قليلون مَن ينكرون أنّ الهُويّة الألمانيّة الحديثة كان لها دورٌ محوريّ في تكوين الهُوية الإسرائيلية – اليهودية، بخاصة في ضوء محرقة “الهولوكوست” وتأثيرها الكبير في ماضي الشعبَين. إلّا أنّ الهولوكوست، على رغم أهمّيتها في تشكيل الهويّتَين، ليست سوى جزء من عملية أكثر تعقيداً: عمليّة بدأت في نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، حين أصبح الانسجام بين تكوين هُويّتَين قوميتين وبنائهما، واضحاً للغاية. وما زالت تلك العملية تتواصل في الحاضر، إذ تظل الهولوكوست مكوّناً رئيسياً من مكونات الهوية الإسرائيليّة – اليهوديّة المعاصِرة؛ وهي أيضاً عملية تلقي بظلالها على المستقبل.
بدأ تشكلُ الهويّة القوميّة الألمانيّة، قبل أن توجد دولة قوميّة أو نظام سياسيّ يلائم توجيه المشاعر القوميّة واحتواءها، بين شعوب مختلف البلدان التي صارت الآن تشكّل ألمانيا المعاصرة. فقد ملأ الخيالُ فراغَ الواقع، وحلّت في المقدّمة الفلسفةُ والأدب (بخاصة الشعر)، لا السياسة.
بعد عقود من تلك اللحظة، وحتى نهاية القرن التاسع عشر –في سياقٍ مشابهٍ، لا توجد فيه دولة قوميّة ولا نظام سياسيّ ملائم لتوجيه المشاعر القوميّة واحتوائها– بدأت تنمو هويّة قوميّة جديدة أخرى، وهي هويّة أدّت في نهاية المطاف إلى إنشاء الدولة اليهوديّة على أرض فلسطين التي كانت تخضع في ذلك الوقت للاحتلال البريطاني.
يلفت النظر هذا التشابه بين الهُويتَين، وإن كان من قبيل المصادفة. غير أنّ تطوّر الهوية اليهودية – على عكس الألمانية، التي كان لها تركيز قوميّ قويّ – كان يدور حول المكوّن الديني بدرجةٍ لا تقل عن المكون السياسي. في الواقع، هذان المكوّنان متشابكان منذ البداية، لكن المكوّن الديني – الذي مثّل ركيزة الهوية اليهودية لنحو 2000 سنة –أصبح معضلةً وإشكاليّة. وقد أفضى البحث عن بديلٍ لهذا المكوّن إلى ظهور القوميّة.
اليهود الجدد
مبدئيّاً، بدا كما لو كانت الهويّتان القوميّة والدينيّة “لليهود الجدد” لا يمكن أن تنفصلا. أكّد موسى مندلسون أنّ القوميّة واليهوديّة تنتميان إلى مجالَين منفصلين تماماً. في حين صاغ يهودا ليب غوردون بإيجاز هذا المفهوم في قصيدته بالعبريّة “استيقظ يا شعبي”، قائلاً “كن رجلاً في الشوارع ويهوديّاً في البيت”. للأسف، كان هذا الحلّ الممتاز للغاية محكوماً عليه بالفشل، لا بسبب افتقار اليهود للمثابرة –فقد كانوا متحمّسين للغاية للخيار الجذّاب في أن يصبحوا مواطنين كاملي الأهلية في بلدان أوروبا الغربيّة، حتّى لو كان الثمن خسارة هويّتهم اليهوديّة– وإنّما بسبب المقاومة الخارجيّة العنيدة التي واجهوها حين حاوَلوا إعادة تشكيل هويّتهم.
بعبارةٍ أكثر إيجازاً، ثبّط عداء الساميّة القويّ والعميق في أرجاء أوروبا أي مبادرة لإعادة تعريف الهويّة اليهوديّة. في هذا السياق، مثّلت قضية دريفوس نقطة تحوّل، لتُثبت أنّ الغالبيّة العظمى من الشعب الفرنسي كانت تنظر إلى اليهود على أنّهم يهود في المقام الأول، ثم فرنسيون فقط على نحوٍ ثانويّ، إن حدث ورأوا فيهم انتماءً للشعب الفرنسيّ. لقد نظروا إلى اليهود على أنّ انتماءَهم وولاءَهم هو في المقام الأول، وبصورةٍ قاطعة، لقبيلتهم، ثمّ بعد هذا –إن كان هناك بعد– لأوطانهم التي يعيشون فيها. كانت هذه الرؤية تعني بوضوح أنّ وطنيّةَ اليهود كانت محلّ شكّ، وأسوأ من ذلك أنّها عنَت أنّ جميع اليهود –على الأقل بصورة محتملة– هم خونة. لم تكن قضيّة دريفوس سوى استثناء لهذه الرؤية نظراً لنتيجتها الإيجابيّة؛ إذ إنها انطوت على إعادة فتح المحاكمة، وكشف أنّ جميع التهم ضدّ الضابط العسكريّ اليهوديّ المُدان بتهمة الخيانة ليست سوى تهم باطلة. إلّا أنّ جذورَها المعادية للساميّة لم تكن قطعاً أمراً فريدا.
إلا أن هذه التجربة المريرة لم تثبّط أولئك الذين أملوا بإيجاد حلّ قوميّ لمشكلة الهُويّة اليهوديّة؛ بل على العكس، لقد وظّفوا جهوداً أكبر في محاولتهم الجديدة لتصوير الذات. فبدلاً من التخلّي عن الربط بين الهويّة والقوميّة، طمح أولئك الذين شكّلوا نموذج “اليهوديّ الجديد” إلى بناء هُويّة قوميّة على أساسٍ علمانيّ، لا على أساسٍ دينيّ. إضافةً إلى ذلك، تصوّروا التحقيقَ القوميّ لهذه الهويّة في مكان جديد تماماً: وهو جبل صهيون. في تلك اللحظة، اقترح اليهود الجدد دولة مستقبليّة في آسيا لتكون بديلاً قوميّاً لأوطانهم الراهنة في أوروبا، التي رفضتهم. إلّا أنّ كارثةً مستقبليّة كانت تكمن في هذا الحل.
انحطاط الهويّة الألمانيّة إلى حركة نازيّة لم يكن مصادفة ولا خطأ. لقد كانت البذور مطمورةً هنالك منذ البداية، وبإمكان المرء أن يتبيّنها بالفعل في المراحل الاستهلاليّة لتشكيل الهويّة الألمانيّة. في ضوء التشابهات الأساسيّة بين الهويتين الألمانية والإسرائيلية-اليهوديّة، على مدار مراحل تكوينهما وبنائهما المختلفة، يمكننا أن نستنتج أنّ إسرائيل تنزلق في المنحدَر ذاته الذي يقود –إلى الأسباب ذاتها تحديداً – إلى هاوية العنصريّة والفاشيّة ذاتها.
جبل صهيون
الخلل الرئيسيّ في استراتيجيّة التطلّع إلى جبل صهيون لتحقيق الاندماج بين العِلمانيّ والقوميّ يكمن في طبيعة الفعل نفسه، الذي كان أبعد من مجرّد انتقال جغرافيّ. قام المبدأ التنويريّ الذي مثّل منارةً للأجداد الصهاينة –الذين رأوا إمكان تكوين هويّة يهوديّة جديدة على أساسٍ علمانيّ– على الفصل التام بين الحيز القوميّ والحيز الخاص. إلّا أنّ دعوة الصهيونيّة لإنشاء دولة جديدة لليهود –تشمل تصور حل للمشكلة اليهودية من خلال دولة يهودية– كانت تعني بالضبط عكسَ هذا المبدأ التنويريّ: لا دمج القوميّ والعِلمانيّ، وإنّما دمج القوميّ بالدينيّ.
لا شكّ في أنّ الأجداد الصهاينة كانوا على وعيٍ تام بالإشكاليّات والمعضلات التي مثّلها المكوّن اليهوديّ أمام تكوين هوية علمانية كانوا يكدحون في سبيل تحقيقها؛ إلّا أنّهم قطعاً لم يتجاهلوا المكون الديني -اليهودي. على العكس، لإدراكهم مدى كون ذلك المكوّن بنّاءً في تشكيل الهوية اليهودية الجديدة، قاموا بتوظيفه بشكلٍ مثمر لأغراضهم الخاصّة. لقد تبنوا استراتيجيتَين لمواجهة تحدّيات المكون الديني؛ من خلال قمع الجانب الديني الصارم من ناحية، مع تجنيد العنصر المسيحاني – الخلاصي من ناحية أخرى. من الأمثلة الجيّدة على هذه الاستراتيجيّة اسمُ “بيلو” Bilu، الذي اختارته الحركة الصهيونيّة الأولية، والتي تجسدت رؤيتها في موجة الهجرة اليهوديّة الأولى (عَلِيا، الأولى) في ثمانينات القرن التاسع عشر. “بيلو” هي اختصار عبريّ أتى من سفر أشعيا، الإصحاح الثاني، الآية 5، التي يرد فيها: “يا آل يعقوب، هيّا نسير” (تنطق بالعبرية: بيت يعقوب ليخو ڤنليخا). إلّا أنّ هذه ليست الآية بتمامِها؛ إذ تنتهي بعبارة “في نور الربّ”، ما يضع العبارة بأكملها في سياقٍ ويضفي طابعاً دينياً على معناها.
تمثّل الآيات السابقة لتلك الآية التي هي مصدر اختصار “بيلو”، ما يُعرَف بـ”رؤية نهاية الأيام” (سفر أشعيا، الإصحاح الثاني، الآيات 1-4)، والتي فيها يُتوقّع أن تكون القدس وجبل صهيون مركزاً عالميّاً للعدالة، تكون بؤرته الجغرافيّة والروحيّة هي الهيكل. حين تشكّلت الأيديولوجيا القوميّة في القرن التاسع عشر، كان يُنظر إلى تلك الرؤية التوراتيّة بصفتها رؤية مسيحانية بحتة: فقد دُمِّر الهيكل منذ نحو ألفَي عام، وكانت التقاليد الدينيّة ترى أنّ إعادةَ بنائه مؤجّلة إلى الأيام الأخيرة في الزمن؛ أي إلى العهد المسيحاني. لذا فإنّ الفكرة الصهيونية القائلة بتجسد الشعب اليهودي من جديد في المستقبل القريب هي فكرة قائمة على ارتباطها الوثيق بالشعب اليهودي في الماضي، وعلى الارتباط الوثيق بالرؤية المسيحانيّة – الدينية والطوباويّة عن الشعب اليهوديّ في آخر أيام الزمان.
بين المسيحانية واليهودية العلمانية
بعد فوات الأوان، على المرء الاعتراف ببراعة دمج الفكرة المسيحانيّة بالرؤية الصهيونية العلمانية؛ فمن دون القدرات المذهلة للمكوّن المسيحاني، لَربما لم تكن هناك دولة إسرائيل، ولربما أيضاً – في رأيي – لم يكن هناك حلّ حقيقي شافٍ لمسألة معاداة الساميّة ومظاهرها الفتاكة. بالطبع لا يعني هذا أنّ هكذا توظيف لم يستوفِ تكاليفه وثمنه. لقد صار ذلك الثمن، كما هو متوقّع، أحد أعظم المخاطر على إسرائيل المعاصرة؛ مهدداً بإبادة المشروع الصهيونيّ وزواله بأكمله.
منذ بداية الحركة الصهيونية، أدى استخدام المكوّن المسيحاني إلى إشكالية ذات شقين. فمن ناحية، نظراً إلى أنّه كان لا بدّ من قمع الجزء الدينيّ في المكوّن “المسيحاني – الديني”، أثناء نشأة الهويّة اليهوديّة الجديدة، فقد قُدِّم العنصر “المسيحاني” في الحركة الصهيونية كعنصر علماني. ومن ناحية أخرى، فإن النظرَ إلى تأسيس دولة إسرائيل باعتباره تحقّقاً لذلك المكون يعني ضمنياً تجاوز الحد الفاصل بين الطبيعة الغيبيّة والطبيعة الماديّة، بل– على نحو أكثر خبثاً – أضفى قيمةً إيجابيّة لهذا العمل. ولذا أصبحت هذه الإشكالية المزدوجة موضعَ خلافٍ منذ البداية، وذلك لأنّ كل جزء من شقّيها نما وتغذّى على الآخر: فقد اعتمدت القيمة الإيجابيّة المنسوبة إلى تجاوز ذلك الحد الفاصل على التبرير الدينيّ. وصار المكوّن المسيحانيّ يزداد قوةً وتأثيراً، كلما زاد تجسّده من خلال أفعال وإجراءات تعبّر عن تجاوز الحد الفاصل بين الطبيعة الغيبيّة والطبيعة الماديّة.
عندما كانت الحركة الصهيونية في مستهلّها، بدا أن الثمنَ الباهظ الذي يتعيَّن دفعُه مقابل التجاوز المسيحاني للحد الفاصل بين الغيبي والمادي، هو ثمنٌ مؤجّل للمستقبل البعيد. بيد أن هذا المستقبل البعيد صار الآن حاضرنا، وقد حققت القوميّة المسيحانيّة بالفعل – بنجاح باهر– بعضَ أكثر آثارها سُمِّيّةً، من خلال استخدام المبرّرات الدينيّة للشر بطريقةٍ عنيدة لا هَوادةَ فيها. ومن الجدير بالملاحظة، أنّ الجمعَ بين الشر والمسيحانيّة الدينيّة بصورة خاصة لم يكن أمراً عرضيّاً. الأسوأ من ذلك أنها تُصوَّر وتُقدَّم، كما هي حالها في فلسفة إيمانويل كانت، باعتبارها ضرورةً أخلاقيّة حتميّة. لم يُثبت أحد هذه النقطة بطريقة أكثر تأثيراً من الفيلسوف غيرشوم شوليم، الذي أوضَح في مقالته المنشورة عام 1936، تحت عنوان “الخلاص عن طريق الخطيئة” Redemption Through Sin، الخطَّ المباشرَ الذي يربط بين الحركة الشبتاية، نسبة إلى مؤسسها “شبتاي تسڤي”، وبين الهويّة اليهوديّة الحديثة، منذ عصر التنوير وما بعده، بما يشرح ويوضح كيف تحوّل الشر إلى ظاهرة مبرَّرَة أخلاقياً.
أشار شوليم أيضاً ضمنياً، في سياق مختلف، إلى أن التقاربَ بين القومية والمكوّن الديني – المسيحاني، لا يمكن أن يُنتِج سوى الأصوليّة اليهوديّة، التي لا تُمثل سوى صورة من صور الهمجيّة، التي تجلّت ظاهريّاً باسم الديانة اليهوديّة، ولكن في الواقع تستّرت في ثناياها. أصبحت هذه الهمجية منذ فترة طويلة جزءاً لا يتجزّأ من العالم الذي تحيا فيه إسرائيل المعاصرة، ويقترن تحقيقُها بكلّ المبررات الدينية الإلزاميّة: إذ صارت الأصوليّة اليهوديّة الأساسَ الأخلاقي، الذي قام عليه اختطاف الشاب الفلسطينيّ ذو الـ16 عاماً، محمد أبو خضير، وحرقه حيّاً عامَ 2014. كانت الأصولية اليهودية أيضاً هي الأساس الأخلاقي لإلقاء قنبلة حارقة على منزل عائلة دوابشة في قرية دوما في محافظة نابلس في الضفة الغربية بعد عام، ما أدّى إلى احتراق ريهام وسعد دوابشة وطفلهما علي (18 شهراً)، حتى الموت. لا شكَّ في أنّ من الصعب أن نرى كيف أن الفظائعَ والأهوالَ التي عانى منها ضحايا الهولوكوست توجَّه الآن نحو شرور جديدة تقوم على تحول أولئك الذين كانوا ضحايا في الماضي إلى جناة في الحاضر.
