البعث”، حين قال بصوت بدا لنا مكسوراً: “إنني أؤمن بالله وبرسالة الإسلام. لقد كنت ولا أزال وسأبقى مسلماً، تماماً مثلما ستبقى سوريا قلعة شماء ترفع راية الدين الإسلامي عالياً”.

مع نهاية آذار، أدرك الأسد أن معركته معركةَ كسر عظم، فأحرق كلّ مراكب المفاوضات أو المصالحة مع الفئة الأكبر من شعبه. ولعب لعبته الكبرى وهي الربط ما بين الحراك المديني السلمي والتحرّك الإرهابي للإسلاميين، ووضع الجميع في سلّة واحدة، واستغلّ الأسد تحرّك الإخوان المسلمين للقضاء على كلّ أشكال المعارضة السياسية والمدنية والحقوقية، بما في ذلك ظاهرة التحرك النقابي، وفي نيسان/ أبريل 1980، حلّ النقابات السورية واعتقل قاداتها، وبعد أسابيع من ذلك الإجراء عيّن موالين له في قيادة النقابات لتتحوّل إلى مجرّد منظمات رديفة للأجهزة الأمنية، تمثّل العسكر والمخابرات أكثر بكثير مما تمثّل أعضاءها. وزجّت أجهزة الأسد بمئات المحامين والقضاة والكتاب والأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات في السجون، في مرحلة ستطلى بسواد فوق سواد امتدت عقداً كاملاً من الزمن، ولكنني سأكون بعيداً فلا أشهد ذلك بعيني.

30 عاماً

بعد 30 عاماً قام وريث الأسد بالسياسة نفسها عام 2011، حين ربط منذ اليوم الأول لانتفاضة السوريين في آذار بين الانتفاضة الشعبية وبين ما سمّته مستشارته بثينة شعبان حركة سلفية تسعى إلى إقامة إمارة سلفية في سوريا. ولكن سوريا 2011 لم يكن فيها إرهابيون وجهاديون، فكان على الأسد الابن أن يخلق ذلك التيار، فأطلق سراح المئات من الجهاديين الذي كان يرسلهم للقتال في العراق، فإذا أبوا الموت وعادوا، أودعهم في سجن صيدنايا سيئ السمعة.

كنا في لجنة العمل نراقب الوضع ساعة بساعة، ونحاول أن نتلمّس طريقنا. كنا نتابع الصراع بين الأسد والإخوان من جانب، وبين الأسد والنقابات من جانب آخر. ووقعنا في ما كان يريد النظام إيقاعنا به، فربطنا بين التحرّكين، على رغم أنه لم يكن بينهما رابط. كانت الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين تريد إسقاط “الحكم النصيري الباطني المجوسي” وإقامة دولة إسلامية “تقيم حكم الله” وتعتبر المجتمعات غير السنية من أهل الذمّة في أحسن الأحوال. وهي كانت تسعى لذلك من خلال العنف والعمليات الإرهابية. النقابات بالمقابل كانت تطالب بإلغاء حالة الطوارئ وإطلاق سراح المعتقلين واحترام حرية التعبير وإقامة نظام ديموقراطي مدني. بل إن الودّ بدا مفقوداً بين جهاديي الإخوان المسلمين والنقابات، إلى حدّ أن الطليعة المقاتلة أصدرت بياناً في حلب سخرت فيه من المطالب الديموقراطية الليبرالية للنقابات، ودعت خلاف تلك المطالب إلى مواصلة المجابهة المسلحة حتى إسقاط النظام. وأكثر ما أزعج الطليعة المقاتلة أن بعض القوى اليسارية والقومية بدأت تساند الحراك الشعبي والنقابي، وهي رأت في برنامج النقابات “محاولة قومية يسارية لاستثمار ما قامت به هي”، وشعرت بأن النقابات تكاد تسحب البساط من تحت أرجلها. صادرت الطليعة الإضراب الذي كان يمكن أن يتحول إلى عصيان مدني شامل، وتمكنت من تحويل الحراك المدني إلى تمرّد مسلّح.

