ماذا يعني قص الشعر، رفاهية، تمرّد، وسيلة رعاية ذاتية؟!
هذا كله تدعيه وسائل المعرفة والعلم والسلوكيات، لكننا خارج إطار ذلك، أقصد نحن “نساء غزة”، فإننا نعامل معاملة الخارقين في كل شيء بالحياة اليومية، فلمَ لا نكون خارج حدود التصنيفات في ذلك؟!
لنفترض ذلك…
حين قصصت شعري للمرة الأولى، كنت في الثامنة من عمري، وكنت أعتمد تسريحة شعر ثابتة لا تحيد عنها الأمهات في ذلك الوقت، وهي تسريحة الضفيرتين المجدولتين.
في المدرسة المختلطة، كانت ألعابنا مشتركة، كنا نقفز فوق الأسوار، ونتشارك لعبة الحجلة أحياناً كثيرة. كانت أمي صاحبة قرارات صارمة، تنبّه وتنذر وتتوعّد ثم تنفّذ مباشرة من دون واسطات.
في أحد الأيام الربيعية الأخيرة من السنة الدراسية، اصطحبتني أمي إلى بيت صديقتها وقررت أن تقص لي شعري إلى حد لا يسمح بأن تُصنع منه جديلة واحدة. جلستُ على مقعد صغير أمام مرآة فيما أمي وصديقتها تقفان فوق رأسي وتقرران عني قصة شعري، وتحاول كل منهما إقناع الثانية بقرارها.
وددت لو أعطيهما رأسي وألهو أنا بلا رأس، فلن يكون ذلك عبئاً على أمي التي تمضي ساعات بعد المدرسة توبّخني وقبلها تنذرني وتتوّعد.
حين حاولت “خلع” رأسي، قررت صديقة أمي أن تقص شعري كما تريد أمي، وفيما كانت تقصه وتضحك صار رأسي كرة تسقط وترتد نحو الأرض وتسيل منه ذكريات ودم وضحك وحزن وأوراق وصوت حجر الحجلة.
كانت خصلات شعري تقفز بين يديها كقفزات أصدقائي عن السور، هذا كله يظهر أمامي في المرآة بوضوح، لكن الابتسامة التي ارتسمت على وجه أمي بدت ابتسامة المنتصر الأعظم لقراراته.
كنت الوحيدة بين شقيقاتي الأربع بشعر قصير، ومع مرور الوقت بدأت أقتنع بالقصة التي قررتها أمي، وصارت لشعري عادات معينة فلا يتخطى طوله كتفيّ، وكلما طال قصصته، وكان وجه أمي يتراءى لي في المرآة في كل مرة مبتسماً، بينما خصلات شعري تسقط عن رأسي وكتفي.
بعدها، بدأت علاقتي بشعري تأخذ حيزاً خارج حدود الاهتمام الأنثوي بالشعر، فأصبح لديّ حرص دائم على أن يكون شعري مميزاً خلال حفلات الزفاف، حيث كانت تدعوني “ستي” إلى ساحة الرقص فيما هي تغني “من فوق رمش العين الغرة ميالة”، وتشير بيدها إلى كل الحفيدات وأنا إحداهن، بينما تجلس على كرسيّها تحوطنا وتفرد كفّيها حولنا أمام الحاضرين، في إشارة الى رد العين والحسد عن الصبايا المتمايلات بشعورهن في ساحة الرقص، وكانت تردد “صلوا على النبي”، الأغنية التي ارتبطت بنا وبها في كل أعراس العائلة، فما إن كانت تسمعها الحاضرات حتى يلتفّين نحونا في إشارة إلى أن الرقصة تخصّنا، وويل لكل متخلّفة عن الرقص!
إنها حاجة “ستي” الى التباهي بجمال قصات الشعر وحضورنا المكتمل به أمام الحاضرات من النساء.
“ينشأ الشعر كما ينشأ الشجر”، هذا ما كانت “ستي” تردده في جلساتها، تحذّرنا من قصه في الخريف والشتاء، وتحرص على أن نقلّمه في الربيع. إذ يتساقط الشعر كتساقط أوراق الشجر في الخريف والشتاء، ما يجعله بحاجة الى الطول والكثافة كي يدفئ الرأس. لكن مع بداية الربيع، علينا أن نقلّم أطراف الشعر كي يزهر مع الربيع والصيف، وهما الموسمان اللذان تطلق عليهما نساء العائلة تسمية “موسم تنقيب العنب”، أي موسم قطف ورق العنب وتخزينه.
خصلات الشعر تلك الملقاة على الأرض أمامي، تبدو كأنها أسلوب نجاة من كل شرور الأعباء، وسجن الشعر بغطاء الرأس فترة طويلة، والوقوف أمام موقد النار وخسارة كل تفاصيل، ما يجعل مرآة جسد المرأة شعرها.
في الحرب كيف تبدو الأغنيات وبذخ الاختيارات وقد طاولت كل مواسم الشعر؟
بدأت الحرب في موسم الحُب والحَب، أحبّ المواسم إليّ، وهو “الخريف”، حيث الانكسار لحدة الصيف ودخول البرد الخفيف إلى الجسد، وخلاله تحرص النساء على ألا تقصصن خصلة واحدة من شعرهن كي لا يخسرن كثافته.
تقليد عائلي نعرفه في ما بيننا، “كل شيء يسقط وحده، لا داعي لدفعه لذلك”، لكن الحرب استمرت وصار الشعر عبئاً على الرأس وعلى الاهتمامات.
هذه المرة الأولى التي أتنازل فيها عن تقليد العائلة وأسمح لنفسي بأن أبحث عن صديقي الكوافير ومكان نزوحه في رفح كي أتخلّص من عبء الشعر على طاقتي خلال الحرب. فلا ماء صالح لأغسل به شعري، وإن وُجد فأين ترف ” الدش”، وبيد واحدة عليكِ أن تنهي عملية غسل الشعر.
وبسرعة!
نعم بسرعة!
بسرعة تفقد فيها رفاهية “الوقت المخصص للاهتمام والعناية”،
لا ضمان يجعلك تنهي هذه العملية.
تخشى النساء في الحرب من أن ينتشلها منقذ وهي عارية في حمام، أو أن يحدث طارئ يجبرها على الخروج من الحمام عارية، أو أن تفقد حياتها وهي عارية!
هذا كله يجعلها تشعر بأن الشعر عبء على الوقت المستهلك في الحمام. فالخيار الأفضل هو قص الشعر!
بحثت عن صديقي “الكوافير” في رفح، اتصلت به، لكن يا لسخرية القدر مرة أخرى!
لقد نزح من دون عدّة القص الخاصة به.
انتظرنا أن يأتي الحل في شارع برفح، وبعد وقت استطعنا أن نصل إلى محل “حلاق رجالي”، حيث استعرنا المعدات الخاصة وكأننا نقوم بمهمة سرية لا يمكن التجرؤ والاعتراف بها.
ومن هناك، بحثنا عن مكان نأوي إليه كي تتم المهمة. وأمام المرآة في بيت ابنة أخت صديقي الحلاق، جلست وبدأ هو مهمته فيما نشكي ألم العبء، إنها المرة الأولى التي لم يظهر فيها وجه أمي مبتسماً. لقد ظهر أصدقائي يقفزون عن كتفي ويلقون بحجر الحجلة في رأسي ويختفون. ومن بعدهم، ظهرت “ستي” وهي تشير إليّ بأن أحتفظ ببعض من شعر الغرة لرقصة قادمة. صادف ذلك اليوم ذكرى وفاتها السنوية الأولى، تجاهلت الجميع هنا في المرآة وفرحت بانهيار العبء عن كتفي نحو الأرض.
تجبر الحرب النساء على السجن في قصر الساحرة، كما تحجب الشعر الطويل ذاته عن العالم، كأنها تعاقبهن على خطأ لا ذنب لهن فيه.
خصلات الشعر تلك الملقاة على الأرض أمامي، تبدو كأنها أسلوب نجاة من كل شرور الأعباء، وسجن الشعر بغطاء الرأس فترة طويلة، والوقوف أمام موقد النار وخسارة كل تفاصيل، ما يجعل مرآة جسد المرأة شعرها.
عدا عن عبء رفاهية الاهتمام بالشعر، فالنساء دائمات الخجل من الاعتراف بحاجتهن الى الرعاية. تقول صديقتي إن ما أجبرني على قص شعري خلال الحرب هو خوفي من حماية نفسي حينما انتشرت قصص التحرش بالنساء وقت حصار مستشفى الشفاء بغزة، كنت بالنصيرات وفي كل مرة تظهر أمامي القصة كنت أخشى أن أكون الضحية القادمة وشعري الدليل الوحيد على أنوثتي هذه. كنت بحاجة الى الرعاية، لكنها كانت بذخاً وترفاً في ظل اتساع حلقة الموت وانطباقها علينا أكثر، فلجأت إلى قص شعري وحدي، وقفت أمام المرآة وبكامل طاقة الافتراس الموجودة في داخلي قصصته…
سألت صديقة: هل الحرب تزيدنا قوة أم ضعفاً أم شراسة؟
قاطعتنا صديقة أخرى وقالت: الحرب تزيد من شراستنا تجاه الأشياء، تصير حاجتنا الى الانتقام من أعباء صغيرة أشدّ.
سألتهما: والشعر جزء من أعبائنا الصغيرة؟!
أجابتا: نعم، وإلا بمن سنفرغ هذا كله؟!
نبحث عن أكثر الخيارات ضعفاً ونتخلّى عنها…
إذاً، نحن النساء أعباء على الحرب، فتعاقبنا الحرب؟!
وها أنا في مكان جديد بعد نزوح خامس أسأل: معقول في كوافير قريب أقصّ عنده شعري؟!
أحياناً كثيرة، ننجح في قول الكثير عن مشاعرنا المشتركة أو عن خبرتنا تجاهها، إذ نحرص على أن نعيش المغامرة، لا نحكي عنها أبداً كي لا يصير ذلك تهديداً لنا… كيف؟!
في الحروب، تعيش النساء مغامرات لا تحكي عنها أبداً أو ربما تؤجل الحديث عنها لاحقاً، فلا ترف لذلك.
مثلاً، لا يخطر لي الآن سوى مشهد النهاية لسيناريو الحرب بعد حين.
أجتمع ونساء المدينة أمام المرايا في ساحة رقص واسعة مثلما كانت تنادي “ستي”، جميعنا بتسريحة شعر ثابتة، قصيرات الشعر نقف وقفة (عبلة كامل) في مشهد الرقص على أغنية “بيبه” في فيلم (عرق البلح)، ملامحنا موحّدة تشبه ملامح جمع النساء في نهاية فيلم (هلأ لوين)، ثابتة تغزوها ملامح الشك في مواطن التساؤل عن شراسة النساء نحو التخلّي عن جمالهن في الحروب والأغنية تصدح:
قصين الشعر يا صايناته عاد!
قصين الشعر يا صايناته عاد
ما الغُرة بطلت ميالة عاد!
نحن النساء بارعات في الاحتفاظ بالأثر، وحيلتنا الدائمة في التجربة أن نجرب مسعى آخر لدورنا وتلك حروب أخرى!
حزيران/ يونيو 2024
فداء زياد
فصول الدهشة ومحاولات النجاة
غزة- فلسطين
إقرأوا أيضاً: