fbpx

لم تنجُ لندن من العنف يوماً، لكنها تفوقت الآن حتى على نيويورك

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

تُشبه لندن مدينة نيويورك بشكلٍ متزايد، إذ أصبح الشباب الساخط هو قوام عصابات الشوارع في المجتمعات السكنية الصعبة، فشكل بذلك دوامة جرائم القتل المألوفة التي تحاكي حياة العصابات في نيويورك. العولمة، والهُوة المتعمقة بين الأغنياء والفقراء، والعزلة الحادة، وتهميش شباب مدننا، أصبحت سمة حالية بين المدينتين..

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لقد زرع حليقو الرؤوس ومتعصبو كرة القدم الفوضى الدامية المميتة في لندن لعقودٍ من الزمن، لكن جرائم العصابات وعنف مروجي المخدرات قد تسبب في الآونة الأخير، في ارتفاع معدل جرائم القتل في المدينة، لتفوق جرائم مدينة نيويورك.

كادت أول لكمة عنيفة تلقيتها أن تهشم رأسي، وكانت من القوة بحيث شعرت وكأن جمجمتي قد انفصلت عن عمودي الفقري. ثم اندفع المزيد من حليقي الرؤوس الذي تفوح منهم رائحة العرق بعد ما بذلوه من جهد في ساحة الرقص إلى خارج الحانة، وأخذوا يطوقونني، واختلطت رائحتهم بفورة غضبهم المزمجر. وبعد سلسلةٍ من اللكمات، انهال علي وابلٌ من الضربات، أسقطتني على الرصيف القذر المغطى بالعلكة. ومن ثم بدأت الوحشية الحقيقية.

وبعد اللكمات الموجهة بدقةٍ إلى أماكن محددةٍ، تلتها ركلات بأحذية من نوع دكتور مارتن اللامعة ذات المقدمة الفولاذية، لترتطم بوجهي ومؤخرة رأسي. فجأة، بعد شعوري بكسر أسناني الأمامية، بدأ يسيل في فمي دمٌ ممزوجٌ بمذاق جعة غينيس، وكانت كأسي نصف الفارغة لا تزال على منضدة الحانة قبل أن تبدأ الواقعة.

ما زلت غير متأكدٍ مما تسبب في بداية المشاجرة، لكنني أعتقد أن الواقعة انطلقت عندما اندفع أحد حليقي الرؤوس، من ساحة الرقص، فوضعت ذراعي بشكل تلقائي لحماية جعتي من أن تسكب، الأمر الذي اعتُبر بمثابة عملٍ عدائيٍ من قبل مجموعة من حليقي الرؤوس، كانوا قد استولوا على الحانة وقاعة الرقص في لوريل تري، في كامدن تاون، شمال لندن، وهي منطقة مألوفة بعد ساعات العمل.

هرعت مسرعاً خارج الحانة لتجنب ما يطلق عليه اسم “غلاسنغ” (a glassing)- وهي ممارسة كانت شائعة في حانات لندن في أواخر التسعينيات، حيث يتم تحطيم زجاجة من نصف لتر إلى نصفين ويتم غرز قاعها وحوافها المتعرجة في وجه الضحية البائس-، لقد تجنبت ذلك المصير، لكنني تلقيت ركلات شديدة القوة، فقدت الوعي على إثرها، قبل أن تنسحب مجموعة حليقي الرؤوس.

وبعد بضع دقائق، سحبني أحد الأصدقاء، الذي تعرض هو أيضاً للاعتداء، لكن ليس بالقسوة ذاتها، ووضع جسدي الهزيل على قدميه، وكان وجهي مضرّجاً بالدماء، بينما كنت أصارع لاستعادة وعيي. مرتْ بالقرب منا سيارة شرطة في دورية روتينية، وبعد مشاهدتنا، أبطأت من سرعتها، وتوجه أحد رجال الشرطة إلينا عبر باب السيارة المفتوح على مصراعيه مستفسراً: “هل رفيقك على ما يرام؟”، أجابه صديقي وهو يحاول جاهداً الإمساك بي: “نعم، سيكون على ما يرام!”، على إثر ذلك، قدم رجال الشرطة تحية ودية، وانطلقوا في طريقهم، أما أنا فقد وصلت إلى المستشفى عند الثالثة صباحاً تقريباً.

كانت تلك هي مدينة لندن عام 1995، المدينة التي عشت فيها، ولهذا السبب لم تكن أخبارالأول من أبريل/نيسان الواردة من لندن– التي تشير إلى أن المدينة تشهد للمرة الأولى معدل جرائم قتل أعلى من نيويورك، من خلال تفاقم سلسلة عمليات الطعن المرتبطة بالعصابات، وعمليات إطلاق النار من السيارات، ذات الصلة بعصابات الكوكايين، والمشادات التافهة في حي هاكني الذي كنت أُقيم فيه قديماً، والتي أراها على مواقع التواصل الاجتماعي- مفاجأة بالنسبة إلي. فلطالما اندلعت أعمال العنف خلف الواجهة البراقة لمدينة لندن.

في التسعينات، كان عنف الحانات والشوارع جزءاً يومياً من حياتنا، بخاصة بين الشبّان الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و29 عاماً، إذ تحدث نصف حالات الاعتداء التي يتعرض لها الرجال في تلك الفئة العمرية داخل الحانات، وفي محيطها. وكان الجناة فخورين بما يقترفونه من أعمال عنف، وهو ما اكتشفته بعد إجراء عمليات الأشعة على الدماغ، وترميم الأسنان، عندما عثرت على ورقة صغيرة وُضعت داخل الجيب العلوي من سترتي الجلدية، كُتِب عليها “لقد قابلت للتو جماعة وست هام إنتر سيتي”. وكان حليقو الرؤوس من مشجعي نادي “ويست هام” لكرة القدم في شرق لندن.

غالباً ما كانت أعمال العنف ترتكز حول فرق كرة القدم، ويمكن اندلاعها في أي جزء من لندن، سواء كان في الأحياء الفقيرة أو الراقية. لقد اعتدتُ عند مغادرة شقتي في فينسبري بارك صباح يوم الأحد لأخذ الصحف، أن أصادف صاحب الحانة المجاورة لبيتي، ينظف بقايا الزجاج المحطم، والدماء على الأرض، بعد انتهاء “المعارك الهوجاء” بين مشجعي فريقي “أرسنال” و”تشيلسي”.