مع ذلك، علينا الاعتراف بأنه أمرٌ غير مفاجئ. فغالباً ما يتحوّل الطفل الذي يتعرض للعنف في الصغر، أباً عنيفاً؛ وما ينطبق على المستوى الشخصي ينطبق أيضاً على الصعيد القومي. والحقيقة أن التوظيف اللاإنساني للدين كتبرير أخلاقيّ للشرّ المحض، ليس أمراً جديداً ولا نادراً، بيد أن ظهوره المروع في دولةٍ تأسست كرد فعلٍ أخلاقي على شرّ النازيّة الذي لا يمكن تصوره، هو أمرٌ يثيرُ قلقاً عميقاً. يعيدنا هذا إلى أوجه الشبه بين الهوية الإسرائيلية – اليهودية والهوية الألمانيّة.
كانت النازية – كأيديولوجية – ظاهرةً إلحاديّة، ويستند ذلك إلى بعض الأسباب. فقد مثّلَ الفراغ الديني الذي خلقه النازيّون أنفسهم بعنفٍ شديد الصفحةَ البيضاء التي يُمكن أن يكتبوا عليها نسختهم الخاصة من الأساطير والشعارات الوثنية. وقد مهَّد ذلك الطريق أمام تعزيز صياغة الهوية الألمانية على أساس العرق، الأمر الذي كان بدوره وسيلةً لإضفاء الشرعية لتصفية أي شخص لا ينطبق عليه التعريف العرقي والعنصري لهذه الهوية. بطبيعة الحال تختلف حالة الهويّة الإسرائيلية – اليهودية في ما يتعلق بالعنصر الديني، ولكنها متشابهة في ما يتعلق بالصلة القائمة هنا بين العِرق والعنصرية. وعلاوةً على ذلك، فإن التشابه بين الهويتين في هذه الحالة ليس نتيجة مصادفة بل هو مثال واضح على العلاقة بين السبب والنتيجة.
الانحدار إلى العنصرية
يكمن في جوهر الهويّة الإسرائيليّة – اليهوديّة نزوعٌ إلى التردّي إلى العنصريّة، ويُعزَى ذلك في المقام الأول إلى أساسها الراسخ في القناعات العِرقيّة. ومن دون مواربة، يُمكن القول إنّ الهويّة الإسرائيليّة – اليهوديّة هي أساساً وحتماً هويّة عِرقيّة في جوهرها؛ فقد صِيغت عمداً على أساسٍ عنصريّ، لمجابهة معاداة السامية أولاً، ثم كردِّ فعلٍ على الهولوكوست. وذلك من أجل دمج كلِّ يهوديٍّ في الهويّة الإسرائيليّة القوميّة، فقط على أساسِ كونِه يهوديّاً من الناحية العِرقيّة. علاوةً على ذلك، استُحدِثت هذه الهويّة الإسرائيليّة – اليهوديّة العِرقيّة عن قصد بطريقة تجعلها تبدو صورةً طبقَ الأصل عن التصوّر المعادي للساميّة – ثمّ العنصريّ النازيّ – عن اليهود، والذي هدف إلى إقصاء جميع اليهود من أي هويّة قوميّة. بيد أن ضلوعَ النازيّين في هذا الإقصاء، باعتباره خطوةً أولى نحو الإبادة الكاملة لليهود، جعلَ حاجتَهم إلى خلق هويّة يهوديّة معاكِسة ومعارِضة مسألةَ حياةٍ أو موت. في لحظةٍ ما، كانت هذه الهويّة اليهوديّة، بالضرورة، هي النقيض التام لهوية اليهوديّ الذي خلَقَ النازيّون شخصيّته، وفي الوقت نفسه مطابقة لها: “النقيض التامّ” لأنّها فتحت الباب الذي أغلقه النازيّون؛ و”مطابقة لها”، لأنّها قامت على الأساس ذاته، وهو العِرق.