سوريا 2011 لم يكن فيها إرهابيون وجهاديون، فكان على الأسد الابن أن يخلق ذلك التيار، فأطلق سراح المئات من الجهاديين الذي كان يرسلهم للقتال في العراق

تجمّعت تلك الأحزاب اليسارية والقومية أخيراً في نهاية 1979 في تكتّل واحد سمّوه “التجمع الوطني الديموقراطي”، جاء نتيجة لحوارات طويلة بين الزعيم الشيوعي المخضرم رياض الترك والزعيم الناصري المرموق جمال الأتاسي والأمين القطري لجماعة 23 شباط أحمد درويش، الذي قال لولده مازن درويش في جلسة خاصة: “إذا كانت هذه قيادات معارضتنا، فأعتقد أن حافظ الأسد سيحكمنا حتى نموت”. وفي نهاية العام تمّ الإعلان عن تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي في نهاية عام 1979، جامعا خمسة أحزاب سياسية قومية ويسارية، وهي حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي، والحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي)، وحزب العمال الثوري العربي، وحزب البعث العربي الاشتراكي الديموقراطي، وحركة الاشتراكيين العرب (جناح عبد الغني عيّاش). ورأينا من دون تحيّز أو سخرية أن شقيقات هذه الأحزاب نفسها موجودة في الجبهة الوطنية التقدمية الحاكمة في سوريا: حزب الاتحاد الاشتراكي (صفوان قدسي) وحركة الاشتراكيين العرب (عبد الغني قنّوت) والحزب الشيوعي السوري (خالد بكداش)، وحزب البعث (حافظ الأسد). فقط حزب العمّال الثوري لم يكن له شقيقي في جبهة السلطة.

أما نحن في الرابطة فتمّ استبعادنا. كان جمال الأتاسي يرغب في ضمّنا، وحين كنت ألتقيه أحياناً لتسليمه الراية الحمراء، كان يعبّر عن تعاطفه معنا، ويقدّم لي نصائح، أبوية إلى حدّ ما، غالبا ما كنت أستمع إليها بتهذيب، ولكنني كنت أرميها وراء ظهري حال خروجي من عيادته. كنت أحب الإصغاء إلى الأتاسي، وأتأمّله وهو يحكي بهدوء وثقة، من وراء نظّارتين كانت تعطيانه مزيدا من الوقار والدعة، ولكنّ نفوري من كلّ ما يتعلّق بعبد الناصر، سياسة وفكرا وتنظيما، كان يجعلني أهز كتفيّ بعد خروجي من عيادته، كأنني أنفض عنهما الأفكار التي كان يقولها لي. “ابن العم”، في أي حال – هو من وقف في وجه انضمامنا، وبقوّة. لم ألتقِ رياض الترك مطلقاً قبل خروجه من زنزانته في فرع التحقيق العسكري التي أمضى فيها أقلّ بقليل من 18 عاماً. لا، بل فعلت! التقيته بضع مرّات، ولكننا لم نتحدّث مطلقا. جاورته في زنزانة قريبة من زنزانته في فرع التحقيق. كنت في الزنزانة رقم 37 وكان في الزنزانة رقم 51. ولكن بينما أمضيت في زنزانتي بضعة شهور فقط، أمضى ابن العم 17 عاماً ونيّفاً في غرفة بطول 190 سنتمتراً وعرض 190 سنتمتراً، لا نافذة، لا هواء، لا ضوء، ولا شمس. كان الهواء يأتينا من خلال مضخة تضخّ لنا الهواء وشفّاط يسحبه، إذا لم تنقطع الكهرباء، وكثيراً ما انقطعت. بعد 11 سنة أعطوه سريراً، بعدما مرض وتدهورت صحته. لمحته أوّل مرّة، رجلاً ضئيلاً، محنيّ القامة، يحمل طشتاً كبيراً ويمضي به من الحمّام إلى الزنزانة. لم يبدُ لي سجيناً عادياً. وكنت أرى أن السجّانين يعاملونه بشيء من الاحترام. ربّما الرهبة؟ ثمّ رأيته ثانية. وسألت أحد السجّانين الذين كان يبدي تعاطفاً معي لأنني لم أكن من الإخوان المسلمين.

“مين صاحبك اللي بـ”واحد وخمسين؟”.

“هذا من جماعتكم،” قال مجيباً، ومضى بسرعة، كأنه لا يريد أن يتورّط أكثر.

حاولت أن ألفت انتباهه ذات مرّة، ولكنه لم يكن يأبه بأي شيء خارج دائرة زنزانته. وقال بعد سنوات لعلي أتاسي معدّ فيلم “ابن العم” الوثائقي كيف استطاع الصمود في زنزانته كل هذه السنوات. “أنا حللت الموضوع ببساطة”. قال لعلي، “أنا أصبحت أسيرَ النظام. خرجت من اللعبة، من لعبة الصراع السياسي بين الحاكم والمحكوم. ولم يعد أمامي سوى مهمّة واحدة ووحيدة وهي ألا أساعد النظام على إعطاء أي شيء يمكن أن يستفيد منه ضدّ حزبي. كمعلومات وكموقف سياسي. خارج هذه النقطة، أنا صرت صفراً. فإذا أنت اقتنعت بهذه النقطة بالذات، بالمقابل عليك أن تقبل جحيم هذا النظام كثمن للتمسك بذلك”. التقيته كثيراً بعد خروجه من السجن. زرته في بيته في حمص، وامتلك روحي بعد خمس دقائق، ببساطته ومباشرته وشجاعته وعدم اعتداده بنفسه وإيثاره بلده وشعبه وحزبه على نفسه دوماً. سحرني بعبارة ابن العم التي كان يناديني بها، كما ينادي جميع من يحبّهم، بتحبّب وألفة وتواضع. ازدادت وتيرة لقاءاتنا بعد اعتقاله من قبل الأسد الابن. حين سألته عن حبسته الجديدة، أزال سيجارته التي كان وضعها بين شفتيه ليشعلها، وقال بلهجته الحمصية العميقة التي أحبّها:

“هاي مانا حبسة، ابن العم. هاي سيران”.

ثم ضحك بصخب ضحكة مديدة، وأشعل السيجارة، وعبّ منها نفساً عميقاً، ثمّ نفث الدخان في سماء الغرفة، وغاب عني بخياله لحظة، قبل أن يعود مسرعاً ليستأنف حديثه.

عدتُ لأُسقِط حافظ الأسد!

23.09.2019
زمن القراءة: 11 minutes

لم أُسقط حافظ الأسد، كما توّعدتُ في بيروت. أسقطني هو بعد سنتين حافلتين بأحداث متسارعة كانت تجعلنا في كلّ يوم نحبس أنفاسنا.

في هذه الحلقة، يسرد الكاتب وائل السوّاح، في سيرته عن اليسار السوري الجديد، كيف انقسم هذا التيار نهاية السبعينات حول الحراك المدني وخلطه بتحرك الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين.

كانت أيامي في بيروت تشارف على الانتهاء. خلال التصويت بعد نقاش عاصف، فاز مشروع العودة إلى دمشق بأغلبية ضئيلة. وبدأت أستعدّ نفسياً للعودة، بحزم أفكاري وانفعالاتي. في الاجتماع نفسه، قدّمتُ للهيئة المركزية اقتراحاً بدا غريباً أول الأمر. كانت المركزية تضاءلت من 11 رفيقاً إلى 7، ولن يكون العدد كافياً لمساءلة لجنة العمل، كما سيكون من غير العملي أن يجتمع 7 رفاق يومياً أو بضع مرات في الأسبوع في الظروف الأمنية. اقتراحي كان تقليص عدد الهيئات المركزية إلى 5 ودمج مهماتها بمهمات لجنة العمل. بدا الاقتراح مقنعاً وعملياً لدرجة أن أحداً لم يعارضه. وكان علينا أن نختار من سيبقى ومن سيخرج. أجرينا تصويتاً سرياً، وفاز كل من أصلان وفاتح ومنيف ونهاد بسبعة أصوات. وفزت أنا بستّة أصوات فقط. توقّعت أن يكون كامل صوّت لنفسه، أو ربما أحمد، وتفهّمت ذلك، ولكن أصلان الذي كان دوماً يحبّ أن يكون مباشراً إلى حدّ الفجاجة في صراحته قال لي:

“أنا لم أصوّت لك. صوّتّ لأحمد.

  • لست مضطراً لتقول لي ذلك، كما تعلم.
  • صحيح، ولكنني أريد أن أقول لك ذلك”. وصمتَ لحظة كأنه ينتظر مني أن أسأله لماذا، وحين لم أفعل تطوّع بالإجابة:

“لم أصوّت لك، لأن أسلوبك في الكتابة أسلوب صحافي أكثر من حزبي”.

ثمّة أشياء صغيرة تعيش معك إلى الأبد: كلمة أحياناً أو لفتة أو تربيتة على الكتف. كانت تلك واحدة من هذه الأشياء التي لا تريد أن تفارقني بعد أربعة عقود كاملة. ودّعت طاقم الجريدة وأبا بشار وهالة الجميلة وديانا الآسرة. وودّعت مقاهي الهورس شو، مقهى محمود درويش المفضّل، و “مودكا” ودولشي فيتا، حيث كنت ألتقي أحمد جمّول، الذي كان ترك سوريا واستقرّ في بيروت، وفيه التقيت أوّل مرّة حازم صاغية الذي كان نجمه بدأ يسطع بقوّة في عالم الكتابة والصحافة. وودّعت بيروت.

استقبلتني دمشق كما يليق بها، جميلة، متحفّظة، وخائفة. كان هواء الخريف يتسلّل بخبث من نافذة السيّارة وهي تدخل المدينة من بوّابة الربوة ذاك المساء التشريني الفاتن. لم يكن طريق بيروت الجديد عبر الديماس قد افتتح بعد، فكان على السيارة أن تمرّ بالهامة وقدسيا، ثمّ دمّر البلد، حيث كان بيتي الأخير على ضفّة النهر. مرّ البيت بخاطري، ومرّ أيضاً علي الكردي الذي تقاسمت معه غرفة هناك، وهو الآن في زنزانة رطبة فاسدة الهواء، فرانت عليّ كآبة شفيفة. كانت أمي تقول لي: “اتّقِ البرد في أوله”، وكنت أسمع نصيحتها دوماً، فألف حول عنقي شالاً خفيفاً.

أسقطني الأسد!

لم أُسقط حافظ الأسد، كما توّعدتُ في بيروت. أسقطني هو بعد سنتين حافلتين بأحداث متسارعة كانت تجعلنا في كلّ يوم نحبس أنفاسنا. زادت الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين، بعد مجزرة مدرسة المدفعية في حلب، عملياتها المسلحة ضدّ النظام، ولكن مدى تلك العمليات تجاوز مساحة النظام والمخابرات والجيش إلى فضاء الشارع في عمليات عدّة، كان أسوأها على الإطلاق مجزرة الأزبكية في مدينة دمشق. ولئن كانت مجزرة حلب كبيرة بحدّ ذاتها، فإن وقوعها في مدرسة عسكرية بعيدة من السكان المدنيين جعل أثرها محدوداً بالنسبة إلى الناس. بالمقابل، جاء تفجير سيارة مفخخة في قلب دمشق، في حيّ الأزبكية، ليهزّ أرجاء المدينة مادياً ومعنوياً. قضت العملية على 64 سورياً، ولكنها قضت أيضاً على آخر أواصر المودّة الخفية التي كانت نشأت بين الإخوان المسلمين والسوريين في السنوات السابقة.

كانت الأشهر الأولى لعودتي إلى دمشق حاسمة في إعادة تشكيل وعيي السياسي. في تلك الفترة، زاد الإخوان المسلمون وطليعتهم المقاتلة من تطرّفهم الراديكالي المعروف كلّما سنحت لهم الفرصة. ولوهلة بدا أن الإسلاميين يمسكون زمام المبادرة ويدفعون بالنظام إلى مواقع الدفاع. وحاول النظام، من جانبه، مغازلة الإسلاميين. وقام نائب المراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين أمين يكن بوساطة بين الجماعة والأسد، وبدا الأسد ضعيفاً في تلك اللحظة، واستجاب لطلب يكن بإطلاق سراح 500 معتقل إسلامي، وحاول إجراء تعديلات رئيسية في طريقة حكمه، فجاء بمهندس محترم هو عبد الرؤوف الكسم لتشكيل حكومة تكنوقراط، وألقى بسلسلة لا متناهية من الخطابات، أكّد فيها أنه مسلم يؤدّي فروض الدين، بل إنه التقى ببعض قيادات الإخوان – إذا صدّقنا نائب الرئيس فاروق الشرع في مذكّراته – ولكن “مطالبهم تجاوزت دور المشاركة في الحكم إلى تغيير كامل فيه”.

استقبلتني دمشق كما يليق بها، جميلة، متحفّظة، وخائفة. كان هواء الخريف يتسلّل بخبث من نافذة السيّارة وهي تدخل المدينة من بوّابة الربوة ذاك المساء التشريني الفاتن.

إلى جانب صراع الأسد والإخوان المسلمين، نشأ تطور اجتماعي سياسي في سوريا، لم نلقِ له بالاً كما كان ينبغي. بدأ الحراك تشكيل لجنة للحريات في نقابة المحامين، وانتقل بعدها إلى اتحاد الكتاب العرب ونقابات الأطباء والمهندسين والصيادلة. وبلغ ذروته في آذار/ مارس 1980، حين نفذت “نقابة المحامين السوريين” إضراباً عاماً في المدن السورية احتجاجاً على السياسية القمعية والاعتقالات العشوائية التي انتهجها النظام حينها. تضامنت نقابتا الأطباء والمهندسين مع نقابة المحامين. وأصدرت النقابات المهنية سلسلة من المواقف والبيانات والندوات الداخلية، طالبت فيها بإلغاء قانون الطوارئ وعودة الحياة الديموقراطية للبلاد ووقف الممارسات القمعية لأجهزة النظام، وبخاصة سرايا الدفاع التي كان يقودها شقيق حافظ الأسد الفاشي رفعت والتي أصبحت رمزاً للتسلط والإذلال. وكذلك فعل اتحاد الكتاب العرب الذي عقد مع قيادة الجبهة الوطنية التقدمية اجتماعاً عاصفاً تحدّث فيه الكتاب بجرأة غير مسبوقة منذ تسلّط البعث على مقادير الأمور في سوريا. وبرز من بين المتحدثين من الكتّاب وقتها الشاعر والمسرحي الراحل ممدوح عدوان الذي ألقى كلمة نارية تناقلها السوريون مسجّلة على شريط كاسيت، سرّاً كما كانوا يتناقلون الجرائد السرية المعارضة.

سكِرت، ومعي كثيرون، وأنا استمع لكلمات صديقي وشريك الغداءات اللطيفة في مطعم مجدولين، مع علي الجندي، وهو يؤنّب أعضاء وفد قيادة الجبهة الذي ترأّسه وقتها نائب رئيس الجبهة محمود الأيوبي. “أنا أشتغل في إعلام أخجل منه”، قال ممدوح بصوت متهدّج، متوجّس، ولكن مثابر، “لأنه يكذب بهذا المقدار. يكذب بدرجة الحرارة. يكذب بإخفاء الكوليرا، هل هناك أحد يخفي الكوليرا؟ يكذب بالتستّر على اللصوص، وعلى التجار والمرتشين وشركائهم، ويشكك بي وبكم حين كنتم تقولون إن الفساد قائم”. ثمّ سأل، “لماذا يكذب النظام؟ ولماذا يكذب الحزب؟ ولماذا تكذب فئة ما؟ الكذب ينطلق من الخوف، الخوف من الآخرين. والسلطات التي تكذب، هي سلطات تخاف الشعب، وتخاف أن يراها على حقيقتها (…) كلنا في هذا الاجتماع تجنبنا الحديث عن مسائل معينة. لا أحد تحدّث عن سرايا الدفاع. لا أحد تحدث عن المخابرات. لا أحد تحدث، إنْ لم نقلْ عن الوجه الطائفي للسلطة، فعلى الأقل عن الممارسة الطائفية لبعض العناصر في السلطة (…) في الماضي كان أحدهم يهتف في الشارع: حرامي! فيركض ألف مواطن لإلقاء القبض عليه. الآن يُقتل الإنسان في وضح النهار، بطلقات مسدس، ويسير القاتل، ولا أحد يدلّ عليه”. وفتنني وهو يلج منطقة المحرّمات: سرايا الدفاع، التي كان مجرّد ذكر اسمها يثير الرعب في قلوبنا جميعا. “أنا عندي سؤال أريد الجواب عليه الآن: اشرحوا لي ما هي سرايا الدفاع هذه؟ لماذا امتيازاتها؟ لماذا امتيازات جندي في سرايا الدفاع أكثر من ضابط في القوات العاملة؟ ولماذا لا نجرؤ على الحديث عنها؟ لماذا يتحدث الناس عنها وشوشة وهمساً فقط، وأنتم تعرفون هذا، بل إنكم أنتم أنفسكم تتحدثون عنها وشوشة وهمساً؟”.

رأيت ممدوحاً بعد أيام قليلة من كلمته المرعبة. سألته إن لم يشعر بالخوف وهو يلقي كلمته. أجابني وهو يطلق ضحكته المجلجلة التي كنت أخشى أن تصدّع جدران المكان من حولنا فتتهاوى فوق رؤوسنا:

“ارتعبت. ما بس خفت”. ثمّ جرع من كأسه جرعة كبيرة، والتفت إليّ يقول:

“بتعرف. هدول جبناء. هلق ما فيّن يعملوا شي معي”.

ترافق تحرّك النقابات المهنية مع تحرّك مديني في معظم المدن السورية، حيث أضربت الأسواق التجارية، وعمّت شوارع المدن، باستثناء دمشق، التي يتهمها محمد جمال باروت بأنها هي من كسر الإضراب. ولم يكن موقف جماعة الإخوان المسلمين من ذلك الحراك الشعبي واضحاً في تلك المرحلة. يحاول الإخوان دائماً أن يكون لهم قصب السبق، ولم يكن يسعدهم أن تتسيّد المشهدَ الشعبي النقاباتُ المهنية والتجار.

خلال شتاء 1980، ازداد نظام حافظ الأسد بؤساً، وأظهر الأسد نفسه مراراً على شاشة التلفزيون وفي اللقاءات الجماهيرية التي كان حزبه ومخابراته يرتّبونها لدرجة أنه بدأ يثير سخرية السوريين. وكان أكثر ما سخروا منه خطابه في يوم 8 آذار احتفالاً بالذكرى السابعة عشرة لانقلاب “حزب البعث”، حين قال بصوت بدا لنا مكسوراً: “إنني أؤمن بالله وبرسالة الإسلام. لقد كنت ولا أزال وسأبقى مسلماً، تماماً مثلما ستبقى سوريا قلعة شماء ترفع راية الدين الإسلامي عالياً”.

مع نهاية آذار، أدرك الأسد أن معركته معركةَ كسر عظم، فأحرق كلّ مراكب المفاوضات أو المصالحة مع الفئة الأكبر من شعبه. ولعب لعبته الكبرى وهي الربط ما بين الحراك المديني السلمي والتحرّك الإرهابي للإسلاميين، ووضع الجميع في سلّة واحدة، واستغلّ الأسد تحرّك الإخوان المسلمين للقضاء على كلّ أشكال المعارضة السياسية والمدنية والحقوقية، بما في ذلك ظاهرة التحرك النقابي، وفي نيسان/ أبريل 1980، حلّ النقابات السورية واعتقل قاداتها، وبعد أسابيع من ذلك الإجراء عيّن موالين له في قيادة النقابات لتتحوّل إلى مجرّد منظمات رديفة للأجهزة الأمنية، تمثّل العسكر والمخابرات أكثر بكثير مما تمثّل أعضاءها. وزجّت أجهزة الأسد بمئات المحامين والقضاة والكتاب والأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات في السجون، في مرحلة ستطلى بسواد فوق سواد امتدت عقداً كاملاً من الزمن، ولكنني سأكون بعيداً فلا أشهد ذلك بعيني.

30 عاماً

بعد 30 عاماً قام وريث الأسد بالسياسة نفسها عام 2011، حين ربط منذ اليوم الأول لانتفاضة السوريين في آذار بين الانتفاضة الشعبية وبين ما سمّته مستشارته بثينة شعبان حركة سلفية تسعى إلى إقامة إمارة سلفية في سوريا. ولكن سوريا 2011 لم يكن فيها إرهابيون وجهاديون، فكان على الأسد الابن أن يخلق ذلك التيار، فأطلق سراح المئات من الجهاديين الذي كان يرسلهم للقتال في العراق، فإذا أبوا الموت وعادوا، أودعهم في سجن صيدنايا سيئ السمعة.

كنا في لجنة العمل نراقب الوضع ساعة بساعة، ونحاول أن نتلمّس طريقنا. كنا نتابع الصراع بين الأسد والإخوان من جانب، وبين الأسد والنقابات من جانب آخر. ووقعنا في ما كان يريد النظام إيقاعنا به، فربطنا بين التحرّكين، على رغم أنه لم يكن بينهما رابط. كانت الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين تريد إسقاط “الحكم النصيري الباطني المجوسي” وإقامة دولة إسلامية “تقيم حكم الله” وتعتبر المجتمعات غير السنية من أهل الذمّة في أحسن الأحوال. وهي كانت تسعى لذلك من خلال العنف والعمليات الإرهابية. النقابات بالمقابل كانت تطالب بإلغاء حالة الطوارئ وإطلاق سراح المعتقلين واحترام حرية التعبير وإقامة نظام ديموقراطي مدني. بل إن الودّ بدا مفقوداً بين جهاديي الإخوان المسلمين والنقابات، إلى حدّ أن الطليعة المقاتلة أصدرت بياناً في حلب سخرت فيه من المطالب الديموقراطية الليبرالية للنقابات، ودعت خلاف تلك المطالب إلى مواصلة المجابهة المسلحة حتى إسقاط النظام. وأكثر ما أزعج الطليعة المقاتلة أن بعض القوى اليسارية والقومية بدأت تساند الحراك الشعبي والنقابي، وهي رأت في برنامج النقابات “محاولة قومية يسارية لاستثمار ما قامت به هي”، وشعرت بأن النقابات تكاد تسحب البساط من تحت أرجلها. صادرت الطليعة الإضراب الذي كان يمكن أن يتحول إلى عصيان مدني شامل، وتمكنت من تحويل الحراك المدني إلى تمرّد مسلّح.

سوريا 2011 لم يكن فيها إرهابيون وجهاديون، فكان على الأسد الابن أن يخلق ذلك التيار، فأطلق سراح المئات من الجهاديين الذي كان يرسلهم للقتال في العراق

تجمّعت تلك الأحزاب اليسارية والقومية أخيراً في نهاية 1979 في تكتّل واحد سمّوه “التجمع الوطني الديموقراطي”، جاء نتيجة لحوارات طويلة بين الزعيم الشيوعي المخضرم رياض الترك والزعيم الناصري المرموق جمال الأتاسي والأمين القطري لجماعة 23 شباط أحمد درويش، الذي قال لولده مازن درويش في جلسة خاصة: “إذا كانت هذه قيادات معارضتنا، فأعتقد أن حافظ الأسد سيحكمنا حتى نموت”. وفي نهاية العام تمّ الإعلان عن تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي في نهاية عام 1979، جامعا خمسة أحزاب سياسية قومية ويسارية، وهي حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي، والحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي)، وحزب العمال الثوري العربي، وحزب البعث العربي الاشتراكي الديموقراطي، وحركة الاشتراكيين العرب (جناح عبد الغني عيّاش). ورأينا من دون تحيّز أو سخرية أن شقيقات هذه الأحزاب نفسها موجودة في الجبهة الوطنية التقدمية الحاكمة في سوريا: حزب الاتحاد الاشتراكي (صفوان قدسي) وحركة الاشتراكيين العرب (عبد الغني قنّوت) والحزب الشيوعي السوري (خالد بكداش)، وحزب البعث (حافظ الأسد). فقط حزب العمّال الثوري لم يكن له شقيقي في جبهة السلطة.

أما نحن في الرابطة فتمّ استبعادنا. كان جمال الأتاسي يرغب في ضمّنا، وحين كنت ألتقيه أحياناً لتسليمه الراية الحمراء، كان يعبّر عن تعاطفه معنا، ويقدّم لي نصائح، أبوية إلى حدّ ما، غالبا ما كنت أستمع إليها بتهذيب، ولكنني كنت أرميها وراء ظهري حال خروجي من عيادته. كنت أحب الإصغاء إلى الأتاسي، وأتأمّله وهو يحكي بهدوء وثقة، من وراء نظّارتين كانت تعطيانه مزيدا من الوقار والدعة، ولكنّ نفوري من كلّ ما يتعلّق بعبد الناصر، سياسة وفكرا وتنظيما، كان يجعلني أهز كتفيّ بعد خروجي من عيادته، كأنني أنفض عنهما الأفكار التي كان يقولها لي. “ابن العم”، في أي حال – هو من وقف في وجه انضمامنا، وبقوّة. لم ألتقِ رياض الترك مطلقاً قبل خروجه من زنزانته في فرع التحقيق العسكري التي أمضى فيها أقلّ بقليل من 18 عاماً. لا، بل فعلت! التقيته بضع مرّات، ولكننا لم نتحدّث مطلقا. جاورته في زنزانة قريبة من زنزانته في فرع التحقيق. كنت في الزنزانة رقم 37 وكان في الزنزانة رقم 51. ولكن بينما أمضيت في زنزانتي بضعة شهور فقط، أمضى ابن العم 17 عاماً ونيّفاً في غرفة بطول 190 سنتمتراً وعرض 190 سنتمتراً، لا نافذة، لا هواء، لا ضوء، ولا شمس. كان الهواء يأتينا من خلال مضخة تضخّ لنا الهواء وشفّاط يسحبه، إذا لم تنقطع الكهرباء، وكثيراً ما انقطعت. بعد 11 سنة أعطوه سريراً، بعدما مرض وتدهورت صحته. لمحته أوّل مرّة، رجلاً ضئيلاً، محنيّ القامة، يحمل طشتاً كبيراً ويمضي به من الحمّام إلى الزنزانة. لم يبدُ لي سجيناً عادياً. وكنت أرى أن السجّانين يعاملونه بشيء من الاحترام. ربّما الرهبة؟ ثمّ رأيته ثانية. وسألت أحد السجّانين الذين كان يبدي تعاطفاً معي لأنني لم أكن من الإخوان المسلمين.

“مين صاحبك اللي بـ”واحد وخمسين؟”.

“هذا من جماعتكم،” قال مجيباً، ومضى بسرعة، كأنه لا يريد أن يتورّط أكثر.

حاولت أن ألفت انتباهه ذات مرّة، ولكنه لم يكن يأبه بأي شيء خارج دائرة زنزانته. وقال بعد سنوات لعلي أتاسي معدّ فيلم “ابن العم” الوثائقي كيف استطاع الصمود في زنزانته كل هذه السنوات. “أنا حللت الموضوع ببساطة”. قال لعلي، “أنا أصبحت أسيرَ النظام. خرجت من اللعبة، من لعبة الصراع السياسي بين الحاكم والمحكوم. ولم يعد أمامي سوى مهمّة واحدة ووحيدة وهي ألا أساعد النظام على إعطاء أي شيء يمكن أن يستفيد منه ضدّ حزبي. كمعلومات وكموقف سياسي. خارج هذه النقطة، أنا صرت صفراً. فإذا أنت اقتنعت بهذه النقطة بالذات، بالمقابل عليك أن تقبل جحيم هذا النظام كثمن للتمسك بذلك”. التقيته كثيراً بعد خروجه من السجن. زرته في بيته في حمص، وامتلك روحي بعد خمس دقائق، ببساطته ومباشرته وشجاعته وعدم اعتداده بنفسه وإيثاره بلده وشعبه وحزبه على نفسه دوماً. سحرني بعبارة ابن العم التي كان يناديني بها، كما ينادي جميع من يحبّهم، بتحبّب وألفة وتواضع. ازدادت وتيرة لقاءاتنا بعد اعتقاله من قبل الأسد الابن. حين سألته عن حبسته الجديدة، أزال سيجارته التي كان وضعها بين شفتيه ليشعلها، وقال بلهجته الحمصية العميقة التي أحبّها:

“هاي مانا حبسة، ابن العم. هاي سيران”.

ثم ضحك بصخب ضحكة مديدة، وأشعل السيجارة، وعبّ منها نفساً عميقاً، ثمّ نفث الدخان في سماء الغرفة، وغاب عني بخياله لحظة، قبل أن يعود مسرعاً ليستأنف حديثه.

عدتُ لأُسقِط حافظ الأسد!