عام 2002، انتقلت إلى شقة في عمارة من طابقين في East Village، بمدينة نيويورك، على بعد ثلاثة آلاف ميل من شقتي في شمال لندن، على رغم اعتراض بعض أفراد العائلة الذين تربوا على إيقاع مشاهد أفلام الشرطة الأميركية، وأفلام مثل The Warriors، الذين اعتقدوا أنني سأعيش في واحدة من أخطر المدن في العالم.

ولكن بدلاً من ذلك، وجدت مانهاتن مذهلة بما تتميز به من السكينة والكياسة. وقد أعرب لي سكان نيويورك وهم يحتسون “فودكا مارتيني” عن ذهولهم عندما أخبرتهم عن تجربتي اليومية في حانات لندن، وأبلغتهم أننا كُنا نتشاجر باستمرار في الحانة، لمجرد الحصول على اهتمام السقاة، مع احتمال اندلاع المعارك في أي لحظة. في المقابل، من الشائع أن يعتذر لك أحد سكان نيويورك إذا اصطدم بك عن غير قصد في الشارع، ويحدّث بأسلوب مهذب من قبيل “من فضلك” و”شكراً لك”، الأمر الذي جعلني أتفاجأ إلى حد الذهول. فلم أشعر أبداً بالتهديد أثناء السير في شوارع مانهاتن في الساعة الثالثة صباحاً، على عكس لندن التي تعرضت فيها إحدى المرات للسرقة بعد تهديدي بالسكين بينما كنتُ أسير في شوارعها.

“لا شك في أن التاريخ البشع لانتشار تعاطي الكوكايين في نيويورك سينتقل إلى لندن أيضاً”

في الحقيقة، كان أثر العداء الوحيد الذي عشته في نيويورك، عندما أرغمتني صديقتي لحضور أمسية شعرية مرتجلة، في مستودع في منطقة تشيلسي، من أداء امرأة ترتدي ملابس سوداء وتقرأ بضعة مقاطع شعرية مكتوبة بطريقة سيئة، قبل أن تنطلق في العويل والصراخ في الميكروفون لمدة عشر دقائق في كل مرة، ثم تعود إلى مقطعين كتبا بشكلٍ أكثر رداءة. وعندما سألني أحد محبّي الفنون الحديثة بحماسة، ما رأيي في الأداء بعد أن رفع نظارته المصنوعة من البلاستيك ذات الحجم الكبير إلى أعلى أنفه، ترددت في الجواب، ثم قلت له إنني لم أرَ أي قيمة فنية في ذلك، تذمر من جوابي، وصرخ قائلًا: “يا إلهي”، ثم شبك ساقيه بتكلف، متوجهاً إلي بالقول “أنتم أيها البريطانيون بغيضون حقاً”.

شعرت وكأنني همجي خرجت للتو من أرض غريبة، لكنني وقعت في حب مدينة نيويورك ورقتها وذوقها وأناقتها.

على مدى سنوات عدة، شرعت في مهمات صحافية، مثل التحقيقات حول معسكرات استخراج الذهب غير القانونية في أفريقيا، أو قضاء أسابيع مع صياد الجوائز في جنوب وسط لوس أنجلوس، ثم العودة من ساحات النزاع وجنون العالم الخارجي، لأستريح في ظل رقي مانهاتن وهدوئها، حيث أشعر بالأمان.

لكنني كنتُ أعيش داخل فقاعة. وعندما شرعت في تأليف كتابي “الجنس، المال، الجريمة:  قصة حول الكراك والدم والخيانة“، عن واحدة من أخطر عصابات البرونكس، واستحواذهم القاتل على مشاريع الإسكان في الثمانينات والتسعينات، أصبت بالصدمة فعلاً عندما اكتشفت عالماً معزولاً عرقياً، ومستوى من الفقر ينافس إلى حد كبير ما رأيته في الأحياء الفقيرة في البرازيل، أو في مدينة كينجستون بجامايكا، إلا أن الأمر يحدث هذه المرة في المدينة التي أحببتها.

كانت جزيرة مانهاتن حيث أقيم، مختلفة تماماً عن العالم الذي عشت فيه عبر نهر هارلم في برونكس. ثمة تباينٌ صارخٌ بين كراك الكوكايين والجيش المتنامي من الشباب المتدفق لتشكيل العصابات، وبين النخبة الثرية التي اختلطتُ بها في الجانب الشرقي الأعلى من المدينة.

وبالطبع، قد يعود سبب شعوري هذا، لأنني انتقلت من أحد الأحياء الفقيرة في لندن إلى واحدة من أكثر أحياء نيويورك الأرستقراطية في أطراف حي الفابيت سيتي. لكن في الوقت الذي تواجه فيه لندن تحديات كبيرة في الأشهر المقبلة، لا شك في أن التاريخ البشع لانتشار تعاطي الكوكايين في نيويورك سينتقل أيضاً إلى لندن، وعلى غرار “بيغ آبل” (الاسم الذي يطلق على نيويورك)، تملك لندن مجمعات سكنية عامة ذات كثافة سكانية عالية، تُمولها الحكومة أصبحت حاضنة لجرائم العنف، مثلها مثل ما يحدث في برونكس التي تضررت بشدة في التسعينات، ولا تزال تعاني حتى يومنا هذا.

عندما أعود إلى لندن في الوقت الراهن، أرى أن المدينة تعرضت لعملية تجريفٍ ساحقٍ، بعد أن استولى الروس الأثرياء على المناطق المركزية الثرية بالقرب من بادينغتون، أو تشيلسي كينسينغتون، واشتروا جميع العقارات باهظة الثمن، ما تسبب في ارتفاع أسعار الإيجارات إلى مستويات قياسية، في حين أجبِرت الحانات والمطاعم المحلية على غلق أبوابها نظراً إلى نقص الزبائن.

تُشبه لندن مدينة نيويورك بشكلٍ متزايد، إذ أصبح الشباب الساخط هو قوام عصابات الشوارع في المجتمعات السكنية الصعبة، في توتنهام وشمال لندن، فشكل بذلك دوامة جرائم القتل المألوفة التي تحاكي حياة العصابات في نيويورك. إن العولمة، والهُوة المتعمقة بين الأغنياء والفقراء، والعزلة الحادة، وتهميش شباب مدننا، أصبحت سمة حالية بين لندن ونيويورك وغيرهما من المدن الكبرى في العالم، في محاكاة غريبة لبعضها بعضاً.

جوناثان جرين

هذا المقال مترجم عن the daily beast ولقراءة المقال الاصلي زوروا الرابط التالي

لقد زرع حليقو الرؤوس ومتعصبو كرة القدم الفوضى الدامية المميتة في لندن لعقودٍ من الزمن، لكن جرائم العصابات وعنف مروجي المخدرات قد تسبب في الآونة الأخير، في ارتفاع معدل جرائم القتل في المدينة، لتفوق جرائم مدينة نيويورك.

كادت أول لكمة عنيفة تلقيتها أن تهشم رأسي، وكانت من القوة بحيث شعرت وكأن جمجمتي قد انفصلت عن عمودي الفقري. ثم اندفع المزيد من حليقي الرؤوس الذي تفوح منهم رائحة العرق بعد ما بذلوه من جهد في ساحة الرقص إلى خارج الحانة، وأخذوا يطوقونني، واختلطت رائحتهم بفورة غضبهم المزمجر. وبعد سلسلةٍ من اللكمات، انهال علي وابلٌ من الضربات، أسقطتني على الرصيف القذر المغطى بالعلكة. ومن ثم بدأت الوحشية الحقيقية.

وبعد اللكمات الموجهة بدقةٍ إلى أماكن محددةٍ، تلتها ركلات بأحذية من نوع دكتور مارتن اللامعة ذات المقدمة الفولاذية، لترتطم بوجهي ومؤخرة رأسي. فجأة، بعد شعوري بكسر أسناني الأمامية، بدأ يسيل في فمي دمٌ ممزوجٌ بمذاق جعة غينيس، وكانت كأسي نصف الفارغة لا تزال على منضدة الحانة قبل أن تبدأ الواقعة.

ما زلت غير متأكدٍ مما تسبب في بداية المشاجرة، لكنني أعتقد أن الواقعة انطلقت عندما اندفع أحد حليقي الرؤوس، من ساحة الرقص، فوضعت ذراعي بشكل تلقائي لحماية جعتي من أن تسكب، الأمر الذي اعتُبر بمثابة عملٍ عدائيٍ من قبل مجموعة من حليقي الرؤوس، كانوا قد استولوا على الحانة وقاعة الرقص في لوريل تري، في كامدن تاون، شمال لندن، وهي منطقة مألوفة بعد ساعات العمل.

هرعت مسرعاً خارج الحانة لتجنب ما يطلق عليه اسم “غلاسنغ” (a glassing)- وهي ممارسة كانت شائعة في حانات لندن في أواخر التسعينيات، حيث يتم تحطيم زجاجة من نصف لتر إلى نصفين ويتم غرز قاعها وحوافها المتعرجة في وجه الضحية البائس-، لقد تجنبت ذلك المصير، لكنني تلقيت ركلات شديدة القوة، فقدت الوعي على إثرها، قبل أن تنسحب مجموعة حليقي الرؤوس.

وبعد بضع دقائق، سحبني أحد الأصدقاء، الذي تعرض هو أيضاً للاعتداء، لكن ليس بالقسوة ذاتها، ووضع جسدي الهزيل على قدميه، وكان وجهي مضرّجاً بالدماء، بينما كنت أصارع لاستعادة وعيي. مرتْ بالقرب منا سيارة شرطة في دورية روتينية، وبعد مشاهدتنا، أبطأت من سرعتها، وتوجه أحد رجال الشرطة إلينا عبر باب السيارة المفتوح على مصراعيه مستفسراً: “هل رفيقك على ما يرام؟”، أجابه صديقي وهو يحاول جاهداً الإمساك بي: “نعم، سيكون على ما يرام!”، على إثر ذلك، قدم رجال الشرطة تحية ودية، وانطلقوا في طريقهم، أما أنا فقد وصلت إلى المستشفى عند الثالثة صباحاً تقريباً.

كانت تلك هي مدينة لندن عام 1995، المدينة التي عشت فيها، ولهذا السبب لم تكن أخبارالأول من أبريل/نيسان الواردة من لندن– التي تشير إلى أن المدينة تشهد للمرة الأولى معدل جرائم قتل أعلى من نيويورك، من خلال تفاقم سلسلة عمليات الطعن المرتبطة بالعصابات، وعمليات إطلاق النار من السيارات، ذات الصلة بعصابات الكوكايين، والمشادات التافهة في حي هاكني الذي كنت أُقيم فيه قديماً، والتي أراها على مواقع التواصل الاجتماعي- مفاجأة بالنسبة إلي. فلطالما اندلعت أعمال العنف خلف الواجهة البراقة لمدينة لندن.

في التسعينات، كان عنف الحانات والشوارع جزءاً يومياً من حياتنا، بخاصة بين الشبّان الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و29 عاماً، إذ تحدث نصف حالات الاعتداء التي يتعرض لها الرجال في تلك الفئة العمرية داخل الحانات، وفي محيطها. وكان الجناة فخورين بما يقترفونه من أعمال عنف، وهو ما اكتشفته بعد إجراء عمليات الأشعة على الدماغ، وترميم الأسنان، عندما عثرت على ورقة صغيرة وُضعت داخل الجيب العلوي من سترتي الجلدية، كُتِب عليها “لقد قابلت للتو جماعة وست هام إنتر سيتي”. وكان حليقو الرؤوس من مشجعي نادي “ويست هام” لكرة القدم في شرق لندن.

غالباً ما كانت أعمال العنف ترتكز حول فرق كرة القدم، ويمكن اندلاعها في أي جزء من لندن، سواء كان في الأحياء الفقيرة أو الراقية. لقد اعتدتُ عند مغادرة شقتي في فينسبري بارك صباح يوم الأحد لأخذ الصحف، أن أصادف صاحب الحانة المجاورة لبيتي، ينظف بقايا الزجاج المحطم، والدماء على الأرض، بعد انتهاء “المعارك الهوجاء” بين مشجعي فريقي “أرسنال” و”تشيلسي”.

عام 2002، انتقلت إلى شقة في عمارة من طابقين في East Village، بمدينة نيويورك، على بعد ثلاثة آلاف ميل من شقتي في شمال لندن، على رغم اعتراض بعض أفراد العائلة الذين تربوا على إيقاع مشاهد أفلام الشرطة الأميركية، وأفلام مثل The Warriors، الذين اعتقدوا أنني سأعيش في واحدة من أخطر المدن في العالم.

ولكن بدلاً من ذلك، وجدت مانهاتن مذهلة بما تتميز به من السكينة والكياسة. وقد أعرب لي سكان نيويورك وهم يحتسون “فودكا مارتيني” عن ذهولهم عندما أخبرتهم عن تجربتي اليومية في حانات لندن، وأبلغتهم أننا كُنا نتشاجر باستمرار في الحانة، لمجرد الحصول على اهتمام السقاة، مع احتمال اندلاع المعارك في أي لحظة. في المقابل، من الشائع أن يعتذر لك أحد سكان نيويورك إذا اصطدم بك عن غير قصد في الشارع، ويحدّث بأسلوب مهذب من قبيل “من فضلك” و”شكراً لك”، الأمر الذي جعلني أتفاجأ إلى حد الذهول. فلم أشعر أبداً بالتهديد أثناء السير في شوارع مانهاتن في الساعة الثالثة صباحاً، على عكس لندن التي تعرضت فيها إحدى المرات للسرقة بعد تهديدي بالسكين بينما كنتُ أسير في شوارعها.

“لا شك في أن التاريخ البشع لانتشار تعاطي الكوكايين في نيويورك سينتقل إلى لندن أيضاً”

في الحقيقة، كان أثر العداء الوحيد الذي عشته في نيويورك، عندما أرغمتني صديقتي لحضور أمسية شعرية مرتجلة، في مستودع في منطقة تشيلسي، من أداء امرأة ترتدي ملابس سوداء وتقرأ بضعة مقاطع شعرية مكتوبة بطريقة سيئة، قبل أن تنطلق في العويل والصراخ في الميكروفون لمدة عشر دقائق في كل مرة، ثم تعود إلى مقطعين كتبا بشكلٍ أكثر رداءة. وعندما سألني أحد محبّي الفنون الحديثة بحماسة، ما رأيي في الأداء بعد أن رفع نظارته المصنوعة من البلاستيك ذات الحجم الكبير إلى أعلى أنفه، ترددت في الجواب، ثم قلت له إنني لم أرَ أي قيمة فنية في ذلك، تذمر من جوابي، وصرخ قائلًا: “يا إلهي”، ثم شبك ساقيه بتكلف، متوجهاً إلي بالقول “أنتم أيها البريطانيون بغيضون حقاً”.

شعرت وكأنني همجي خرجت للتو من أرض غريبة، لكنني وقعت في حب مدينة نيويورك ورقتها وذوقها وأناقتها.

على مدى سنوات عدة، شرعت في مهمات صحافية، مثل التحقيقات حول معسكرات استخراج الذهب غير القانونية في أفريقيا، أو قضاء أسابيع مع صياد الجوائز في جنوب وسط لوس أنجلوس، ثم العودة من ساحات النزاع وجنون العالم الخارجي، لأستريح في ظل رقي مانهاتن وهدوئها، حيث أشعر بالأمان.

لكنني كنتُ أعيش داخل فقاعة. وعندما شرعت في تأليف كتابي “الجنس، المال، الجريمة:  قصة حول الكراك والدم والخيانة“، عن واحدة من أخطر عصابات البرونكس، واستحواذهم القاتل على مشاريع الإسكان في الثمانينات والتسعينات، أصبت بالصدمة فعلاً عندما اكتشفت عالماً معزولاً عرقياً، ومستوى من الفقر ينافس إلى حد كبير ما رأيته في الأحياء الفقيرة في البرازيل، أو في مدينة كينجستون بجامايكا، إلا أن الأمر يحدث هذه المرة في المدينة التي أحببتها.

كانت جزيرة مانهاتن حيث أقيم، مختلفة تماماً عن العالم الذي عشت فيه عبر نهر هارلم في برونكس. ثمة تباينٌ صارخٌ بين كراك الكوكايين والجيش المتنامي من الشباب المتدفق لتشكيل العصابات، وبين النخبة الثرية التي اختلطتُ بها في الجانب الشرقي الأعلى من المدينة.

وبالطبع، قد يعود سبب شعوري هذا، لأنني انتقلت من أحد الأحياء الفقيرة في لندن إلى واحدة من أكثر أحياء نيويورك الأرستقراطية في أطراف حي الفابيت سيتي. لكن في الوقت الذي تواجه فيه لندن تحديات كبيرة في الأشهر المقبلة، لا شك في أن التاريخ البشع لانتشار تعاطي الكوكايين في نيويورك سينتقل أيضاً إلى لندن، وعلى غرار “بيغ آبل” (الاسم الذي يطلق على نيويورك)، تملك لندن مجمعات سكنية عامة ذات كثافة سكانية عالية، تُمولها الحكومة أصبحت حاضنة لجرائم العنف، مثلها مثل ما يحدث في برونكس التي تضررت بشدة في التسعينات، ولا تزال تعاني حتى يومنا هذا.

عندما أعود إلى لندن في الوقت الراهن، أرى أن المدينة تعرضت لعملية تجريفٍ ساحقٍ، بعد أن استولى الروس الأثرياء على المناطق المركزية الثرية بالقرب من بادينغتون، أو تشيلسي كينسينغتون، واشتروا جميع العقارات باهظة الثمن، ما تسبب في ارتفاع أسعار الإيجارات إلى مستويات قياسية، في حين أجبِرت الحانات والمطاعم المحلية على غلق أبوابها نظراً إلى نقص الزبائن.

تُشبه لندن مدينة نيويورك بشكلٍ متزايد، إذ أصبح الشباب الساخط هو قوام عصابات الشوارع في المجتمعات السكنية الصعبة، في توتنهام وشمال لندن، فشكل بذلك دوامة جرائم القتل المألوفة التي تحاكي حياة العصابات في نيويورك. إن العولمة، والهُوة المتعمقة بين الأغنياء والفقراء، والعزلة الحادة، وتهميش شباب مدننا، أصبحت سمة حالية بين لندن ونيويورك وغيرهما من المدن الكبرى في العالم، في محاكاة غريبة لبعضها بعضاً.

جوناثان جرين

هذا المقال مترجم عن the daily beast ولقراءة المقال الاصلي زوروا الرابط التالي

هلا نهاد نصرالدين - صحافية لبنانية | 14.10.2024

اجتياح لبنان: كيف يمكن لقرارات مجلس الأمن أن تغير المعادلة؟

في السياق اللبناني، يبرز النقاش حول تطبيق القرارين 1559 و1701 كأحد المحاور الأساسية. يدعو القرار 1559 الذي صدر عام 2004، إلى نزع سلاح الجماعات المسلحة خارج سيطرة الدولة اللبنانية، بينما يركز القرار 1701 الصادر عام 2006، على وقف الأعمال العدائية وبسط سيطرة الحكومة اللبنانية على أراضيها، مع إنشاء منطقة عازلة خالية من الأسلحة بين الخط…
"درج"
لبنان
26.04.2018
زمن القراءة: 12 minutes

تُشبه لندن مدينة نيويورك بشكلٍ متزايد، إذ أصبح الشباب الساخط هو قوام عصابات الشوارع في المجتمعات السكنية الصعبة، فشكل بذلك دوامة جرائم القتل المألوفة التي تحاكي حياة العصابات في نيويورك. العولمة، والهُوة المتعمقة بين الأغنياء والفقراء، والعزلة الحادة، وتهميش شباب مدننا، أصبحت سمة حالية بين المدينتين..

لقد زرع حليقو الرؤوس ومتعصبو كرة القدم الفوضى الدامية المميتة في لندن لعقودٍ من الزمن، لكن جرائم العصابات وعنف مروجي المخدرات قد تسبب في الآونة الأخير، في ارتفاع معدل جرائم القتل في المدينة، لتفوق جرائم مدينة نيويورك.

كادت أول لكمة عنيفة تلقيتها أن تهشم رأسي، وكانت من القوة بحيث شعرت وكأن جمجمتي قد انفصلت عن عمودي الفقري. ثم اندفع المزيد من حليقي الرؤوس الذي تفوح منهم رائحة العرق بعد ما بذلوه من جهد في ساحة الرقص إلى خارج الحانة، وأخذوا يطوقونني، واختلطت رائحتهم بفورة غضبهم المزمجر. وبعد سلسلةٍ من اللكمات، انهال علي وابلٌ من الضربات، أسقطتني على الرصيف القذر المغطى بالعلكة. ومن ثم بدأت الوحشية الحقيقية.

وبعد اللكمات الموجهة بدقةٍ إلى أماكن محددةٍ، تلتها ركلات بأحذية من نوع دكتور مارتن اللامعة ذات المقدمة الفولاذية، لترتطم بوجهي ومؤخرة رأسي. فجأة، بعد شعوري بكسر أسناني الأمامية، بدأ يسيل في فمي دمٌ ممزوجٌ بمذاق جعة غينيس، وكانت كأسي نصف الفارغة لا تزال على منضدة الحانة قبل أن تبدأ الواقعة.

ما زلت غير متأكدٍ مما تسبب في بداية المشاجرة، لكنني أعتقد أن الواقعة انطلقت عندما اندفع أحد حليقي الرؤوس، من ساحة الرقص، فوضعت ذراعي بشكل تلقائي لحماية جعتي من أن تسكب، الأمر الذي اعتُبر بمثابة عملٍ عدائيٍ من قبل مجموعة من حليقي الرؤوس، كانوا قد استولوا على الحانة وقاعة الرقص في لوريل تري، في كامدن تاون، شمال لندن، وهي منطقة مألوفة بعد ساعات العمل.

هرعت مسرعاً خارج الحانة لتجنب ما يطلق عليه اسم “غلاسنغ” (a glassing)- وهي ممارسة كانت شائعة في حانات لندن في أواخر التسعينيات، حيث يتم تحطيم زجاجة من نصف لتر إلى نصفين ويتم غرز قاعها وحوافها المتعرجة في وجه الضحية البائس-، لقد تجنبت ذلك المصير، لكنني تلقيت ركلات شديدة القوة، فقدت الوعي على إثرها، قبل أن تنسحب مجموعة حليقي الرؤوس.

وبعد بضع دقائق، سحبني أحد الأصدقاء، الذي تعرض هو أيضاً للاعتداء، لكن ليس بالقسوة ذاتها، ووضع جسدي الهزيل على قدميه، وكان وجهي مضرّجاً بالدماء، بينما كنت أصارع لاستعادة وعيي. مرتْ بالقرب منا سيارة شرطة في دورية روتينية، وبعد مشاهدتنا، أبطأت من سرعتها، وتوجه أحد رجال الشرطة إلينا عبر باب السيارة المفتوح على مصراعيه مستفسراً: “هل رفيقك على ما يرام؟”، أجابه صديقي وهو يحاول جاهداً الإمساك بي: “نعم، سيكون على ما يرام!”، على إثر ذلك، قدم رجال الشرطة تحية ودية، وانطلقوا في طريقهم، أما أنا فقد وصلت إلى المستشفى عند الثالثة صباحاً تقريباً.

كانت تلك هي مدينة لندن عام 1995، المدينة التي عشت فيها، ولهذا السبب لم تكن أخبارالأول من أبريل/نيسان الواردة من لندن– التي تشير إلى أن المدينة تشهد للمرة الأولى معدل جرائم قتل أعلى من نيويورك، من خلال تفاقم سلسلة عمليات الطعن المرتبطة بالعصابات، وعمليات إطلاق النار من السيارات، ذات الصلة بعصابات الكوكايين، والمشادات التافهة في حي هاكني الذي كنت أُقيم فيه قديماً، والتي أراها على مواقع التواصل الاجتماعي- مفاجأة بالنسبة إلي. فلطالما اندلعت أعمال العنف خلف الواجهة البراقة لمدينة لندن.

في التسعينات، كان عنف الحانات والشوارع جزءاً يومياً من حياتنا، بخاصة بين الشبّان الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و29 عاماً، إذ تحدث نصف حالات الاعتداء التي يتعرض لها الرجال في تلك الفئة العمرية داخل الحانات، وفي محيطها. وكان الجناة فخورين بما يقترفونه من أعمال عنف، وهو ما اكتشفته بعد إجراء عمليات الأشعة على الدماغ، وترميم الأسنان، عندما عثرت على ورقة صغيرة وُضعت داخل الجيب العلوي من سترتي الجلدية، كُتِب عليها “لقد قابلت للتو جماعة وست هام إنتر سيتي”. وكان حليقو الرؤوس من مشجعي نادي “ويست هام” لكرة القدم في شرق لندن.

غالباً ما كانت أعمال العنف ترتكز حول فرق كرة القدم، ويمكن اندلاعها في أي جزء من لندن، سواء كان في الأحياء الفقيرة أو الراقية. لقد اعتدتُ عند مغادرة شقتي في فينسبري بارك صباح يوم الأحد لأخذ الصحف، أن أصادف صاحب الحانة المجاورة لبيتي، ينظف بقايا الزجاج المحطم، والدماء على الأرض، بعد انتهاء “المعارك الهوجاء” بين مشجعي فريقي “أرسنال” و”تشيلسي”.

عام 2002، انتقلت إلى شقة في عمارة من طابقين في East Village، بمدينة نيويورك، على بعد ثلاثة آلاف ميل من شقتي في شمال لندن، على رغم اعتراض بعض أفراد العائلة الذين تربوا على إيقاع مشاهد أفلام الشرطة الأميركية، وأفلام مثل The Warriors، الذين اعتقدوا أنني سأعيش في واحدة من أخطر المدن في العالم.

ولكن بدلاً من ذلك، وجدت مانهاتن مذهلة بما تتميز به من السكينة والكياسة. وقد أعرب لي سكان نيويورك وهم يحتسون “فودكا مارتيني” عن ذهولهم عندما أخبرتهم عن تجربتي اليومية في حانات لندن، وأبلغتهم أننا كُنا نتشاجر باستمرار في الحانة، لمجرد الحصول على اهتمام السقاة، مع احتمال اندلاع المعارك في أي لحظة. في المقابل، من الشائع أن يعتذر لك أحد سكان نيويورك إذا اصطدم بك عن غير قصد في الشارع، ويحدّث بأسلوب مهذب من قبيل “من فضلك” و”شكراً لك”، الأمر الذي جعلني أتفاجأ إلى حد الذهول. فلم أشعر أبداً بالتهديد أثناء السير في شوارع مانهاتن في الساعة الثالثة صباحاً، على عكس لندن التي تعرضت فيها إحدى المرات للسرقة بعد تهديدي بالسكين بينما كنتُ أسير في شوارعها.

“لا شك في أن التاريخ البشع لانتشار تعاطي الكوكايين في نيويورك سينتقل إلى لندن أيضاً”

في الحقيقة، كان أثر العداء الوحيد الذي عشته في نيويورك، عندما أرغمتني صديقتي لحضور أمسية شعرية مرتجلة، في مستودع في منطقة تشيلسي، من أداء امرأة ترتدي ملابس سوداء وتقرأ بضعة مقاطع شعرية مكتوبة بطريقة سيئة، قبل أن تنطلق في العويل والصراخ في الميكروفون لمدة عشر دقائق في كل مرة، ثم تعود إلى مقطعين كتبا بشكلٍ أكثر رداءة. وعندما سألني أحد محبّي الفنون الحديثة بحماسة، ما رأيي في الأداء بعد أن رفع نظارته المصنوعة من البلاستيك ذات الحجم الكبير إلى أعلى أنفه، ترددت في الجواب، ثم قلت له إنني لم أرَ أي قيمة فنية في ذلك، تذمر من جوابي، وصرخ قائلًا: “يا إلهي”، ثم شبك ساقيه بتكلف، متوجهاً إلي بالقول “أنتم أيها البريطانيون بغيضون حقاً”.

شعرت وكأنني همجي خرجت للتو من أرض غريبة، لكنني وقعت في حب مدينة نيويورك ورقتها وذوقها وأناقتها.

على مدى سنوات عدة، شرعت في مهمات صحافية، مثل التحقيقات حول معسكرات استخراج الذهب غير القانونية في أفريقيا، أو قضاء أسابيع مع صياد الجوائز في جنوب وسط لوس أنجلوس، ثم العودة من ساحات النزاع وجنون العالم الخارجي، لأستريح في ظل رقي مانهاتن وهدوئها، حيث أشعر بالأمان.

لكنني كنتُ أعيش داخل فقاعة. وعندما شرعت في تأليف كتابي “الجنس، المال، الجريمة:  قصة حول الكراك والدم والخيانة“، عن واحدة من أخطر عصابات البرونكس، واستحواذهم القاتل على مشاريع الإسكان في الثمانينات والتسعينات، أصبت بالصدمة فعلاً عندما اكتشفت عالماً معزولاً عرقياً، ومستوى من الفقر ينافس إلى حد كبير ما رأيته في الأحياء الفقيرة في البرازيل، أو في مدينة كينجستون بجامايكا، إلا أن الأمر يحدث هذه المرة في المدينة التي أحببتها.

كانت جزيرة مانهاتن حيث أقيم، مختلفة تماماً عن العالم الذي عشت فيه عبر نهر هارلم في برونكس. ثمة تباينٌ صارخٌ بين كراك الكوكايين والجيش المتنامي من الشباب المتدفق لتشكيل العصابات، وبين النخبة الثرية التي اختلطتُ بها في الجانب الشرقي الأعلى من المدينة.

وبالطبع، قد يعود سبب شعوري هذا، لأنني انتقلت من أحد الأحياء الفقيرة في لندن إلى واحدة من أكثر أحياء نيويورك الأرستقراطية في أطراف حي الفابيت سيتي. لكن في الوقت الذي تواجه فيه لندن تحديات كبيرة في الأشهر المقبلة، لا شك في أن التاريخ البشع لانتشار تعاطي الكوكايين في نيويورك سينتقل أيضاً إلى لندن، وعلى غرار “بيغ آبل” (الاسم الذي يطلق على نيويورك)، تملك لندن مجمعات سكنية عامة ذات كثافة سكانية عالية، تُمولها الحكومة أصبحت حاضنة لجرائم العنف، مثلها مثل ما يحدث في برونكس التي تضررت بشدة في التسعينات، ولا تزال تعاني حتى يومنا هذا.

عندما أعود إلى لندن في الوقت الراهن، أرى أن المدينة تعرضت لعملية تجريفٍ ساحقٍ، بعد أن استولى الروس الأثرياء على المناطق المركزية الثرية بالقرب من بادينغتون، أو تشيلسي كينسينغتون، واشتروا جميع العقارات باهظة الثمن، ما تسبب في ارتفاع أسعار الإيجارات إلى مستويات قياسية، في حين أجبِرت الحانات والمطاعم المحلية على غلق أبوابها نظراً إلى نقص الزبائن.

تُشبه لندن مدينة نيويورك بشكلٍ متزايد، إذ أصبح الشباب الساخط هو قوام عصابات الشوارع في المجتمعات السكنية الصعبة، في توتنهام وشمال لندن، فشكل بذلك دوامة جرائم القتل المألوفة التي تحاكي حياة العصابات في نيويورك. إن العولمة، والهُوة المتعمقة بين الأغنياء والفقراء، والعزلة الحادة، وتهميش شباب مدننا، أصبحت سمة حالية بين لندن ونيويورك وغيرهما من المدن الكبرى في العالم، في محاكاة غريبة لبعضها بعضاً.

جوناثان جرين

هذا المقال مترجم عن the daily beast ولقراءة المقال الاصلي زوروا الرابط التالي

لقد زرع حليقو الرؤوس ومتعصبو كرة القدم الفوضى الدامية المميتة في لندن لعقودٍ من الزمن، لكن جرائم العصابات وعنف مروجي المخدرات قد تسبب في الآونة الأخير، في ارتفاع معدل جرائم القتل في المدينة، لتفوق جرائم مدينة نيويورك.

كادت أول لكمة عنيفة تلقيتها أن تهشم رأسي، وكانت من القوة بحيث شعرت وكأن جمجمتي قد انفصلت عن عمودي الفقري. ثم اندفع المزيد من حليقي الرؤوس الذي تفوح منهم رائحة العرق بعد ما بذلوه من جهد في ساحة الرقص إلى خارج الحانة، وأخذوا يطوقونني، واختلطت رائحتهم بفورة غضبهم المزمجر. وبعد سلسلةٍ من اللكمات، انهال علي وابلٌ من الضربات، أسقطتني على الرصيف القذر المغطى بالعلكة. ومن ثم بدأت الوحشية الحقيقية.

وبعد اللكمات الموجهة بدقةٍ إلى أماكن محددةٍ، تلتها ركلات بأحذية من نوع دكتور مارتن اللامعة ذات المقدمة الفولاذية، لترتطم بوجهي ومؤخرة رأسي. فجأة، بعد شعوري بكسر أسناني الأمامية، بدأ يسيل في فمي دمٌ ممزوجٌ بمذاق جعة غينيس، وكانت كأسي نصف الفارغة لا تزال على منضدة الحانة قبل أن تبدأ الواقعة.

ما زلت غير متأكدٍ مما تسبب في بداية المشاجرة، لكنني أعتقد أن الواقعة انطلقت عندما اندفع أحد حليقي الرؤوس، من ساحة الرقص، فوضعت ذراعي بشكل تلقائي لحماية جعتي من أن تسكب، الأمر الذي اعتُبر بمثابة عملٍ عدائيٍ من قبل مجموعة من حليقي الرؤوس، كانوا قد استولوا على الحانة وقاعة الرقص في لوريل تري، في كامدن تاون، شمال لندن، وهي منطقة مألوفة بعد ساعات العمل.

هرعت مسرعاً خارج الحانة لتجنب ما يطلق عليه اسم “غلاسنغ” (a glassing)- وهي ممارسة كانت شائعة في حانات لندن في أواخر التسعينيات، حيث يتم تحطيم زجاجة من نصف لتر إلى نصفين ويتم غرز قاعها وحوافها المتعرجة في وجه الضحية البائس-، لقد تجنبت ذلك المصير، لكنني تلقيت ركلات شديدة القوة، فقدت الوعي على إثرها، قبل أن تنسحب مجموعة حليقي الرؤوس.

وبعد بضع دقائق، سحبني أحد الأصدقاء، الذي تعرض هو أيضاً للاعتداء، لكن ليس بالقسوة ذاتها، ووضع جسدي الهزيل على قدميه، وكان وجهي مضرّجاً بالدماء، بينما كنت أصارع لاستعادة وعيي. مرتْ بالقرب منا سيارة شرطة في دورية روتينية، وبعد مشاهدتنا، أبطأت من سرعتها، وتوجه أحد رجال الشرطة إلينا عبر باب السيارة المفتوح على مصراعيه مستفسراً: “هل رفيقك على ما يرام؟”، أجابه صديقي وهو يحاول جاهداً الإمساك بي: “نعم، سيكون على ما يرام!”، على إثر ذلك، قدم رجال الشرطة تحية ودية، وانطلقوا في طريقهم، أما أنا فقد وصلت إلى المستشفى عند الثالثة صباحاً تقريباً.

كانت تلك هي مدينة لندن عام 1995، المدينة التي عشت فيها، ولهذا السبب لم تكن أخبارالأول من أبريل/نيسان الواردة من لندن– التي تشير إلى أن المدينة تشهد للمرة الأولى معدل جرائم قتل أعلى من نيويورك، من خلال تفاقم سلسلة عمليات الطعن المرتبطة بالعصابات، وعمليات إطلاق النار من السيارات، ذات الصلة بعصابات الكوكايين، والمشادات التافهة في حي هاكني الذي كنت أُقيم فيه قديماً، والتي أراها على مواقع التواصل الاجتماعي- مفاجأة بالنسبة إلي. فلطالما اندلعت أعمال العنف خلف الواجهة البراقة لمدينة لندن.

في التسعينات، كان عنف الحانات والشوارع جزءاً يومياً من حياتنا، بخاصة بين الشبّان الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و29 عاماً، إذ تحدث نصف حالات الاعتداء التي يتعرض لها الرجال في تلك الفئة العمرية داخل الحانات، وفي محيطها. وكان الجناة فخورين بما يقترفونه من أعمال عنف، وهو ما اكتشفته بعد إجراء عمليات الأشعة على الدماغ، وترميم الأسنان، عندما عثرت على ورقة صغيرة وُضعت داخل الجيب العلوي من سترتي الجلدية، كُتِب عليها “لقد قابلت للتو جماعة وست هام إنتر سيتي”. وكان حليقو الرؤوس من مشجعي نادي “ويست هام” لكرة القدم في شرق لندن.

غالباً ما كانت أعمال العنف ترتكز حول فرق كرة القدم، ويمكن اندلاعها في أي جزء من لندن، سواء كان في الأحياء الفقيرة أو الراقية. لقد اعتدتُ عند مغادرة شقتي في فينسبري بارك صباح يوم الأحد لأخذ الصحف، أن أصادف صاحب الحانة المجاورة لبيتي، ينظف بقايا الزجاج المحطم، والدماء على الأرض، بعد انتهاء “المعارك الهوجاء” بين مشجعي فريقي “أرسنال” و”تشيلسي”.

عام 2002، انتقلت إلى شقة في عمارة من طابقين في East Village، بمدينة نيويورك، على بعد ثلاثة آلاف ميل من شقتي في شمال لندن، على رغم اعتراض بعض أفراد العائلة الذين تربوا على إيقاع مشاهد أفلام الشرطة الأميركية، وأفلام مثل The Warriors، الذين اعتقدوا أنني سأعيش في واحدة من أخطر المدن في العالم.

ولكن بدلاً من ذلك، وجدت مانهاتن مذهلة بما تتميز به من السكينة والكياسة. وقد أعرب لي سكان نيويورك وهم يحتسون “فودكا مارتيني” عن ذهولهم عندما أخبرتهم عن تجربتي اليومية في حانات لندن، وأبلغتهم أننا كُنا نتشاجر باستمرار في الحانة، لمجرد الحصول على اهتمام السقاة، مع احتمال اندلاع المعارك في أي لحظة. في المقابل، من الشائع أن يعتذر لك أحد سكان نيويورك إذا اصطدم بك عن غير قصد في الشارع، ويحدّث بأسلوب مهذب من قبيل “من فضلك” و”شكراً لك”، الأمر الذي جعلني أتفاجأ إلى حد الذهول. فلم أشعر أبداً بالتهديد أثناء السير في شوارع مانهاتن في الساعة الثالثة صباحاً، على عكس لندن التي تعرضت فيها إحدى المرات للسرقة بعد تهديدي بالسكين بينما كنتُ أسير في شوارعها.

“لا شك في أن التاريخ البشع لانتشار تعاطي الكوكايين في نيويورك سينتقل إلى لندن أيضاً”

في الحقيقة، كان أثر العداء الوحيد الذي عشته في نيويورك، عندما أرغمتني صديقتي لحضور أمسية شعرية مرتجلة، في مستودع في منطقة تشيلسي، من أداء امرأة ترتدي ملابس سوداء وتقرأ بضعة مقاطع شعرية مكتوبة بطريقة سيئة، قبل أن تنطلق في العويل والصراخ في الميكروفون لمدة عشر دقائق في كل مرة، ثم تعود إلى مقطعين كتبا بشكلٍ أكثر رداءة. وعندما سألني أحد محبّي الفنون الحديثة بحماسة، ما رأيي في الأداء بعد أن رفع نظارته المصنوعة من البلاستيك ذات الحجم الكبير إلى أعلى أنفه، ترددت في الجواب، ثم قلت له إنني لم أرَ أي قيمة فنية في ذلك، تذمر من جوابي، وصرخ قائلًا: “يا إلهي”، ثم شبك ساقيه بتكلف، متوجهاً إلي بالقول “أنتم أيها البريطانيون بغيضون حقاً”.

شعرت وكأنني همجي خرجت للتو من أرض غريبة، لكنني وقعت في حب مدينة نيويورك ورقتها وذوقها وأناقتها.

على مدى سنوات عدة، شرعت في مهمات صحافية، مثل التحقيقات حول معسكرات استخراج الذهب غير القانونية في أفريقيا، أو قضاء أسابيع مع صياد الجوائز في جنوب وسط لوس أنجلوس، ثم العودة من ساحات النزاع وجنون العالم الخارجي، لأستريح في ظل رقي مانهاتن وهدوئها، حيث أشعر بالأمان.

لكنني كنتُ أعيش داخل فقاعة. وعندما شرعت في تأليف كتابي “الجنس، المال، الجريمة:  قصة حول الكراك والدم والخيانة“، عن واحدة من أخطر عصابات البرونكس، واستحواذهم القاتل على مشاريع الإسكان في الثمانينات والتسعينات، أصبت بالصدمة فعلاً عندما اكتشفت عالماً معزولاً عرقياً، ومستوى من الفقر ينافس إلى حد كبير ما رأيته في الأحياء الفقيرة في البرازيل، أو في مدينة كينجستون بجامايكا، إلا أن الأمر يحدث هذه المرة في المدينة التي أحببتها.

كانت جزيرة مانهاتن حيث أقيم، مختلفة تماماً عن العالم الذي عشت فيه عبر نهر هارلم في برونكس. ثمة تباينٌ صارخٌ بين كراك الكوكايين والجيش المتنامي من الشباب المتدفق لتشكيل العصابات، وبين النخبة الثرية التي اختلطتُ بها في الجانب الشرقي الأعلى من المدينة.

وبالطبع، قد يعود سبب شعوري هذا، لأنني انتقلت من أحد الأحياء الفقيرة في لندن إلى واحدة من أكثر أحياء نيويورك الأرستقراطية في أطراف حي الفابيت سيتي. لكن في الوقت الذي تواجه فيه لندن تحديات كبيرة في الأشهر المقبلة، لا شك في أن التاريخ البشع لانتشار تعاطي الكوكايين في نيويورك سينتقل أيضاً إلى لندن، وعلى غرار “بيغ آبل” (الاسم الذي يطلق على نيويورك)، تملك لندن مجمعات سكنية عامة ذات كثافة سكانية عالية، تُمولها الحكومة أصبحت حاضنة لجرائم العنف، مثلها مثل ما يحدث في برونكس التي تضررت بشدة في التسعينات، ولا تزال تعاني حتى يومنا هذا.

عندما أعود إلى لندن في الوقت الراهن، أرى أن المدينة تعرضت لعملية تجريفٍ ساحقٍ، بعد أن استولى الروس الأثرياء على المناطق المركزية الثرية بالقرب من بادينغتون، أو تشيلسي كينسينغتون، واشتروا جميع العقارات باهظة الثمن، ما تسبب في ارتفاع أسعار الإيجارات إلى مستويات قياسية، في حين أجبِرت الحانات والمطاعم المحلية على غلق أبوابها نظراً إلى نقص الزبائن.

تُشبه لندن مدينة نيويورك بشكلٍ متزايد، إذ أصبح الشباب الساخط هو قوام عصابات الشوارع في المجتمعات السكنية الصعبة، في توتنهام وشمال لندن، فشكل بذلك دوامة جرائم القتل المألوفة التي تحاكي حياة العصابات في نيويورك. إن العولمة، والهُوة المتعمقة بين الأغنياء والفقراء، والعزلة الحادة، وتهميش شباب مدننا، أصبحت سمة حالية بين لندن ونيويورك وغيرهما من المدن الكبرى في العالم، في محاكاة غريبة لبعضها بعضاً.

جوناثان جرين

هذا المقال مترجم عن the daily beast ولقراءة المقال الاصلي زوروا الرابط التالي