اليهودي يهودي
من الناحية النظريّة، ظهر هذا النهج العنصريّ نتيجة التقارب الصريح بين الهويّة باعتبارها توصيفاً أساسيّاً لشخص ما أو مجموعة، وبين ما يُسمَّى بصيغة المُطابَقة: A = A. ولذا أصبحت عبارةُ “اليهوديّ يهوديّ” – بمعنى أنّ الأشياء لا تتغيّر، وستظلّ دائماً على ما هي عليه – متطابقةً تماماً مع صيغة A = A، ولذا يُمكن أن يستبدل المرء المتغيّر A بكلمة “يهوديّ”. ومن وجهة نظر عنصريّة، ترمز كلمة “يهوديّ” بمفردها إلى الهُويّة اليهوديّة بأكملها. علاوةً على ذلك، لا حاجة إلى أكثر من كلمة واحدة، إذ إنّ كلمة “يهوديّ” واضحة تماماً ومُطلَقة في الوقت نفسه: نظراً لنجاح تلك الكلمة في شمول الجوهر الكليّ للشخص الذي تُميِّزه. ومن خلال تجاهل الاختلافات بين ملايين اليهود، نجحت الصيغة العنصريّة في تحويلهم جميعاً إلى شيءٍ لا يوصف بأنّه غير إنسانيّ وحسب، بل حتى أقل من شيء أصلاً. فقد تلخّص تعريف جميع اليهود في مجرّد كلمة “يهوديّ”، وهو عنصرٌ مجرَّدٌ في صيغة رياضية، حيث يَتطابَق كلُّ عنصر تماماً مع الآخر. وهذا هو تحديداً المبدأ الذي يقوم على أساسه التعريف العنصريّ؛ إذ تصير الفوارقُ غير مهمة، لدرجة أنها تصبح ببساطة غير موجودة؛ ولا يَبقى سوى التداخل المطلَق بين الهويّة التي تمثّل جوهر فكرة أنّ “اليهودي يهودي” من ناحية، وبين صيغة المُطابَقة “اليهودي = اليهودي” من ناحية أخرى. باختصار، جميع اليهود متطابقون في ما يتعلق بجوهرهم. وكان الأثر العمليّ النهائيّ لهذا المفهوم هو الإبادة.
كما أشرنا آنِفاً، لم تستطِع الصهيونيّة اجتنابَ تبنّي التقاطع ذاته تحديداً بين تعريفَي الهُويّة؛ في محاولةٍ للحفاظ على حيَوات الناس في المجموعة التي كانت مستهدَفةً بالقتل. غيرَ أن المبرر الأخلاقي لهذا التداخل، لا ينفي الإشكاليات الناجمة عنه؛ أي خطر أن تتحوّل التصوّرات العنصريّة إلى تمييز عنصريّ. لَطالَما كان هذا الخطر قائماً وسيظلّ؛ لا لمجرّد حقيقة أنّ الهُويّة القائمة على العِرق يجب أن تتضمَّن بطبيعتها هذا السم، إنما تنبع خطورةُ تعريف الهوية على أساس تقاطع الهوية – كتمثيل لجوهر الإنسان وصيغة الهوية – من فرضية ذات حدّين: فمن جهة، كل مَن هو في “الداخل” بالكامل ينتمي إلى تلك الهوية، وكل مَن ليس في “الداخل” تماماً لا ينتمي إليها. لا يحوّل تحديدُ الهويّة الإسرائيلية – اليهودية جميعَ اليهود إلى كتلة واحدة، جميع مكوّناتها متطابقة تماماً فحسب؛ بل إنّ هذا التحديد يحوّل كل مَن ليس إسرائيلياً – يهوديّاً، مثل فلسطينيي إسرائيل، إلى كتلةٍ واحدة جميع جسيماتها متطابقة تماماً.
هنا أيضاً يستطيع المرء أن يجد توازياً واضحاً بين الهويّة الإسرائيليّة-اليهوديّة، والهويّة الألمانيّة؛ لا في ما يتعلّق بانحطاط كليَهما إلى نوع من الفاشيّة فحسب، بل أيضاً في ما يتّصل بأصل هذا الانحطاط ودوافعه. كان يوهان غوتليب فيخته أحدَ أهم صنّاع الهوية القومية الألمانية؛ وفي كتابه “علم المعرفة” The Science of Knowledge، (الصادر عام 1794) عرّف هوية الإنسان على أساسٍ مزدوج: “أنا” و”لا-أنا” (الغير). إلا أن فيخته رأى – وكان دقيقاً في هذا للأسف – أنّنا نعرّف أنفسنا على أساس ما يراه كل منّا أنّه هو “أنا” الخاصة به أو بها (أناه أو أناها)، أي على أساس ما يميّز المرء على مستوى الجوهر، وأيضاً على أساس ما نتصوّر أنّه بالأصل لا أنا، أي ما هو غريب عنّ كينونة الإنسان. هذا التصور له آثار بعيدة المدى في ما يتعلّق بأولئك الذين ينتمون إلى مجموعة “لا أنا”؛ لأنّ كلّ مَن لا ينتمي إلى الفئة التي ينتمي المرءُ إليها يصبح عمّا قريب خطراً وجودياً على هوية ذلك الإنسان.
كان لفيخته، الذي رأى أنّ دورَه في التاريخ مطابقٌ لدور المسيح، أثرٌ هائل على تطوّر الفلسفة الألمانيّة والقوميّة الألمانيّة أيضاً. وكان لتلك المقارنة التي عقدَها بين فلسفته الخاصة والأناجيل الأربعة، جمهورٌ عريض لاقاها بقبولٍ واسع. ليس في القرن التاسع عشر فحسب، إذ أشار مارتن هايدغر مراراً وتكراراً إلى فيخته في محاضرته الافتتاحيّة عند تنصيبه مديراً لجامعة فرايبورغ، وهو المنصب الذي اختير له لعضويّته في الحزب النازي في نظام الفوهرر المحبوب لديه. وقد ركّز أيضاً مراراً وتكراراً على مفاهيم مثل “الأزمة” و”الأمة” و”القيادة”؛ وهي ذاتُها التي شدد عليها فيخته في نصّه القوميّ “خطابات إلى الأمة الألمانية”.
يشير الحديث أعلاه بوضوح إلى أنّ انحطاط الهويّة الألمانيّة إلى حركة نازيّة لم يكن مصادفة ولا خطأ. لقد كانت البذور مطمورةً هنالك منذ البداية، وبإمكان المرء أن يتبيّنها بالفعل في المراحل الاستهلاليّة لتشكيل الهويّة الألمانيّة. في ضوء التشابهات الأساسيّة بين الهويتين الألمانية والإسرائيلية-اليهوديّة، على مدار مراحل تكوينهما وبنائهما المختلفة، يمكننا أن نستنتج أنّ إسرائيل تنزلق في المنحدَر ذاته الذي يقود –إلى الأسباب ذاتها تحديداً – إلى هاوية العنصريّة والفاشيّة ذاتها.
قد يكون من الخطأ تصوّر أنّ هذا الانحطاط شر ضروري أو محتوم. إنّ هذا الانحطاط ما هو إلا مجرد إمكانية واحدة – وإنْ كانت محوريّة – من إمكانات الهويّة في سياقٍ قومي؛ وهو أمرٌ لم تقضِ به السماء ولا هو في الشرعَة الإلهيّة. إنّه محض خيار، وينبغي أن يتغيّر. غير أن كيفية تغييرِه متروكةٌ لمقالة أخرى.
هذا المقال مترجَم عن Haaretz.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي.